كيف اتهم الوالي الشهير بالسرقة؟

     


    كيف اتهم الوالي الشهير بالسرقة؟

  

اشترك في حرب القفقاس، ثم ارسل الى العراق، وهو انذاك الزعيم خليل بك، على رأس حملة عسكرية وصلت الموصل في اواخر شباط 1915 وحاربت القوات الروسية في اورمية وديلمان، ثم انسحبت الى ولاية وان في ايار من السنة نفسها.

وفي اواخر تلك السنة نقل الى ساحة الكوت قائداً للفيلق الثامن عشر بامرة قوات العراق الزعيم نور الدين بك.

                

ورفع الى رتبة " مير لوا " وعين والياً لبغداد وقائداً لجيش العراق في 12 كانون الثاني 1916.
عقدت عليه الامال وهنأه الشاعر عبد الرحمن ابراهيم المصري قائلاً:
يا قائــداً جيش العراق، لك الثنـا
والحمد والشكران والاطراء
بـك لا بغيرك تستـرد بـلادنــا
وبسيف عزمك تمحق الاعداء
تولى خليل باشا قيادة الجبهة العراقية، وكان الجيش البريطاني قد تقدم من الجنوب واحتل الكوت في 28 ايلول 1915 بعد معركة السن التي دحر فيها الجيش التركي واسر منه 1650 رجلاً.

    

وزحفت القوات البريطانية في تشرين الثاني حتى بلغت سلمان باك، لكن الجيش التركي صد هجماتها وكبدها خسائر جسيمة. واضطر القائد الانكليزي الجنرال شارلس تاونسند ان يرتد بقواته الانكليزية الهندية الى الكوت فبلغها في 3 كانون الاول وتحصن بها. وطوقتها القوات التركية وشددت الحصار عليها، ودارت الحرب سجالاً بين الفريقين حولها. لكن نفاد المؤن ارغم الجنرال تاونسند على الاستسلام بعد ان فقد الامل في الخلاص، وحمل اسيراً مع 9250 رجلاً من الانكليز والهنود في 29 نيسان 1916.

      

وكانت المحاولات التي بذلها الانكليز لاستردادها في الاسابيع السالفة قد كلفتهم فقدان 24 الف رجل. وقد عرضت الحكومة البريطانية سراً على خليل باشا مبلغ مليون باون استرليني ذهباً لفك الحصار عن الكوت فابى. قال في ذلك ستيفن لونغريغ في كتابه " العراق1900 – 1950 " ماترجمته:" وقد لجأ الى محاولة يائسة ومنافية للياقة في سبيل شراء سلامة الحامية بالنقد من القائد التركي، لكنها قوبلت بالرفض.

                    

فقد اوفد (توماس ادورد) لورنس واوبري هربرت الى العراق للقيام بالمحاولة التي لم تحظ بقبول كوكس (السر برسي كوكس رئيس الضباط السياسين " …
لكن مجرى الحرب تغير في اواخر السنة بعد تعزيز القوات البريطانية وتعيين الجنرال السر ستانلي مود قائداً عاماً. وكان خليل باشا قد جاء الى بغداد في 11 ايار 1916 قادماً من ميدان الحرب في زورق بخاري مسلح وتولى مقاليد الولاية.

          

وعرف لدى الاهلين بالميل الى العبث واللهو، وقد شق شارعاً رئيسياً في بغداد سمي " جادة خليل باشا "، ثم اطلق عليه بعد ذلك اسم شارع الرشيد.
غادر خليل باشا مدينة بغداد قبيل سقوطها في ايدي الجيش البريطاني في 11 اذار 1917 وظل يقود الجيش التركي المنسحب الى الشمال. وكان اللواء علي احسان باشا نائباً له في ساحة الموصل، ثم خلفه في القيادة، فقام بتسليم المدينة بعد الهدنة في 8 تشرين الثاني 1918.
نقل خليل باشا في تموز 1918 الى ساحة القفقاس برتبة فريق وعين قائداً لجحفل الجيوش الشرقية. وفتح باكو في ايلول 1918. وعند اعلان الهدنة اعتقل في باطوم، لكنه هرب في اوائل 1919 وعاد الى استانبول. واعيد اعتقاله بتهمة تقتيل الارمن، واستطاع الفرار في اب 1919 الى الاناضول.

             

وكلفه مصطفى كمال باشا (اتاتورك) بالحصول على اسلحة ومساعدات مالية من البلشفيك، فمضى الى روسية ووصل الى موسكو في ايار 1920، وحصل على بعض المساعدات.
ثم قام بجولات في روسية وطرابزون تأييداً لمساعي انور باشا في إنشاء مجالس شعبية في الاناضول منافسة للحركة الكمالية. وقد طرده الكماليون من طرابزون سنة 1922 ومضى الى برلين. ثم عاد الى استانبول بعد انتصار الحركة الكمالية. واعتزل الخدمة برتبة فريق اول. وحين اعلن قانون القاب الاسر التركية سنة 1934 اتخذ لنفسه لقب (كوت) باسم المدينة العراقية التي استسلمت له خلال الحرب العامة، فاصبح يعرف باسم خليل كوت.
وعاش بعد ذلك في استانبول حتى قضى نحبه فيها في 21 آب 1957. وكان آخر ولاة الدولة العثمانية في عاصمة العباسيين اختتمت به صفحة تاريخية حافلة دامت نحواً من اربعمائة سنة.
كان لانتصار خليل باشا على الانكليز وردهم على أعقابهم وضرب الحصار على الكوت أثر بالغ في نفوس العراقين، فقال محمد رضا الشبيبي في قصيدته " يوم المدائن وتل السور ":
لـولا بلى طيسفــون، والبلى حـرم،
دكت كما دك من اركانه الطور
رواية النصــر صبـت بعدما اشتبهت
وحينما رجمت عنك الأخابير
لتذكــري بخليــل أو بفيلـقـــه
سعداً، وفيلق سعد فيك منصور
كل همــام وكــل ليـــث ملحمة
أزل دامية منه الأظافير
يوم أغـر من الإيــام منـبلـــج
وموقف في سبيل الله مأثور
لكن الفريق محمد أمين العمري ينتقد خليل باشا في المجلد الثاني من " تاريخ حرب العراق " (1935)، فيقول انه لم يتوخ هدفاً معيناً بعد اندحار جبهة الفلاحية وتراجعه نحو بغداد، ولم يعد خطة معينة، بل كان متردداً لم يهيئ مواضيع دفاعية متعاقبة وراء الجبهة خلال فترة السكون التي مضت في صيف
عام 1916 وخريفه. وقد تقاعس حتى عن درس الأراضي الصالحة للدفاع، ولم يعتقد بحراجة موقفه حتى عند اشتداد هجوم الجنرال مود في ‏كانون الثاني ‏1917. وكانت النتيجة المحتومة لذلك زحف القوات البريطانية واحتلالها بغداد.

                               

      محمود صبحي الدفتري يتحدث عن الوالي خليل باشا

حدثني المرحوم الاستاذ محمود صبحي الدفتري عن خليل باشا، قال انه تولى ولاية بغداد وقيادة ساحة العراق شاباً. وكان مرحاً متواضعا مرفوع الكلفة لطيف المعاشرة بخلاف سلفه نورالدين باشا القائد الوقور المتزمت.
قال الدفتري: كنت في استانبول حين عقدت الهدنة في أواخر سنة 1918 ودخل الحلفاء الى عاصمة الخلافة فاتحين. وعلى الأثر فر زعماء الحكم المخذول أنور باشا وجمال باشا وطلعت باشا، وقبض على الزعماء الآخرين كالامير محمد سعيد حليم باشا وزجوا في السجن، ثم أبعدوا الى مالطا. وذهبت الى السجن لازور صديقاً لي من الضباط المعتقلين، فلم اجده، وقيل لي انه نفي مع المنفيين، ولكنني وجدت في السجن خليل باشا، والي بغداد السابق، وكانت لي به معرفة فطفقت احادثه واساله عن حاله. وقد أخبرني انه قد اعتقل عند احتلال الآستانة، ولم يكن يشكو شيئاً في سجنه لان الموظفين والحراس من اعوانه فيخدمونه ويحترمونه. ولكنه علم ان في نية الحكومة الجديدة تقديمه الى المحاكمة بتهمة الاختلاس، وذلك ما يغيظه اشد الغيظ. فقد قال خليل باشا انه خسر موقعة خطيرة وضيع بغداد على الدولة،فهو يرحب بتقديمه الى المحكمة بتلك التهمة، اما ان يحقر بمحاسبته على سرقة ارزاق الجيش او أكياس طحين وعلف، فتلك اعظم اهانة يمكن ان تحيق به، فانه رفض الملايين التي لوح بها للاخلال بواجبه، وهو قد كان يتصرف في اكياس الذهب من المصاريف السرية فيمنحها لمن هبّ ودبّ، ولم يرض ان يأخذ لنفسه شيئاً منها. فكيف يقبل ان يكون هزأة للناس في محاكمة عن اختلاس موهوم؟. وقال انه اذا تحقق لديه مثل تلك الاشاعة فسيعلم كيف يفر من سجنه.
ولم تمض أيام قليلة على ذلك الحديث حتى شاع امر فرارخليل باشا من سجنه بتدبير من مدير السجن الذي آثر الفرار معه الى الاناضول.

                  

كلمة أخيرة في خليل باشا
حينما حوصر الجنرال تاونسند في الكوت كلف توماس ادورد لورنس (الذي اشتهر فيما بعد باسم لورنس بلاد العرب) بمهمة غريبة في حرب العراق. كان آنذاك برتبة كابتن في الجيش البريطاني في القاهرة، وعمره لايتجاوز الثامنة والعشرين، وقد أمر ان يتصل بالقائد التركي خليل باشا في اوائل سنة 1916 ويعرض عليه مبلغ مليون باون لاطلاق سراح القوات البريطانية المحاصرة. وكان التكليف صادراً من رئيس اركان الجيش الامبراطوري في لندن السر وليام روبرنسن، لكن السر برسي كوكس رئيس الضباط السياسيين في العراق رفض ان يشارك في هذا المشروع المشبوه.
كان عدد القوة البريطانية المحصورة في الكوت عشرة الاف رجل من البريطانين والهنود.

           


وصل الكابتن لورنس الى البصرة في آخر آذار 1916 وكان معه اوبري هربرت من دائرة استخبارات الجيش. اتصل الرجلان بخليل باشا وعرضا عليه مليون باون، ثم مليونين، فرفض الرشوة بسخرية واباء. ثم لم يلبث تاونسند ان استسلم بلا قيد ولا شرط بعد ان نفدت ذخيرته وطعامه وابتلي افراد جيشه بالملاريا والزحار. لكن لورنس وصاحبه عاودا الاتصال بخليل في 29 نيسان لترتيب تفاصيل الاستسلام، وحاولا البحث في مصير أهالي الكوت الذين رحبوا بالانكليز، غير ان القائد التركي ذكرهما ان الاستسلام كان بلا شرط. وقد اكتفى بعد ذلك باعدام تسعة أشخاص منهم اثنان من المختارين ومثلهما من الشيوخ.
كتب لورنس تقريراً عن مهمته الخائبة. ومدح خليل باشا فقال انه في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، قوي البنية نشيط الحركة. ولايظهر انه شديد الذكاء، لكن له ذاكرة قوية وفكر يقظ مع شخصية قوية وادب جم وشجاعة اشتهر بها. وكان مع خليل ضباط اركان عددهم 12 احدهم الماني حسب الظاهر.

* * *
كان خليل باشا جندياً تركياً محضاً لاهم له في الادارة وتدبير معيشة الأهلين وابناء الشعب، وكان ضباطه بعد احتلال بغداد وانتقاله بجيشه الى شمال العراق يصادرون الحبوب والمؤن لتموين القوة العسكرية غير مبالين بجوع الناس وتلفهم. وكانوا يهدمون المباني والكنائس ويستولون على أخشابها للتدفئة في موسم البرد الشديد.
وقد ذكر عبد العزيز القصاب في كتابه " من ذكرياتي " أنه مضى الى الموصل في أواخر سنة 1917 وتجول في ازقتها، فشاهد الفقراء والمهاجرين من ولاية وان وهم في حالة مزرية رجالاً ونساءً، منتشرين في الطرق والأسواق. ويختفي بعضهم تحت دكاكين البقالين والخبازين يتصيدون المشترين يهاجمونهم ويستولون على ما اشتروه من خبز او سمن. وشاهد ماموري البلدية معهم الحمالون يجمعون جثث الميتين جوعاً كما يجمعون الحطب والنفايات ويضعونها في سلالهم، وقد استحالت الى هياكل عظمية رقيقة.
وزار القائد العام خليل باشا، وكان له معرفة به في بغداد، فصار يحدثه عن الشدة التي يلاقيها الجيش من ندرة الذخيرة والغذاء. قال القائد ان الجيش، حين كان في بغداد، كان بامكانه عند الحاجة أكل التمر، اما هنا فلا يجد ما بقتات به. ولم يبد خليل باشا اقل اهتمام بحالة البلد والمجاعة القاتلة المنتشرة فيه.
مير بصري
عن كتاب (اعلام التركمان)

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

643 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع