طلبة كلية الشرطة من بينهم اللواء الدكتور أكرم المشهداني
الحياة حكايات ..... العميد محمد شريف حاجي بدري السندي
من مواليد عام 1915 في قضاء زاخو, اكمل الدراسة الابتدائية فيها والدراسة المتوسطة في الموصل والدراسة الاعدادية في العاصمة بغداد وفي ثلاثينيات القرن الماضي دخل الكلية العسكرية في دورتها المرقمة (14) وتخرج في عام 1938 برتبة ملازم ثاني وتدرج في الرتب والمناصب العسكرية وشارك ببسالة في مختلف المعارك والحروب التي كان الجيش العراقي طرفا فيها , منح اربعة انواط شجاعة في زمن العهد الملكي وواصل مسيرته في السلك العسكري الى ان وصل الى رتبة عميد ...
أحمد صالح العبدي
ومن الجدير بالذكر من انه عندما بدأت الثورة الكردية في 9 ايلول 1961 صدرت برقية من رئيس أركان الجيش العراقي ( أحمد صالح العيدي) موجهة الى قائد الفرقة الثانية تتضمن تعينه قائداً للقوات غير النظامية ( فرسان صلاح الدين) إلا أن تعينه هذا جوبه بالرفض من قبله مما اغضب رئيس أركان الجيش وتم نقله من آمر موقع أربيل إلى إمرة الادارة في بغداد ومن ثم تم نقله الى الديوانية مديراً للتجنيد فيها , وبعد انقلاب 8 شباط 1963 تم تعينه قائداً للفرقة الأولى في الديوانية ووافاه الأجل في عام 2002 .
وهو ينتسب الى قبيلة السندي والتي تقطن غرب وشمال قضاء زاخو التابع لمحافظة دهوك وامتدادهم في ولاية شرناخ التابعة للجمهورية التركية , وكان لهذه القبيلة إمارة تسمى إمارة سنديان في الفترة قبل ظهور الدين الاسلامي وما بعده .
العميد محمد شريف السندي
دخلت هذه القبيلة في الاسلام في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما بعث جيشاً بقيادة الصحابي معاذ بن غنم رضي الله عنه واستطاع عن طريق الحوار والنقاش والتبشير الديني أن يحول دينهم من المسيحية واليهودية الى الاسلام ...
لقد انجبت هذه القبيلة فقهاء في العلم والشريعة ويذكر بأن الفقيه ابن الحاجب السندي كان من الفقهاء في اللغة العربية ومؤثرا في وضع قواعد اللغة العربية في عهد الخلافة العباسية وهنا وبعد ايجاز سيرة هذا الرجل تقودني ذاكرتي الى فرصة اللقاء به والمناسبة التي كانت سببا لهذا اللقاء وموقفه الوطني الذي جعلني احمل في قلبي ووجداني حبا واحتراما لهذه الشخصية الفذة في سمو الاخلاق والمكانة الاجتماعية .
نشأت في عائلة فقيرة وضمن منطقة فقيرة في العاصمة بغداد ( مدينة الثورة) وهذين الفقرين خلقا في نفسي الارادة والعزم والتصميم في الانصراف لمواصلة الدراسة لغرض الوصول ونيل الاهداف التي كنت أصبو للوصول الى تحقيقها بعد أخذي بنظر الاعتبار من أن نجاح الانسان في حياته منوط بعدة عوامل ذاتية وخارجية ( الانسان نفسه – تكوينه النفسي والعقلي , المحيط الاجتماعي , الارادة والعزم , فرص الحياة بشرط استغلالها )
كان حلمي أن أصبح ضابط شرطة , هذه المهنة التي استهوتني من خلال مشاهدتي للأفلام وقراءتي للقصص البوليسية ... تخرجت في عام 1966 من اعدادية النضال التي تقع في منطقة السنك وهنا أجد من الضروري أن أذكر بأنه وقبل عام وبينما كنت اتجول في ساحة الخلاني على بائعي الزهور وبذورها ومستلزماتها انتابتني فكرة زيارة مدرستي والتي قضيت فيها عامين من الدراسة في الصفين الرابع والخامس الأدبي حيث كانت الدراسة تنتهي في هذه المرحلة بإنتهائها كانت المشاهدة مخيبة للآمال والمفاجئة في هذا المنظر العشوائي الذي لا يتصوره العقل فالمسافة بين الشارع وباب المدرسة لا يتجاوز في كل الاحوال عن الخمسون مترا قطعتها بزمن يقارب العشرون دقيقة ... مئات البسطات والجنابر بالتعبير البغدادي لبائعي الادوات الاحتياطية والكمالية للسيارات في هذا الزقاق الضيق والاكثر غرابة في الموضوع أن هذا الاكتضاض بالمواد والأشخاص قد جعل الوصول الى باب المدرسة امرا في غاية الصعوبة ولفت انتباهي طلب مواطن من احد الباعة شراء جهاز تنبيه ( هورن) وبعد اتفاقهما على السعر استفسر المشتري فيما اذا كان صوته مرتفعا ... فما كان من البائع إلا ان يضغط على زر التشغيل ولمرات عديدة ليبرهن للمشتري بان الجهاز من نوعية جيدة وصوته مرتفع , تساءلت مع نفسي كيف يستطيع الطالب الجالس على مقاعد الدراسة في هذه المدرسة من فهم وإدراك ما يشرحه الاستاذ وهذه الضوضاء القاتلة المنبعثة من الآلات وأفواه الباعة للترويج لبضاعتهم .
ساحة الخلاني من هنا الطريق الى اعدادية النضال
كان معدلي (82 ) درجة وكانت هذه الدرجة بقياس الدرجات في ذلك الزمن وفي الفرع الادبي درجة نجاح جيدة تؤهل الطالب للقبول في أي كلية من كليات الفروع الانسانية , لا أطيل الكلام عليكم كان هدفي وكما ذكرت هو أن ادخل كلية الشرطة والتي كانت تقع في ساحة الطيران في شارع النضال بجانب كنيسة الأرمن , أكملت الاوراق والمستمسكات اللازمة للتقدم ومن ضمنها عدم المحكومية وشهادة الجنسية العراقية والأخيرة لاقيت ما لاقيت من اجل الحصول عليها من عذاب استمر شهرا واحدا حيث كانت هناك دائرة واحدة فقط تقع في منطقة البتاويين وهي الوحيدة في العراق تمنح شهادة الجنسية العراقية , لقد كان الازدحام على اشده للسبب المذكور بالإضافة الى كون الفترة المذكورة هي فترة التقديم الى الكليات والمعاهد , كنت احضر في الساعة الخامسة صباحاً واقف في الطابور الممتد لمسافات طويلة وعند الظهيرة وعندما كنت اقترب من نوافذ المراجعة تأتي موجات بشرية تقوم بالتدافع تعيدني الى نقطة الصفر وهكذا الحال ولنهاية الدوام في كل يوم ولمدة تقارب الشهر كل هذه المعاناة جعلتني اعتز بشهادة الجنسية العراقية لانها تذكرني بتلك الايام العصيبة وكلفة حصولي عليها.
كنيسة الأرمن في بغداد
كنت اراجع كلية الشرطة مع بقية الطلاب المتقدمين للقبول فيها لغرض متابعة اجراءات القبول , والتي استمرت لفترة طويلة فقدت خلالها الأمل بالقبول بسبب كثرة المتقدمين حيث بلغ عددنا ما يقارب 1320 متقدماً والعدد المقرر قبوله هو مائة طالب فقط , وعند مراجعتي كنت اشاهد الكثير من المتقدمين ومعهم واسطاتهم ( ضباط وموظفين كبار ورؤساء عشائر وتجار وأغنياء ) بالإضافة الى فقدان الأمل في القبول في الكليات الأخرى لانتهاء فترة التقديم إليها , وعلى كل حال كانت المفاجئة في أحد أيام الشهر العاشر من العام المذكور حين جمعنا النقيب ( عبد المحسن خليل) في ساحة الكلية ليخبرنا بصدور نظام كلية الشرطة الجديد رقم 1 لسنة 1966 وهو على غرار نظام كلية الشرطة المطبق في جمهورية مصر حيث مدة الدراسة فيها أربعة سنوات يحصل الطالب المتخرج فيها على شهادتي البكالوريوس في القانون وعلوم الشرطة وطلب من المتقدمين الذين تقل معدلاتهم عن (65) درجة سحب اضابيرهم والذين كانوا يشكلون العدد الأكبر من المتقدمين , إذ جرت العادة على قيام الطلاب من خريجي الدراسة الاعدادية ذوي الدرجات الواطئة التقديم الى الكلية العسكرية وكلية الشرطة والمعاهد وحيث لم تكن الكليات الاهلية متوفرة في العراق في تلك الفترة.
صورة كاتب المقال عند مباشرته الالتحاق في كلية الشرطة عام 1966
بعد سحب المتقدمين لأضابيرهم من الذين لا تتوافر فيهم الشروط الجديدة من حيث المعدل تقلص عدد المرشحين للقبول الى 470 مرشحاً وبعد نتائج الفحص الطبي أصبح العدد 390 مرشحاً , انتعشت آمالي في القبول وصدق حدسي عند مواجهتي لرئيس وأعضاء لجنة القبول عند توجيه رئيس اللجنة عدة اسئلة وكان السؤال الأخير (ابني أنت منين؟ ) أجبته: (( أني من قضاء زاخو)).
التفت رئيس اللجنة الى العضو الجالس على يمينه قائلاً :
((هم زين صار عندنا واحد من زاخو))..
حصلت عندي القناعة بأنني سأكون أحد الطلبة المقبولين , ولم تكن علاقتي بهذه المدينة إلا من خلال كون والدي أصلاً منها , ظهرت نتائج القبول وكان تسلسل قبولي (56) من اصل العدد الكلي للطلبة المقبولين والبالغ عددهم (100) طالب.
والآن نعود لاستكمال حديثنا عن المرحوم ( محمد شريف السندي ) والمناسبة التي كانت سبب معرفتي به والموقف الشهم الذي أبداه لي عندما راجعته في منزله في مدينة الضباط (زيونه) وبالمناسبة اعتذر للقراء الأعزاء خروجي عن صلب الموضوع والتطرق الى مواضيع اخرى وجدتها ذات صلة وكما يقول المثل العراقي ( حجي يجر حجي) , راجعته لأطلب منه أن يكون كفيلاً لي وهو إجراء من مستلزمات القبول في كلية الشرطة وقد تعذر علينا أنا و المرحوم والدي من ايجاد كفيل وحسب شروط الكفالة المقررة من قبل الكلية في أن يكون الشخص الكفيل ذو مقدرة مالية متميزة ...
راجعنا أحد أقرباء والدي الساكن معنا في نفس منطقتنا ( مدينة الثورة) وشرحنا له معاناتنا في ايجاد الكفيل , وكان الوقت ليلاً فاقترح علينا أن نقوم على الفور بزيارة المرحوم ( محمد شريف السندي) ونكلفه بالأمر وفعلاً نفذنا ما عزمنا عليه وانتقلنا الى مسكن مضيفنا الوقور , بعد تقديم متطلبات الضيافة طرح قريبنا عليه سبب حضورنا والتمس منه قائلاً: (( لقد جئناك نطلب عونك لنا فهذا( محي الدين ) ابن السيد محمد يونس وهو من مدينة زاخو قد قبل في كلية الشرطة إلا أن عدم تمكنهم من إيجاد كفيل يحول دون استكمال متطلبات القبول , فلا ندري هل ترضى في أن تصبح كفيلاً له أم لا ؟ ))
انتفض مضيفنا وهو بحالة عصبية قائلاً : (( ماذا تقول ؟ )) اصبت بالإحباط وخيبة الأمل ... إلا أنه استكمل حديثه (( كيف لا اقبل في أن أصبح كفيلاً له وهو من مدينتي زاخو وسيتخرج ويصبح ضابط شرطة )).
مدينة زاخو في كردستان العراق
وهنا أدار وجهه نحوي قائلاً: (( ابني ابارك لك قبولك في كلية الشرطة وأنا سعيد جداً وأرجو حضورك غداً في دائرة كاتب عدل الباب الشرقي في الساعة التاسعة صباحاً لأقوم بهذا الواجب )).
حضر في اليوم التالي في الموعد المحدد من قبله وأكمل لي مستند الكفالة بعد أن دفع رسومها من قبله وودعني والابتسامة تعلو شفتيه والدعاء لي بالتوفيق والنجاح , شكرناه ودعونا له بالصحة والسلامة وطول العمر.
واختم مقالي بمناشدة خالق الكون سبحانه وتعالى أن يغفر له ويشمله برحمته الواسعة وأن يكون مثواه الجنة مع الصالحين .
2938 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع