الزعيم عبدالكريم قاسم يفتتح مشروع قناة الجيش
مشروع قناة الجيش و إنشاء مدينة الثورة
كانت مؤسسة دوكسيادس قد وضعت تخطيطا لمدينة بغداد، يتضمن مواقع المشاريع السكنية، فضلا عن مقترحات اخرى، منها استحداث قناة مائية في شرق مدينة بغداد بعرض 20 مترا، تنقل المياه من نهر دجلة شمال مدينة بغداد (صدر القناة) حتى نهر ديالى في جنوب المدينة، وعلى جانبي هذه القناة شريط اخضر، مع طريق رئيس للمرور على جانبي القناة، لتسهيل الانتقال من جنوب المدينة الى شمالها بسهولة.
أعلنا عن المناقصة لهذ المشروع في سنة 1961، وتقدم عدد من الشركات الكبيرة، كان المقاول الاول غير عراقي وقدم اقل مبلغ، والثاني شركة عراقية لها خبرة جيدة، الا ان سعرها يزيد على الاول بنحو 15 بالمئة. وبعد ان تأكدت من توفر جميع المكائن اللازمة والأمكانية المناسبة للمقاول العراقي، قدمت تقرير الاحالة مقترحا مفاتحة الشركة العراقية لتخفيض أسعارها واحالة العمل اليها، وأناطة مسؤولية الاشراف الى أمانة العاصمة كونها الجهة المستفيدة من المشروع. وبعد تقديم التقرير الى مجلس الاعمار، طلب مني ضباط لجنة انشاء الدور السكنية للضباط في بغداد، وهي لجنة مكونة من ثلاثة ضباط برتبة زعيم ان احضر الى مقر وزارة الدفاع ظهر ذلك اليوم، مع تقرير المشروع وخرائطه لبحث الامر. ولا اعلم، لماذا لم يطلب من وزير الاسكان او المدير العام للإسكان ذلك؟
حضرتُ الى مقر وزارة الدفاع، وهو مقر عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء ووزير الدفاع، فضلا عن كونه رئيس مجلس الاعمار. وبعد انتظار زهاء الساعة، استدعيتُ للدخول الى صالة الاجتماع، وهي الصالة التي يستقبل فيها قاسم ضيوفه او مسؤولي الدولة. كان الزعيم قاسم يجلس متوسطا الطاولة الكبيرة، وبعد ان قُدمت اليه من قبل اللجنة المذكورة، حياني بلطف، وطلب الي الجلوس الى جانبه. وفي الجانب الآخر او على يساره جلس الاستاذ محمد حديد وزير المالية،وهو موضع اعتماد الزعيم وثقته، وحول المائدة جلس عدد من كبار الضباط.
طلب الزعيم قاسم مني ان اشرح له مشروع قناة الجيش وشرح تقرير الاحالة. فتحت الخرائط وبدأت بالحديث عن المشروع واهميته، وملاحظاتنا حول المناقصين المتقدمين واسعارهم وخبراتهم. وذكرت ان مقترحنا هو احالة المشروع الى المقاول الثاني، لكونه عراقي، وعدم تحويل العملة الصعبة، وتشجيع المقاولين العراقيين، اضافة الى ان الفرق بالأسعار هو قليل. وعندما استفسرنا من المقاول عن سبب ارتفاع سعره، بين ان عدم استقرار سوق العمالة، وعدم امكانية تجاهل طلب العمال لزيادة اجورهم، كان السبب في ارتفاع سعر مناقصته.
سألني الزعيم عبد الكريم قاسم: وما هو رأيك؟ وكم تقدر ان ينقصّ المقاول من اسعاره ليكون مؤهلا لإحالة العمل اليه؟.
اجبت: ان تم تخفيض السعر المقدم بنسبة عشرة بالمئة، فانا اعتقد ان ذلك مقبول،لكون العمل يحتاج وضع تصاميم تفصيلية للمشروع ايضا.
فسألني: وماذا عن الجسور فوق القناة؟.
اجبت: ان ذلك سيأتي في مناقصة لاحقة.
اعترض قاسم على ذلك، وقال: ماذا يحدث لو تأخر انشاء الجسور واراد الجيش ان ينسحب من بغداد لأي سبب؟.
لم يكن عندي جواب سوى قولي: علينا اذن ان نعلن عن مناقصة الجسور فورا. اجابني: كلا.. اطلب من المقاول الاول ان يصمم ويشيد الجسور.. وضغط على زر الجرس المعلق فوق المائدة، وطلب من المرافق احضار المقاول او من يمثله، واضاف ان طعام الغداء (الكباب من ساحة الميدان) سنتناوله معا لحين حضور المقاول.
والتفتَ الى الاستاذ محمد حديد وتحدث حول امكانية السيطرة على اجور العمال، وتأثير ذلك على المشاريع. اجاب حديد بأنه متفائل بان ذلك لا يحدث بالشكل الذي تصوره الآخرون.
ثم حضر الكباب المشوي والطرشي والخبز العراقي، وأكلنا حتى الاكتفاء، ثم شربنا الشاي العراقي الجيد. واستمر الحديث حول مشاريع الاسكان، لاسيما اسكان الضباط، وكانت أحاديث طبيعية وخالية من التكلف والرسميات، استمرت زهاء الساعتين، وبعدها جاء المرافق وقال:
سيدي حضر ممثل المقاول، ثم أدخل الصالة، وهو لا يعلم سبب احضاره،فبدت عليه علامات الارتباك والقلق. طلب منه الزعيم ان يستريح أمامه من الجانب الاخر للمائدة. وقد لاحظ الزعيم ارتباك السيد جميل، فقال له:
لا تقلق نحن هنا للتحدث معك حول مشروع قناة الجيش، فقال له انه اقتيد من قبل بعض العسكريين، وكأنه ملقى عليه القبض، ويرجو امهاله قليلا ليسترد انفاسه ويستريح.
شرح الزعيم سبب لقائه هذا، وطلب من ممثل المقاول تخفيض أسعار المناقصة المقدمة، بعد ان طمأنه بعدم حدوث زيادة في أجور العمال، فتم الاتفاق على تخفيض السعر بنسبة 10 بالمئة، وأبلغ ممثل المقاول بان المشروع سيُحال الى شركته. وفي الختام اتخذ القرار وانصرفنا بعد الاستئذان. واصبح المشروع من اعمال امانة العاصمة.
أنشاء مدينة الثورة في شرق بغداد
قرر الزعيم عبد الكريم قاسم في أوائل سنة (1961) اخراج جميع سكان الصرائف الى خارج مدينة بغداد، وأخلاءهم من الاراضي الخالية التي شيدوا عليها صرائفهم واكواخهم، في مناطق مختلفة من بغداد، مثل الشاكرية في الجانب الغربي، وخلف السدة ومحلات بغداد وغيرها في الجانب الشرقي. وطلب قاسم انشاء دور خاصة لهم، وبعد انجاز الوثائق من قبل قسم التصاميم واحاله العمل تمت المباشرة بإنشاء (1000) وحدة سكنية في شرق بغداد مع خدماتها، وزعت على المستحقين من تلك العوائل، واطلق اسم مدينة الثورة على ذلك المشروع. ولما كان عدد تلك الدور غير كافٍ، فقد تقرر اعتماد تخطيط القطع السكنية كأراٍض وتوزيعها على المستحقين، وهم يشيدون دورهم، بعد قيامنا بإنشاء شبكة الخدمات كاملة والأبنية الخدمية لتلك التجمعات السكنية الجديدة. غير ان هذه العملية توسعت، وبدأت الهجرة من الارياف جنوب العراق تزداد، بلا تنظيم او تحديد، الى ان بلغ عدد نفوس مدينة الثورة زهاء مليون نسمة.
صحيحٌ، ان اعمال مشاريع الاسكان من الاعمال غير المعقدة مقارنة مع المشاريع الكبرى التي كانت تنفذ في انحاء العراق، الا ان الخبرات الهندسية التي تعلمناها من تلك المشاريع، بعد الغاء مؤسسة دوكسيارس، كانت كثيرة.. ان قضية السكن في أي بلد، من اهم القضايا واخطرها، قد تُفضل المشاريع الاسكانية على المشاريع الاخرى وتتقدم على سواها. وكثيرا ما تدخل الجانب السياسي والتنافسي في الموضوع. لقد استطعنا ان نحقق الاهداف والمهام مع المهندسين الذين تم تعيينهم وتدريبهم، وأنيطت بهم المسؤوليات من تنفيذ ومراقبة وغيرها. استطعنا ان نُنشىء نحوعشرين الف وحدة سكنية مع كامل الابنية الخدمية وشبكات الخدمة اللازمة لها خلال السنوات من 1959 ولغاية 1964. ولم يزل الناس يلهجون بإحسان لما قدمناه في تلك الفترة من مشاريع صغيرة او كبيرة، بقيت عالقة في الذاكرة العراقية على مر السنين.
هشام المدفعي/ مهندس استشاري
المدى/عن مذكرات الاستاذ المدفعي ( نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار)
3112 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع