قصص واقعية من كتاب (عدالة السماء) للواء محمود شيت خطاب
إعداد / سعد هزاع عمر
ونطق القدر...
كان متنفذا في قرية من قرى شمال العراق، وكان يعيش برغد في قريته الجميلة الرابضة على سفح جبل عال تكلل هامته الثلوج صيفا وشتاء.
وكانت تلك القرية محاطة بالبساتين التي تمتد بعيدا إلى أميال وأميال وهي تؤتيأكلها مرتين وكانت العيون فيها كثيرة باردة الماء وحلوة المذاق غريزة الأمواه.
كانت تلك القرية جنة من جنات الله في أرضه: الثمر كثير، والماء غزير، والمناظر خلابة، والخضرة تشيع في كل مكان! وتزوجت (سعاد) ابن عمها، وكانت رائعة الجمال، وكان جمالها حديث القرية وحديث القرى المجاورة، وكانت تخطرفي ثوبها الأحمر غادية رائحة، فتنافس ورود القرية جمالاً، وتنافس أشجارها قداً واعتدالا.
وكان ذلك الرجل المتنفذ يراها رائحة إلى العين الكبيرة مع والداتها تحمل الماء على كتفها، ويراها غادية إلى دارها تحمل الماء العذب الزلال، وكان يراها عاملة في الحقل مع زوجها جانية للثمر، فيزداد حبه لها مع الأيام عمقا ورسوخاُ.
وراودها ذات يوم عن نفسها فاستعصمت، وهددها فصمدت ولكنها لم تذكر سرها لزوجها ولا لأهلها خوفا من الفضيحة وخشية سطـوة غـريمها الذي يحسب له أهل قريته ألف حساب.
وبيت الرجل في نفسه أمراً، وصمم على تنفيذه ...
كان زوجها يحصد زرعه أواخر أيام الربيع، وكان عمله قد استغرق عليه يومه كله، وكان زرعه قد بقي منه شطر قليل فتحامل على نفسه وحملها فوق ما تطيق، ودأب يحصد بعد حلول الظلام.
وكانت زوجه في الدار تهيئ له الطعام، وكان قد أرسلها إلى الدار مساء ليلحق بها بعـد قليل، وكانت معـه النهار كله تعـاونه في الحصاد، وتحمل ما يحصده إلى ساحة مجاورة لمزرعتـه فأشفق عليها بعـد تعـب طـويل، وأشفقت عليه بعد جهد جهيد.
وكانت تنتظـره متلهـفـة للقائـه، وكان يسرع في عمله متلهفا للقائها، وكان طعامها جاهزاً، فوقفت بالقرب من باب الـدار ترقب طـريق عـودته.
وكان الرجل العاشق يترصد زوجها وراء صخـرة عـاتية، فلما رآه وحيدا بعد ساعة من غـروب الشمس، صوب بندقيته وأطـلـق النار عليه فـارداه قتيلاً ... ثم تسلل إلى القـرية مستورا بظلام الليل البهيـم.
وطـال انتظار الـزوجـة، فقصدت أهـلـهـا وأخـبرتهـم بـإمـره، فـلما ذهب اخوتها إلى المزرعة، وجـدوه جثة هامدة وقـد نزف دمه فغاص في بركة من الدماء.
وكما كان يملأ الـدار انشراحا وفـرحـا حين كان حـيـا ً، فقد ملأها حزنا وترحا بعد أن أصبح ميتاً.
واتشحت أرملته بالسواد، وأصبحت أيامها أشد سواداً من ثيابها، ودأبت على التطلع إلى سير التحقيق عن مقتل زوجها.
وأهتم رجال الأمن بالحادث، واهتم المحققون بالحادث أيضاً، وتضخمت الملفٌات وكثر السؤال والجواب وأخيراً غُلقت القضية، بعد أن توجت تلك الملفات بالعبارة المألوفة:
((الجاني مجهول الهوية، ولم تعرف هويته على الرغم من التحقيق الدقيق)).
وهكذا نجحت العملية ... ومات المريض كما يقول بعض الأطباء !!
والحق أن هذه القضية بالذات، كانت قضية صعبة جداً: القتيل ليس له عدو، واهله لا يشتبه بأحـد، وحـادث القتل جـرى في جنح الظـلام والقاتل لم يترك أثراً لجريمته، والجثة اكتشفت بعـد ساعات من مـوتها ... ومكان حادث القـتـل بعيـد عن القـريـة...
وكان الناس يظنون أن القاتل نجا من العـقـاب إلى الأبـد، ولكن الله كان له بالمرصاد، ويقـدر الناس، ويقـدر الله، ويد الله فـوق أيديهـم.
بعـد شهور من مقـتـل زوجها، تنافس عليها المتنافسون يطلبون يـدهـا وكان من بين المتنافسين عليها ذلك الرجل المتنفذ في قريتها.
وبذل الرجل المتنفـذ جهداً من الجهد ومالاً من المال، وسعى سعياً حثيثاً بالحسنى تارة وبالتهديد أخرى، حتى استطاع التغـلب على خصومه، فزفت إليه حبيبته، وأصبح محسوداً عليها يتربص به حاسـدوه الدوائر.
ومضت الأعـوام ثقيلة الخطى على قلب الحسناء التي لم تنس ابن عمها زوجها الأول...
في يوم من الأيام. وعلى ثراء زوجـها الجديد، ونفـوذه، وما كان يغـدق عـليها من حبور عاية، كل ذلك لا ينسيها أيام ابن عمها بما فيها من آلم وآمال، وجهد ومشقة.
وكانت عـلاقتها بزوجها الجـديد عـلاقـة لباس وثريد، وكانت علاقتها بزوجـها الأول علاقة دم وروح، وكل مال الدنيا وكل ثرائها لا يساوي لمحة من علاقة الروح والـدم دقة بالـدم.
كان حباً من جهة واحدة مع الزوج الجديد، وكان حباً من جهتين مع زوجها الراحل، فكانت أيامها مع الجـديد أعـواماً، وكانت مع الأول لحـظـات ..!
وقصد الـزوج الجـديد صديقاً له في قرية مجاورة، وأصر الصديق على إكرام ضيفة، ومضت الساعات لإعداد الطعام، حتى إذا مٌدت الأطعمة وأقبل عليها الحاضرون، كان قـد مضى الشطـر الأول من الليل.
وعـاد الـزوج الى قـريته في الهزيع الأول من الليل، وفي طريق عودته بين منعطفات الـواديان وسفـوح الجبال، سـمع إطـلاق النار وسمع أصـوات اسـتغـاثـات وحشـرجـة محتضر.
وسُقـط في يـده، فسحـب مسدسه ليـدافع عـن نفسه وأطلق منه بضعة عيارات نارية، وركن إلى حفـرة وراء صخـرة ضخمة ينتظر انجلاء الغـمة وتوقف صوت الرصاص.
وأقبل الناس من القـرى المجـاورة ومعهم رجـال الامن والشرطة، فوجـدوا الرجل فوق جثة هـامـدة وثيابه ملطخـة بالـدمـاء ومسدسه بيـده.
وقـاده رجال الأمن متهما بالقتل والسلب، وكانت كل القرائن تدل على أنه هو القاتل: لا أحـد في المنطقة غـيره، وقـد وجـد في الحفـرة التي وجـد فيها المقتـول، وثـيابه ملطخـة بدمـاء القتيـل، والإطـلاقـات التي خرجت من مسدسه هي من نوع الإطلاقات التي استقرت في الجسد الهامد حسب تقرير الطبيب العدلي !!
ولـم يفده دفاعه أثناء محاكمته، بأنه كان عابر سبيل، وبانه لجأ إلى الحفرة خوفا من الـرصاص المنهمر عليه، وانه أطلق النار دفـاعاً عن نفسه وتخويفـا للآخرين، ومن الصدف أنه استقر في حفرة القتيل نفسها.
والعجيب في الأمر، أن تلك الحفرة التي لجأ اليها في هذا الحادث، كانت الحفرة نفسها التي كمن فيها لأغتيال الزوج الشهيد!!!
وانطلقت المحكمة الكبرى بالحكـم عليه بالإعـدام شنقا حتى المـوت، وصدقت محكمة التمييز هـذا القـرار، واستكملت الـدعـوى شكليتها الرتيبة بعد ذلك.
وجاء يوم تنفيذ حكم الإعدام به، وحضر، وحضر أهله وزوجه لتوديعه الوداع الأخير.
وسأل الرجل أن يخلتي بزوجته لحظة من الزمان، فاسر اليها بشيء وانهمرت من عينه الـدموع، على حين وقـفـت زوجـه جـامـدة كالتمثـال لا تتكلم ولا تنـوح...
جاء السجًـان ليطـلـب إلى أهـلـه وزوجـه مغـادرة السجن، فـتركوا الـرجل إلى مصيره
المحتوم.... ولم تتكلم الزوجة، وكان سكوتها أبلغ من كل كلام.
وحين جـاءوا بالرجـل إلى قريته بعد تنفيذ حكم الأعدام به ليوارى في التراب إلى الأبد، كانت زوجه هي الوحيـدة من بين لـم تتشح بالسواد حـداداً عـليه...
وعادت الـزوجـة إلى أهـلها ومعها أولادهـا، رافضة البقاء في دار أهله. رغم الإلحاح والإغـراء. ..
وجاء أبوه يوماً طالباً استعادة أولاد ابنه اليه، فلما ألح عليها وألحف همست في أذنه:
((إن ابنك هو قاتل زوجي الأول ...! لقد قال لي حين اختلى بي في زنزانته على مرأى منك ومن أهـله: أرجو عفوك، فقد قتلت زوجـك الأول من أجـلك لكي تكوني لي وحـدي، ولـم أقـتل الرجل الذي حُكمت من أجله بالموت، ولكن الله كان بالمرصاد، فـانتـقـم مني لـزوجـك بعـد حين.))
وسكت الوالد، وسكتت الزوج، ونطق القدر: ((بشر القاتل بالقتـل)) ...
982 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع