حظ أمحيسـن !..الحلقة التاسعة

                                     


حظ أمحيسـن! مـسلـسل تلفزيوني بين الحقيقة والخيال من الحياة الأجتماعية في العراق في الحقبة الواقعة في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي


    


                  الحلقة /التاسعة

          
سـافرامحيسن الى(الشطرة),ووصلهاعند غروب الشمس, ثم عرج الى اقرب مقهى للأستراحة والتفتيش عن احد من اقاربه ليقضي تلك الليلة في ضيافته.

    

وضـع امحيسن أمتعته (عـفـشـه), جانباً وبدأ يتطلع بالوجوه, ولم يعثرعلى اي احد من معارفه, ثم جلس على كنفة في زاوية المقهى, وشعربالراحة ,..بالرغم من المتاعب التي واجهته في هذه الرحلة!

بدأ امحيسن بشرب الشـاي, وراح يستعرض رواد المقهى, ومـرًمن امامه شـاب برفقة زميله, فسـمع قول احدهم للثاني:
"شــســوي حظي مثل حظ امحيـسـن!"
حمد أمحيسن ربه, فقد صاراسـمه مَضـرباً للحظ الأكشـر, وفرح لوجود بعض الشـباب الرافض لظلم الفئة الحاكمة المسـتبدة, كما تذكر المآسي التي أجبرته على ترك قبيلته وأهله وحبيبته جميلة,..وها هو يدفع الثمن,..ولا يدري أين المفر,..فهوالآن كريشة في مهب الريح!
سـرح امحيسن طويلاً مع الذكريات,وتطلع بوجوه الزبائن المنتشرين في ارجاء هذا المقهى, وهم كالأصـنام,..لا يحدث بعضهم البعض الا همساَ,.. صامتون كصمت أبوالهول!,..أوسُـكارى وما هم بسكارى,.. هم في عالم لا يمُتَ بصلة لعالمهم,..لم يكترث أياً منهم بما يسمع او يرى خارج محيطهم القروي,.. ثم راح يصغي الى صوت أم كلثوم, وهي تردد كلمات عمرالخيام, وهو ينادي غفاة البشر, مثل هؤلاء البؤساء, فعسى ولعل,..او لعل وعسى أن يهبوا ليطالبوا بحقهم:

سمــعت صـوتا هاتــفا فى السحـــر نادى من الغــــيب غفاة البشر
هبوا املأوا كــأس المــــنى قبل أن تملأ كأس العـــمر كف القدر
لا تشـــغل الـــــبال بماضى الزمان ولا بـــــآت العيش قبل الأوان
واغنم من الحـــــاضـــر لــــــــذاته فلـــيس فى طبع الليالى الأمان
غد بظـــهر الغـــيب والــــيوم لــى وكم يخيب الظـن فى المقــــبل
ولســــــت بالغافـــل حـــــتى أرى جمال دنـــــــياى ولا أجتـــــلى
القـــلب قـــد أضناه عشق الجــمال والصدر قد ضاق بما لا يقــال
يـــــارب هل يرضـــيك هذا الظما والماء يــــــنساب أمامى زلال
أولى بهذا القـــلب أن يخفــــــــــق وفى ضـــرام الحب أن يحرق
ما أضيع الـــيوم الذى مـــر بــــى من غير أن أهوى وأن أعـشق
أفـــق خفـــيف الــظل هذا السـحر نادى دع الـــــــنوم وناغ الوتر
فــــما أطـــال الـنوم عـــــمرا ولا قصر فى الأعمار طول السهر
فـــــكم تــوالى اللــــيل بعد النهـار وطال بالأنــــــــجم هذا المدار
فامش الهـــوينا ان هـــــــذا الثرى من أعين ساحـــــرة الإحورار
لا توحش النــــفس بخوف الظنون واغنم من الحاضر أمن اليقين
فقد تســـاوى فى الثرى راحل غدا وماض من الوف الســـــــنين
أطفىء لظى القلب بشهد الرضاب فإنما الايـــــــام مثل السحاب
وعــــيشنا طيف خيال فنل حظك مــــــنه قبل فوت الشــــــباب
لبست ثوب العيش لم استشـــــــر وحــــــرت فيه بين شتى الفكر
وسوف انــــضو الثوب عنى ولم ادرك لمــــــاذا جئت اين المفر
يا من يحـــــــار الفهم فى قدرتك وتطلب النفس حمى طاعـــتك
اســــكرنى الإثـــــــــــــم ولكننى صـــحوت بالآمال فى رحمتك
ثم أخذته ُسُـنة من النوم,..لم يستطع مقاومتها,.. فنام تلك الليلة في المقهى, وتوجه سـراً قبل الفجرالى قبيلته في أطراف المدينة, وكانت فرحة أمه وأخوانه لا توصف,فأمتزجت الهلاهل(الزغاريد)بالدموع, وما أن هدأ الجميع, حتى راح أمحيسن يحدثهم عما أصابه, ولم يذكر روايته مع جميلة, وأستمع الى حديث أمه,..حيث حمدت ربها لعدم وجود أي صلة لهم مع تلك الفتاة التي سببت لوالدها وللقرية الكوارث!


    

كانت العشـائرالمحيطة بمدينة الشـطرة موالية لشـيخ جليل, له هيبة وجاه بين كافة الأهالي في الشطرة, حيث يعتبرونه الأب الروحي لهم, يدعى (الحاج خيون آل عبيد), فهو شيخ عشـيرة العبودة, من أكبر عشائر المنطقة,.. وفي العهد الملكي أنتخب نائباً في البرلمان, وبعد عدة سنوات,عين عضواً في مجلس الأعيان, وكان على صـلة وثيقة بالقصـرالملكي, ومعظم رؤسـاء الحكومة المتعاقبة في بغداد,..ولغاية ثورة الرابع عشـر من تموزسنة 1958م.!


    

خطرت ببال أمحيسن فكرة ألتماس المساعدة من الشيخ,وتذكركيف كان يذهب مع والده  الشيخ سـاجت الى قصره, بأطراف الشطرة,لذا تداول أمحيسن الموضوع مع أمه, وشجعته على ذلك , وفي صباح اليوم الثاني من وصوله , توجه نحوالقصر,..وسلم على الشيخ بتقبيل يده, فلم يسمح الشيخ لهذا الغريب,وسحب يده, ثم عَرَفَ أمحيسن نفسه للشيخ, فرحب به وقبله وأجلسه بجانبه,وراح يحدثه عن والده, ثم سأله الشيخ عن أحتياجاته, فشرح له الموضوع, وأمرالشيخ كاتبه بتنفيذ كل طلبات أمحيسن, وقدم الشيخ له مقدارمن المال, ولم يوافق أمحيسن,.. ألا أن الكاتب همس بأذن أمحيسن كلمات جعلته يتقبل الهدية, وقبل يد الشيخ, وودعه بكل أدب وأحترام.
  حرر كاتب الشيخ رسالة الى صديقه وزيرالداخلية,لمساعدة أمحيسن للحصول على شهادة عدم المحكومية, وتقديم طلب الى مديرية نفوس  القضاء لأستخراج بدل ضائع لدفترالنفوس.  
حقق أمحيسن غرضه, ولم تنقصه غير شهادة عدم المحكومية من مديرية الأمن العامة في بغداد,..وأن استخراجها يحتاج (لوسـاطه), ولذا قررالعودة الى بغداد, وفي صـباح اليوم التالي,توجه الى الطريق العام الذي يربط الشـطرة ببغداد, للسـفر بواسطة ســيارات النقل التي تسمى بـ (البَـس),المستخدمة في نقل المواشـي اوالأسـماك من القرى المحيطة بالشـطرة الى بغداد والمدن العراقية الكبرى فجركل يوم,..
وأثناء سيره تذكرأيام الصبا في القرية, وحياته بكنف والده الشيخ بعزودلال ,.وكيف كان يلتقي وحبيبته جميله عند توجههما للمدرسة , وراح يسأل فؤاده أين الهوى؟, فيجيب:كان صرحاً من حياتك فهوى!, ثم يسمع من الراديو (الترانزيستر),..أغنية لمطرب العراق ناظم الغزالي, فيشارك بالغناء,..متذكراً حبه الذي,أمسى خبراً, وأمتزجت دموعه مع الأغنية الموسومة بـ : ياراهب الدير!

 


لـمّا أنـاخوا .. قـبـيـل الصبح عيسَهـُمُ ,,,, وحمـلوها وســـارت بالهـوى الإبلُ
يا حــادي العيس عرِّج كي أودعــهم ,,,, يا حادي العيس في تـَرحالك الأجل
إنــي علـى العهد لـم أنـكر مـودتـهــم ,,,, يا ليت شِعري بطول البعد ما فعلوا
لــما علمت بــأن الـقوم قـد رحــلــوا ,,,, وراهـــب الديــر بالناقوس منشغلُ
يا راهـب الـدير بالإنـجـيل تخـبرني ,,,, عـن الـبـدور اللـواتي ها هنا نزلوا
شبكت عَشري على رأسي وقلت له ,,,, يا راهب الـدير هــل مرت بك الإبل؟
فـحـنّ لـي وشكــا وأنَّ لــي وبــكى ,,,, وقـال لي يا (أمحيسن) ضـاقت بك الحِيَـلُ
إن البدور اللواتي جـئت تــطــلـبـها ,,,, بالأمس كانوا هنا واليوم .. قد رحلوا
 
انتظرامحيسن فترة قصـيرة من الزمن, ولمح من على بُعد احدى السيارات القادمة, فأشارلسـائقها, فتوقف,..وبعد مسـاومة على السـعر وافق على الصـعود على سـطح السـيارة,..وما ان اخذ مكاناً له, حتى تحركت السـيارة, وسـرح مع احلام اليقظة, واجترارالآلام  الماضيه, ثم ابتسـم للمسـتقبل الذي بزغ في حياته,.. وعلى ما يبدو نام لفترة من الزمن,وشــعربزخة خفيفة من المطر, راح  ينهمر رويداً رويداً, كما  يقال : " اول الغـيـث قـطـر ثم يـنهمـر!"
لم يجد امحيسن ما يَقي به نفـســه من البًلل غيرالأســتلقاء في داخل تابوت فارغ لمحه بجانبه, يُسـتخدم لنقل المـوتى الى النجـف الأشرف من قرى المنطقة, يسـمى: (تابوت وقـف)!
وهكذا رفع امحيسن غطاء التابوت, واستلقى فيه, واعاد الغطاء الى وضـعه السـابق,.. ونام نوماً عميقاً, وكان يشـعرعند توقف السـيارة وصـعود القرويين على سـطحها,..وكان بعضهم يقرأ سـورة الفاتحة عند جلوسـه بقرب التابوت,..ولم يكترث لذلك, واخذ يسـترق السـمع لأحاديثهم,..ويرفع الغطاء قليلاً ويمِـد يده ليتعرف عن حالة الجو,.. وهل مازال المطر منهمراً,.. أم توقـف ؟!  
ولسوء حظ أمحيسن,.. مسـت يده كتف احد الجالسـين بقرب التابوت, فنهض مذعوراً وراح يصـرخ, الميت أحتيً,.. الميت أحتيَ,..اي: "الميت عادت له الحياة!",..  وهم بالقفزمن السـيارة,..فأزاح امحيسن غطاء التابوت, ونهض لكي يمســك به, ..فلاحظ رفاقه ذلك المشـهد, وشـاركوا في الصـياح: "الميت احتيً,..الميت احتيً,..الميت احتيً!"

                                   

توقفت السـيارة وهبط الركاب, وفروا مذعورين نحو المزارع, بما فيهم السـائق, فلعن امحيسن حظه الذي انتكـس مرة اخرى, بعدما تنفــس الصـعداء لبضعة ايام, ولم يسـتغرب,لأنه أمحيـسن !, وترجل من السـيارة حاملاً عفشه, لابساً عباءة احد الركاب الفارين ,.. وهو بحالة مزرية,..والركاب ينظرون له بخوف ودهشـة, ولما ابتعد عنهم بما فيه الكفاية, ليتجنب شـرهم ,..ووقف يلعًن حظه,.. وبعد فترة من الزمن اقتربت منه حافلة نقل (نصف قمارة), من آخرطراز,..واطل منها سـائقها وقال له : "هـلًه..بأبن العم !",.. أتفضل أصعود,..ففرح امحيسن وجلس بجنب السائق, و كان يرتجف كســعفة في مهب الريح, مما قد يصيبه من القرويين الفاريين!

   

كان السـائق,غريب الهندام (طلسـم),.. أشبه بممثل السيرك, وما ان تحركت السـيارة حتى سأل أمحيسن عن كافة جوانب حياته!, فيجيب  أمحيسن بكل صراحة, وبعد برهة وجيزة طلب منه بطاقته فسـلمها له ودسـها في صندوق امامه!
ارتاب امحيسن من تصـرفات السـائق, وزاد خوفه, وراح يقرأ الآيات القرآنية, ناظراً اليه بريبة,ومستسلماً للأمرالواقع, طالباً العون من الله,
 وفجأة أوقف السائق السـيارة, وترجل منها, وسـاربضعة خطوات
ثم اختفى !, نعم اختفى, كذوبان قطعة الملح النقي في الماء, كما يقال بالمثل : (فص ملح وذاب) !
تجمدت الدماء في عروق امحيسن, وصار يرتعـش من الرعب , ومن البرد, وحدس بالمصائب التي سـيواجهها!, ومن دون وعي غادر السيارة وراح يمشـط المنطقة بنظره,.. لعله يجدة مختبأً في حفرة او وراء تلة, فخاب امله!
 يتبع في الحلقة/ 10  لنتعرف عما سيحدث بعد ظهور السائق!
مع محبتي
للراغبين الأطلاع على الحلقة الثامنة:

http://www.algardenia.com/maqalat/8751-2014-02-07-10-11-36.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1227 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع