قشلة بغداد مقر الولاة التي شهدت تتويج أول ملوك العراق.. وساعتها ترصد الزمن الراهن

  

الشرق الأوسط/بغداد: أفراح شوقي: لم تزل روائح وشواخص الزمن الجميل تجتذب زوارها، وتحتفل بوجودها وألقها رغم مرور مئات السنين، وهي تقص لهم بغير رواة ملامح مهمة من حياة بغداد القديمة، أيام عصرها الذهبي، ورحلة ولاتها وأسواقها القديمة منذ العصر العباسي ومرورا بالعهد العثماني، ويقف في مقدمتها سوق السراي ومبنى القشلة أو السراي الحكومي مقر الحكم العثماني والذي شهد تتويج أول ملوك العراق فيصل الأول عام 1921.

وسوق السراي يعد من أقدم أسواق بغداد، حيث تم بناؤه في عهد الخليفة العباسي المستنصر بالله الذي بنى المدرسة المستنصرية التي يعد السوق امتدادا لها، والذي كان يعرف قبل نحو خمسة قرون، بسوق (الجبقجية) أي أصحاب مهنة صناعة آلة التدخين وأصحاب الحرف والمهن الجلدية.

            

السوق أخذ تسميته (السراي) كونه يصل العابرين من الجانب الغربي لنهر دجلة على الجسر القديم الوحيد الذي يربط ضفتيها الرصافة بالكرخ. للوصول إلى (سراي) الولاية العثمانية في عهدها الأخير.

وما يميز ذلك السوق ملاصقته لمنطقة القشلة التي كانت مقرا للحكومة العثمانية في ستينات القرن الماضي، وموقعه المميز بالقرب من شارع الرشيد ونهاية شارع المتنبي أحد أهم شواخصها الحاضرة حتى اللحظة، عبر اتصاله بدوائر الحكومة، وتفرده ببيع الكتب العلمية والأدبية وتجارة القرطاسية.

يقول الحاج منعم الأفندي، 76 عاماً وأحد أقدم العاملين هناك: «يتميز السوق بتكدس المحلات على جانبي هذا السوق، وهو سوق ضيق وصغير، لا يتعدى طوله 300 متر ولا يزيد عرض ممر المشاة فيه على 3 أمتار، كانت تسميته مقترنة بوظيفته الجغرافية ولم يكن حتى ذاك الوقت قد امتلك شخصية سوق المكتبات والوراقين، بل كان معنيا بالخدمات المرتبطة بأعمال الموظفين والمراجعين لدوائر الحكومة، إضافة إلى كونه الشريان الذي يربط الحياة الاجتماعية الهادئة لأهل بغداد بدوامة دوائر الدولة والوظائف والسلطة والسياسة».

ويضيف: «يلاصق سوق السراي (الذي يعد الوريث الشرعي لسوق الوارقين)، من جهة النهر بناية المدرسة الإعدادية العسكرية في العهد العثماني التي شغلت فيما بعد من قبل المحاكم المدنية، ومن أشهر الأكلات التي اشتهر بها السوق وأخذت اسمه منها هي (كبة السراي) التي تعتبر من ألذ الأكلات العراقية وأشهرها».

ومن أهم الأسواق المحاذية لسوق السراي والتي اكتسبت شهرتها كذلك سوق السراجين المختص بمشغولات جلدية يدوية، إضافة إلى خان لتجار مواد الأحذية ومخازن تعود لبعض أصحاب الحوانيت، وفيه مدخل لسوق الصاغة يسمى سوق (الشاهبندر) وكان معظم شاغليه من اليهود.

ويتصل سوق السراي ببناية القشلة، فهو يربط بين العصر العباسي والعهد العثماني، وتقع منطقة القشلة، أو مقر الولاة، التي شيدها الوالي مدحت باشا عام 1869م لاتخاذها معسكرا للجيش والدوائر التابعة له، وهي ذاتها البناية الجديدة التي شغلها الحكم الوطني عام 1921م ويضم لها أبنية مجاورة ومتقاربة.. مثل دار الملك فيصل الأول (قصر الثقافة والفنون حاليا) ومجلس الوزراء. ووزارة الدفاع وتوابعها التي شملت التجنيد ونادي الضباط والسجن المركزي ومستشفى المجيدية (الجمهورية لاحقا).

لبناية القشلة مدخلان الأول يتوسط واجهة المبنى المطلة على شارع السراي وهو عبارة عن مدخل قليل العمق يتوجه عقد نصف دائري على غرار عقود النوافذ القائمة على جانبي المدخل وقد ازدانت الواجهة بحشوات مستطيلة الشكل تقوم بداخلها زخارف آجّرية أضفت على المبنى مسحة من الجمال وفي نهاية واجهة المدخل تقوم واجهة مقوسة على غرار واجهة المعبد الروماني في الحضر ومن الصور القديمة للمبنى والمحفوظة في أرشيف قسم الدراسات في دائرة الآثار والتراث نرى واجهة المبنى المطلة على النهر تزدان بشرفة مسننة وهذه الشرفة لا أثر لها في الوقت الحاضر.

أما المدخل الآخر فهو يتوسط الضلع الجنوبي ويتكون كل باب من مصراعين من الحديد المزدان بمسامير حديدية موزعة بانتظام وهذا النوع من الأبواب الضخمة كان شائعا بشكل واسع في بناء مداخل المباني المدنية والعسكرية منها القلاع والخانات التي بنيت في العراق خلال الحكم العثماني.

   

تقول المصادر البحثية المختصة إن مبنى القشلة له أكثر من وظيفة، اختلفت بحسب التغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدها العراق، ففي البداية وإبان الحكم العثماني كان عبارة عن ثكنة وسراي كبير على ضفاف دجلة في جانب الرصافة ليكون مقرا له ولجنده فبوشر بالبناء في بداية سنوات ولايته الأولى على نحو شبيه بالأبنية العثمانية التي كانت سائدة في تلك المرحلة، وصار فيما بعد أعجوبة لأهالي بغداد من حيث العمارة والفخامة، وقد تم توسيعه وزيادته بطابق ثان في عهد الوالي العثماني مدحت باشا وأضاف إليه برجا عاليا في وسط الساحة وتوجها بساعة كبيرة تساهم دقاتها بإيقاظ الجنود وهذا يعني أن المبنى كان ثكنة عسكرية للجنود العثمانيين واتخذ المبنى بعد الاحتلال الإنجليزي للعراق عام 1917 مسكنا للضباط الإنجليز وعائلاتهم. ولفخامة بناية القشلة في ذلك الوقت فقد شهدت حدثا مهما في حياة العراق وتاريخه ذلك هو مراسيم تتويج الملك فيصل الأول ملكا على العراق عام 1921 وتحولت قاعاتها وأروقتها إلى مقرات للحكومات العراقية المتعاقبة والوزارات وكذلك شهدت القشلة أيضا بداية تأسيس وزارة المعارف (التربية الآن) التي بدأت بمديرية عامة للمعارف وكذلك تأسيس المتحف العراقي الذي اتخذ من إحدى قاعاته مقرا له عام 1923.

ولم يأت اختيار بناية القشلة من قبل ولاة بغداد العثمانيين من فراغ بل إن حسن الموقع وبهاءه كونه يطل على ضفاف نهر دجلة حيث كان يوفر الأجواء التي تقلل من معاناة قيظ بغداد اللاهب وتذكر الولاة وكبار مستشاريهم وموظفيهم بتلك البيئة الباردة التي قدموا منها، كما أنها تأتي لتجاور عدداً من الأبنية التاريخية المهمة في بغداد ومنها القصر العباسي ودار الوالي وقبة السراي والمدرسة المستنصرية وجامع الوزير.

وتولت مؤخراً محافظة بغداد، تطوير وتأهيل منطقة القشلة وساعتها التاريخية بعد سنوات على إغلاقها لتكون صرحا تقام فيه النشاطات التي يتضمنها مهرجان بغداد عاصمة الثقافة العربية للعام 2013.

يقول صلاح عبد الرزاق محافظ بغداد خلال حفل افتتاحها: «إن ساعة القشلة أول ساعة في بغداد، وكذلك هي أصغر بعشر سنوات من عمر ساعة بيغ بن اللندنية الشهيرة والمنصوبة في برج مجلس العموم البريطاني». ويضيف: «شملت الترميمات بناية القشلة والساعة ونصب بوابة حديدية مشابهة لنصب قصر باكنغهام في لندن، إلى جانب نصب 12 مدفعا قديما بجوار النهر قدمتها وزارة السياحة العراقية، كي تكون متنفساً للبغداديين ومركزا حضاريا وثقافيا ومرفقا سياحيا يؤمه الزوار والسياح».

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1053 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع