تقليد اقتناء السلاح أيام زمان

                                               


                               خالد القشطيني

حمل السلاح من الهوايات و التقاليد القديمة في كثير من بلدان الشرق الأوسط. يعتبرك الناس أنك تهينهم إذا دخلت عليهم بدون خنجرك في حزامك أو مسدسك على جانبك. لا يجدون فيه أي نية شريرة. وكذا كان الحال في العراق في أيام الخير قبل أن تغير كل شيء.

لاحظ كثير من الناس تعدد هواياتي واحترافاتي، كاتب و محامي و رسام و إذاعي و فنان مسرحي. و لكنني أشك في أن يعرف أي منهم، أنني كنت يوما من أحد الوكلاء النشطين لتجارة السلاح والمستوردين للمسدسات للعراق. حتى أنا نسيت دوري فيها. ولم أتذكره إلا بعد أن ضج العالم برمته بمسألة الإرهاب العالمي في هذه الأيام. ذكرتني بها بصورة خاصة الحادثة التي وقعت بها إحدى السيدات في مطار شيكاغو عندما وجدوا في شنطتها قلآمة أظافر معدنية لا يتجاوز حجمها ثلاثة سنتمترات. فاعتقلوها وحققوا معها عما تنوي أن تفعله بها في الطائرة، وما إذا كان لها أي أصحاب أو شركاء في الطائرة يعتزمون خطفها أو تفجيرها. أنا شخصيا اعتدت أن أحمل معي سكينة صغيرة لتقشير التفاح أو البرتقال أو فتح المعلبات. ويا ما وياما خسرت سكينتي الأنيقة هذه كلما هممت بركب طائرة وسألوني عما أحمل ورأوا هذه السكينة فصادروها. لا نستطيع في هذه الأيام حتى أن نحمل معنا قنينة شراب أو أي سائل، بل ولا حتى مفكا صغيرا لإصلاح الولاعة. من يدري، والله أعلم، يمكن يأتي يوم سيشتبهون بنا إذا حملنا معنا قطعة نقدية معدنية صغيرة، فلسا أو قرشا أو درهما.

أعادني كل ذلك إلى أيام الخمسينات، عندما جئت تلميذا إلى إنكلترا. حدثني أحد أصدقائي قبيل سفري وقال: "أخويه خالد لما ترجع أريدك تجيب لي من لندن ورور صغير، أفرج عليه الأولاد وأخوف زوجتي به. إشقد ما يكلفك أدفع لك ولا تخاف."

الورور هي الكلمة التي اقتبسها وعربها العراقيون من كلمة رفولفر الإنكليزية التي تعني المسدس. تذكرت طلب صديقي عند اقتراب عودتي للعراق. لم أستطع أن أجد في لندن المكان الذي يبيعون فيه الوراور. واضطررت إلى الاستفسار من أحد الشرطة. ولم يعرف هو أيضا أين يبيعونها. فالشرطة الإنكليزية لم تحمل أي مسدسات. وربما لم ير هذا الشرطي أي مسدس في حياته. ولكنه كان رجلا كريما وخدوما فضرب التلفون إلى المركز واستفسر فأعطوه العنوان. وكان مخزنا محترما في شارع بيكادلي أمام الأكادمية الملكية للفنون.

ذهبت إليه ودخلت وإذا به أشبه بمخزن بوتيك للموضة، مليء بالفاترينات والدواليب الزجاجية الأنيقة المثقلة بالمسدسات والبنادق والخناجر من سائر الأنواع والأحجام والماركات. أسرع صاحب المخزن ليرحب بي وانطلق يفرجني عليها ويستعرض لي عملها. ولكنني وجدتها فوق قدرتي. فاعتذرت عن الشراء. لم يكن معي ثلاثون باوند استرليني لمسدس رخيص ماركة وبلي مستعمل. استغربت من الكلمة "مستعمل" فسألته: "يعني صحيح مستعمل؟ قتلوا به أحدا من الناس؟" فضحك الرجل، و لكنه عرض علي أن أشتريه بالأقساط، طالما لم يكن عندي هذا المبلغ.

اعتذرت ثانية و خرجت وأنا محمل بهذه الخبرة الوجيزة التي ذاع خبرها بين العراقيين والطلبة العرب. بأنني رجل خبير بالمسدسات وأتعامل بالأسلحة. فأصبحوا يترددون علي لأصطحبهم إلى ذلك المخزن في بيكادلي، ليشتروا منه مسدسات يحملونها معهم إلى العراق ضمن أمتعتهم وهداياهم للصحب والإخوان. كنت أسألهم أحيانا عن الغرض من شراء المسدس. وكان جوابهم المعتاد هو: "والله شي حلو أفرج عليه الأولاد والأهل بالبيت!"

لم يكن أحد من هؤلاء الأصحاب يفكر بقتل أحد أو الدفاع عن حياته ضد أحد. كانت أيام خير وسلام. أقصى ما كانوا يفعلون بالمسدس هو أن يطلقوا منه طلقة طلقتين في حديقة البيت على هدف من الخشب أو الورق لمجرد سماع صوت ورور. فلم يكن أحد من أهل بغداد قد سمعوا في حياتهم إطلاقات رصاص أو دوي متفجرات. ولم أسمع من بين كل أولئك الذين اشتروا مسدسات من بيكادلي قد استعمل سلاحه في أي شيء. كلهم ماتوا بفراشهم بالمرض أو الكبر أو السكتة القلبية، أو الهم و الغم حسب اللي الله كاتبه.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1310 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع