خزين ذاكرتي وطريف الحكايات - حكاية العـم صـوفي عـمر
بقلم لواء الشرطة الحقوقي
محي الدين محمد يونس
بتاريخ 1 تشرين الأول من عام 1989 قام الرئيس العراقي السابق (صدام حسين) بجولة في محافظة أربيل شملت مركزها والعديد من الأقضية والنواحي فيها وما يهمنا من هذه الجولة هو زيارته لناحية خليفان ولقائه بعدد من ساكنيها والحديث معهن عن أوضاعهم وأمورهم الحياتية وكان عدد من أقاربي من الذين التقى بهم في (منطقة زارگلي) ضمن حدود الناحية المذكورة وكانت ابنة خالي وهي تحمل توأميها (درون و دون) من ضمن الذين شملتهم المقابلة ولم تشملها المنحة المالية لادعائها بأنها من عائلة ميسورة الحال, كان زوجها (توفيق) وهو ابن خالتي يقف بالقرب منها وبمسافة تقدر بعشرة أمتار أثناء المقابلة وتردد في الاقتراب خوفاً
صورة ابنة خالي مع طفليها درون و دون والرئيس العراقي صدام حسين
من منعه من قبل حمايات الرئيس العراقي حيث استمر واقفاً في مكانه واضعاً يده في جيبه وهو يشاهد مقابلته للمواطنين ومنهم زوجته وطفليه وفي نفس الوقت دخل في تفكير وتأمل عميق مع نفسه وهو يخاطبها متسائلاً:
جولاته مستمرة في كل أنحاء العراق...
يختلط بكافة شرائح المجتمع العراقي...
ألا يخاف هذا الرجل على نفسه...
بكل سهولة يمكن القضاء عليه...
كَم هو شجاع...
صورة التوأمين دون و درون
وهو في خضم هذه الحالة وإذا بصوت أحد الحمايات وهو يصرخ: ((أوكَف محلك لا تتحرك)) تقدموا نحوه مسرعين وبعد إحكام السيطرة عليه وتفتيشه جيداً أمروه أن ينصرف ويبتعد عن المكان، تساؤلات قريبي (توفيق) مع نفسه أجبته عنها في حينه من أن هذه الجولات كانت تتم وفق أسس وضوابط محدودة من الناحية الشكلية والفنية الدقيقة أجملها من الملاحظات الأساسية التالية: -
أولاً: كانت تتم دراسة طبيعة المكان أو المنطقة التي من المقرر زيارتها من قبل الرئيس العراقي من كافة الجوانب من قبل لجنة خاصة لهذا الغرض.
ثانياً: الإعداد المتقن لقيادات وأفراد الحمايات المكلفين بالحماية في هكذا حالات من حيث الإعداد البدني والعقلي والنفسي وقدرة التصرف مع كافة الاحتمالات.
ثالثاً: جولات الرئيس العراقي معظمها كانت تتم بشكل مفاجئ إلى المناطق التي كان مقرراً زيارتها ومن المؤكد عدم تواجد من كان ينوي التعرض له في ذلك الوقت وعدم استعداده المادي والمعنوي حتى لو كان موجوداً مثل هذا الشخص أو الفئة في تلك المنطقة وفي ذلك الوقت بالذات وتقودني ذاكرتي إلى حدث له علاقة بما نحن فيه من حديث حيث في ثمانينات
توفيق حمد أمين والد التوأمين درون ودون
القرن الماضي وفي أحد الأيام هبطت طائرة الرئيس العراقي (صدام حسين) في قرية (دوله بكره) التابعة لـ (ناحية قوشتبه) والتي تبعد عن جنوب محافظة أربيل خمسة وعشرون كيلو متر حيث تجول فيها والتقى بساكنيها وشاءت الصدفة تواجد البيشمركَه الذائع الصيت (صلاح شينه) في نفس الوقت في نفس القرية.
ناحية خليفان ... منطقة زاركلي
رابعاً: حصر اللقاء مع الرئيس العراقي بالمواطنين المتواجدين في ذلك المكان بالذات وعدم السماح من قبل حماياته للمواطنين الآخرين بالقدوم والاقتراب منه.
خامساً: الإجراءات الاحترازية الدقيقة من قبل حماياته والتصرف الفعلي المقرون بالقوة ضد أي شخص يشك في موقفه أو منظره أو وضعه وهناك الكثير من الحوادث التي تسببت في قتل أو جرح الشخص الذي يكون في الوضع الذي أسلفنا ذكره من قبل حمايات الرئيس العراقي وتبين فيما بعد خطأهم في هذا التصرف والذي لا يسألون عليه لكونهم كانوا مصونين غير مسؤولين وتصرفهم الخاطئ هذا مرده حرصهم على حياة قائدهم الرئيس العراقي واخلاصهم له وكانت تتم معالجة الحالة بدفع تعويض للمصاب أو المقتول أو ذويه وتحضرني بهذه المناسبة قيام مدير شرطة محافظة صلاح الدين عقيد الشرطة (مجيد الهيتي) بمتابعة موكب سيارات الرئيس العراقي (صدام حسين) وهو يغادر مدينة تكريت عائداً إلى بغداد إظهاراً منه لحبه واخلاصه له مما حدى بأحد الحمايات إلى القيام برشق إحدى إطارات سيارته بصلية كلاشنكوف أدى إلى انفجار الإطار وخروج السيارة عن مسارها على الشارع العام إلى الأراضي الزراعية خارجه دون أن يصاب بأذى بسبب عدم امتثاله لإشاراتهم له في ترك متابعة الرتل.
عقيد الشرطة عبد المجيد الهيتي
ومن الجدير بالذكر من أن المسؤولين في العراق والذين جاؤوا بعد القضاء على نظام الرئيس العراقي (صدام حسين) من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2003 وبالرغم من ادعائهم كونهم يمثلون الجماهير وجاؤوا بتأييد منها عن طريق صناديق الاقتراع إلا أنهم فشلوا في هذا الجانب أي القيام بجولات وزيارات للمواطنين وحتى في المناطق التي يمثلونها دون الاعتماد على رتل كبير من سيارات الحمايات وحسب أهمية ودور المسؤول في الحكومة العراقية الحالية على عكس النظام الشمولي السابق والذي كان يحتكره رئيسه (صدام حسين) لنفسه...
كأني ماران بعد أن تحولت إلى منطقة سياحية
نعود لاستكمال وقائع زيارة الرئيس العراقي إلى ناحية خليفان فبعد انهاءه زيارته لها متوجهاً إلى قضاء سوران (راوندوز) وفي طريقه إليها مروراً بمضيق كَلي علي بيكَ توقف موكبه عند وصوله إلى عين ماء (كاني ماران) وبالذات أمام دكان أو بالأحرى بسطة المرحوم (عمر عزيز محمود) واسمه الدارج (صوفي عمر) كان يبيع فيه بعض الحاجيات البسيطة (السكاير, العلك, الكيك, البسكت...إلخ) وكان أمام البسطة صخرة كبيرة اختارها الرئيس العراقي (صدام حسين) ليجلس عليها ويحادث الرجل المرحوم صاحب البسطة الطاعن في السن حيث كان من مواليد عام 1927 وتوفي في عام 1997.
صورة المرحوم عمر عزيز محمود
استفسر منه عن أحواله وأموره ومشاكله وعند اجابته نسي كل المشاكل العامة والخاصة في تلك اللحظة وتذكر مشكلة كانت تسبب له الإيذاء والقلق وعدم الارتياح ألا وهي مرور السيارات أمام بسطته في الشارع العام وتطاير المياه من تحت عجلاتها وخاصة عندما تكون مسرعة في مرورها وتصيبه بالبلل وتصيب حاجياته بالضرر عندما خاطبه قائلاً دون تكلف وببساطة: ((سيدي آني يگول هوب هوب هوه ما يسوي هوب!)) كلمات المذكور جعلت الرئيس العراقي يستغرق في ضحكته المتميزة وبشكل متواصل ثم يأمر ببناء دكان صغير له ومنحه مبلغ من المال.
بعد هذه الزيارة وبناء الدكان للعم المرحوم (صوفي عمر) كان يرفض قبول جلوس أي شخص فوق الصخرة التي سبق للرئيس العراقي (صدام حسين) الجلوس عليها ومهما كانت مكانته ومنزلته وكثيراً ما كان يدخل في شجار أو مشادة كلامية مع من يخالف تعليماته هذه والذي كان حريصاً على تطبيقها وعدم استثناء أي شخص منها لغاية شهر آذار من عام 1991 عندما هبت جماهير محافظة أربيل المشاركة في الانتفاضة الشعبية ضد نظام حكم الرئيس العراقي (صدام حسين) والتي بدأت من مدينة حاج عمران في أقصى شمال المحافظة لتشمل جميع الحدود الإدارية لها بالتدريج مشبهين ذلك بلعبة الدومينو وخلال يومين فقط وكانت من نتائج ذلك ترك جميع الضباط ومنتسبي الجيش العراقي والدوائر الأمنية لوحداتهم ومقراتهم سيراً على الأقدام تاركين جميع ما تحتويه هذه المقرات من أسلحة مختلفة وآليات وأجهزة للجماهير المنتفضة والتي اعتبرت دكان العم (صوفي عمر) لا يقل أهمية من تلك المقرات حيث تم طرده منها وإزالته وإزالة آثاره والذي لم يبقى منه شيء سوى هذا المقال والذي من خلاله أبينا تثبيت قصته وقصة صاحبه العم المرحوم (صوفي عمر) قبل أن يطويه النسيان مع الأحداث المنسية الأخرى.
صورة المكان الذي كان المرحوم صوفي عمر يتخذه دكانا
لقد أطلت الحديث معكم أعزائي قراء مقالتي هذه والتي أرجو أن تكون قد نالت إعجابكم وحققت الاستفادة المرجوة منها من خلال الحديث عن حكاية من ماضينا القريب تراوحت أحداثها الزمنية لساعات قليلة... وفقنا الله جلت قدرته وإياكم وإلى حكاية أخرى.
2408 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع