استاذ من المريخ
في ثمانينات القرن المنصرم كنت طالبا في قسم الصناعات الغذائية بكلية الزراعة الواقعة في منطقة ابوغريب احد كليات جامعة بغداد العريقة والعتيدة وكان من ضمن المنهاج الدراسي لطلبة الصف الثالث مادة تكنولوجيا الحبوب التي تتكلم بشكل واسع عن جميع انواع الحبوب الزيتية وغير الزيتية وكان الاستاذ العلامة الدكتور محمد عبد السعيدي رحمة الله هو من يقوم بتدريس هذه المادة المقررة حيث طبعت الكتب المنهجية لهذه المادة الدراسية بتأليف وإشراف الدكتورمحمد وكان رحمة الله عالم من علماء هذه الدنيا واحد ابرز المؤلفين للكثير من الكتب العراقية والأجنبية والعالمية التي تدرّس في جامعات امريكا وأوربا الغربية بأكملها وكان الدكتور محمد السعيدي غزير العلم ومتمكن بشكل ملفت للنظر حتى يجعلك تنسى نفسك وعقلك وروحك وأنت جالس في محاضرته,وفي احدى الايام كانت المحاضرة التي يلقيها الدكتور محمد عن المطاحن و صوامع الحبوب وكيفية الحذر اشد الحذر من امكانية حدوث انفجار هائل وعنيف داخل هذه المطاحن في حال وجود شرارة كهربائية بسيطة والتي من الممكن ان تودي الى احداث دمار هائل في البنى التحتية لهذه المطاحن والصوامع بوجود غبار الطحين فلم نصدق ما كان يتحدث به الدكتور حتى قام باصطحابنا الى احد قاعات عرض الافلام العلمية في الكلية المذكورة حيث قام احد الفنيين بعرض فلم علمي قد انتج في ستينات القرن المنصرم بجامعة اريزونا الامريكية يبين فيه كيفية حدوث انفجار كبير داخل الصوامع والمطاحن فكانت المفاجئة الكبرى عندما شاهدنا استاذنا الدكتور محمد علي السعيدي وهو يظهر في هذه الافلام العلمية مرتديا ملابس العمل ويترأس مجموعة من الباحثين الامريكان الذين كانوا بحدود عشرون باحثا وعالما امريكيا وكان هذا الفلم الذي ضل في ذاكرتي بكل تفاصيله قد اثار فضولي ودهشتي بشكل كبير ذلك لان الدكتور محمد كان يقود الباحثين الامريكان في كل لقطات الفلم الذي مدته خمسة وعشرون دقيقة ولم يظهر احد من هؤلاء الامريكان يتحدث او يعمل او يقود بل المتحدث والقائد للمجموعة البحثية على طول الفلم هو الدكتور محمد السعيدي فأيقنت ان هذا الاستاذ والعالم والباحث الذي درسني كأنه استاذ من المريخ لغزارة علمه وشدة تواضعه فهنيئا لكل طاب علم كان تحت عباءة الدكتور محمد عبد السعيدي رحمة الله .
وفي وقتنا الحاضر فقد حدثني الاستاذ الدكتور مازن حد التدريسيين بقسم الصناعات الغذائية في كلية الزراعة العراقية ( ابو غريب ) أنه سافر سنة 2006 الى مدينة حلب السورية من اجل الاطلاع ومشاهدة هذه المدينة العظيمة بتراثها المثير والمتنوع والهائل حيث تعتبر مدينة حلب اكبر المدن السورية على الاطلاق و اقدم مدينة في التاريخ منذ ان عرف العالم معنى المدنية , وقد نالت مدينة حلب اسم عاصمة الثقافة العربية لعدة مرات , ولو كان بيدي لجعلتها عاصمة الثقافة والفنون والعلوم على مر التاريخ للعالم اجمع الى ان يرث الله الارض ومن عليها.وفي اثناء زيارة استاذنا المتخصص وتمتعه بأجواء حلب الرائعة وأسواقها العامرة وطبيعتها الساحرة قرر مع نفسه زيارة جامعة حلب الكبرى التي تعد من المؤسسات العلمية الرائدة ومن الجامعات العربية العريقة حيث يدرس في هذه الجامعة اكثر من 103120 طالب حسب تقديرات العام الدراسي 2011- 2012 وحوالي 3737 طالب دراسات عليا .هذا ومن الجدير بالذكر فان جامعة حلب ترتبط ببرامج تعاون علمي مع العديد من المؤسسات الأكاديمية في الولايات المتحدة و الأرجنتين والبرازيل والسويد و الدنمارك ,والصين ,فنزويلا, أستراليا, اليابان, الهند, ماليزيا, وبريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول .فكانت وجهته الى قسم الصناعات الغذائية في الجامعة المذكورة لعله يجد زملائه المتخصصين لكنه وجد نفسه امام غرفة رئيس قسم الصناعات الغذائية فلم يتردد في السلام والتعرف على رئيس القسم المذكور . دخل الاستاذ العراقي غرفة رئيس القسم وعرف نفسه امام الحاضرين قائلا ... انا العراقي الدكتور مازن من جامعة بغداد احد اساتذة علوم التغذية فاتجهت انظار الجالسين الذين كان عددهم ثمانية صوب استاذنا العراقي فقاموا باستضافته استضافت الابطال الفاتحين وتكريمه تكريم الانبياء المرسلين فتجمع جميع اساتذة القسم المذكور واخذوا يناقشون الدكتور في الامورالعلمية والتخصصية ويستفسرون منه عن الكثير والكثير... حتى طرق الباب احد الموظفين المحترمين قائلا .. اين ضيفنا الدكتور العراقي ...فقلت له تفضل ... فقال لي ان رئيس جامعة حلب بانتظارك و يود التعرف بك فهل تكرمت معي للذهاب اليه لأنه بانتظرك في مكتبه الان .. فعرفت من رئيس القسم انه اتصل شخصيا برئيس الجامعة ليخبره بالموضوع بان استاذا عراقيا قد زارنا الان فما كان من رئيس الجامعة إلا بإبلاغ رئيس القسم بضرورة زيارة الاستاذ العراقي لرئاسة جامعة حلب .... شكرت الاساتذة و الاستاذات من كانوا معي على حفاوة اللقاء متمنيا لقائهم في ظروف احسن حتى استقلينا سيارة كانت قد اعدت لتقلنا عبر حدائق و ممرات وشوارع هذه الجامعة الغناء .
تقدمت الى سكرتير رئيس الجامعة وعرفته بنفسي فكانت حفاوته بالغة وابتسامته واسعة وأدخلني فورا الى رئيس الجامعة الذي كان بانتظاري وأجلسني بجانيه وقد حياني بأجمل العبارات وارقها حتى جاءت القهوة العربية برائحتها المميزة وعبيرها الفواح لتطل بنا الى عراقة الاجداد ونبل الاخلاق فكان لقاءا مثيرا بيني وبين اساتذة و منتسبين هذه الجامعة العريقة فتقدم رئيس الجامعة الحلبية بطلب خجول قائلا ........يا سيادة الدكتور .... ان العراق بلد قوي وغني بالعلم والعلماء ... ولو يتكرم علينا الاستاذ العراقي بتزويدنا بالكتب العراقية العلمية التي تخص مجالكم المذكور فان جامعة حلب ستكون سعيدة ومن فيها بهذه الالتفاتة الكريمة .. فقلت يا سيادة رئيس الجامعة هذا الطلب بسيط ولكن كيف لي من ارسالها لكم ..فقال رئيس الجامعة... ما عليك يا دكتور فقط من ترك رقم هاتفكم الجوال ونحن بدورنا سوف نقوم بإرسال الشخص المناسب لهذه المهمة .. فقلت له ابشر يا دكتور فسوف اقوم بإرسال ما تودون الحصول عليه وطلبكم علي العين والرأس .. فاستبشر رئيس جامعة حلب ومن كان معه بجوابي وطاروا به فرحا .. وقال لي بالحرف الواحد انكم يا شعب وأساتذة العراق تمتلكون كتب علمية قيمة ورصينة مكتوبة بلغة علمية عميقة بسبب اتقانكم للغة العربية ومعرفتكم باللغات الأجنبية وسابقا والحق يقال فقد استفدنا كثيرا بكتبكم المنهجية في كافة العلوم التطبيقية والهندسية والطبية ونحن دائما وابدأ بحاجة الى كل جديد من كتبكم العراقية العلمية الرصينة .. فتركت رقم هاتفي الجوال وقمت بتوديع زملائي السوريين من اساتذة كلية الزراعة بجامعة حلب على امل العودة الى بغداد الحبيبة . وبعد رجوعي من سفرتي السياحية من بلدي الثاني سوريا ذهبت مباشرتا الى كليتي وكتبت مذكرة الى الاستاذ فاضل الصحاف اخبره فيها بنيتي لشراء اثنا عشر كتابا من الكتب المنهجية لقسم الصناعات الغذائية وإرسالها كهدية الى جامعة حلب فما كان من الاستاذ فاضل إلا بالتهميش على مذكرتي بان هذه الكتب هدية من كلية الزراعة العراقية الى جامعة حلب وإعفاء الدكتور مازن من دفع قيم هذه الكتب وفعلا قمت بوضعها في صندوق وكتبت عليها الى جامعة حلب – كلية الزراعة قسم الصناعات الغذائية . وما هي الا ايام حتى اتصل بي احد الشباب السوريين وجاءني الى بيتي وقد حملتّه الصندوق وأمانة السلام والذي قام بدوره وسلمني رسالة من رئاسة جامعة حلب تقول .. نحن رئاسة جامعة حلب نشكر ونبارك رئاسة جامعة بغداد وأساتذتها وعلى رأسهم الدكتور مازن على امل التواصل العلمي والمعرفي والحضاري بين الجامعتين العربيتين العريقتين .وبعد عدة سنوات عرفت ان جميع الكتب المنهجية التي تدرّس في قسم الصناعات الغذائية قد تحولت واستبدلت وكتبت على اساس الكتب المنهجية لقسم الصناعات الغذائية العراقية. وأخيرا وليس اخرا فاني اود القول الى كوكب الشرق السيدة ام كلثوم التي قالت في مقدمة اغنيتها الشهيرة بغداد يا قلعة الاسود... فاني اقول ...عراق يا قلعة الاسود .. عراق يا منارة العلم والعلماء .. عراق يا رمز الحضارة والفن والإبداع .. عراق يا مهبط الرسل والأولياء والأنبياء ... يا منارة العلم والعلماء .. يا منارة العلم والعلماء ..يا منارة العلم والعلماء .
770 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع