المسؤولية الأخلاقية في شحة مياه الأنهر العراقية
مقدمة
يفخر العراق بتاريخه العريق، فقد نشأت أولى الحضارات الإنسانية على ضفاف الرافدين، و ما قصة طوفان كلكامش، التي وقعت أحداثها قبل طوفان نوح التوراتي بأكثر من ألف سنة، لشاهد على غزارة مياه الرافدين العظيمين دجلة و الفرات التي أغرقت سهلي النهرين من الجنوب الى حدود نينوى في الشمال.
بدأت عملية إبادة المسطحات المائية العراقية منذ عقود طويلة بسبب تقليص دول المنبع حصة العراق من إيرادات دجلة و الفرات، في الوقت نفسه قام النظام السابق بتجفيف الأهوار في الجنوب للقضاء على عناصر المعارضة، فعلى سبيل المثال تم تدمير الأهوار في 1991 بعد تحويل مجرى الفرات من موقع الفضلية في شرق الناصرية الى مجرى المصب العام بشكل يسحب مياه هور الحمّار و يجففه. و بعد سقوط النظام جرت محاولات خجولة و لكن جادة لإحياء الأهوار و إعادة الحياة البيئية اليها بعد أن أصاب الدمار البيئي منطقة الأهوار الفريدة في نوعيتها و تكويناتها، فنفق الجاموس الداجن و عفت الطيور أعشاشها و ماتت الحيوانات المائية من الجفاف. أثر كل هذا سلبا على ساكني تلك المنطقة الذين هجروها طلبا لأدنى متطلبات العيش البشري...و ليس أرغدها.
وبمناسبة ذكر الأهوار يذكر إبن دريد (ت حوالي 300 هجرية) في "الجمهرة" في صفحة 381/3 (الهور بحيرة تفيض فيها مياه غياض، و آجام فتتسع، و يكثر ماؤوها و الجمع، أهوار).
تعريف
إن "المجرى المائي الدولي_International Watercourse" هو مجموعة شبكات المياه السطحية و الجوفية التي تنبع روافدها من منابع جغرافية – سياسية مختلفة و تتدفق نحو نقاط مستقْبِلة و مشتركة. و بسبب الخلافات السياسية و الإجتماعية بين الدول المتشاطئة سُنّتِ القوانين الدولية لتنظيم تقسيم المياه يصورة عادلة بين هذه الدول. و تعتبر إتفاقية هلسنكي في 1966 أهم إتفاقية تُعنى بهذا الخصوص بعد أن كَثُرت خلافات الدول المتشاطئة بسبب إختلاف ايديولوجيات الأنظمة الحاكمة و الأولويات الإقتصادية لكل دولة مؤثرة في هذا الأمر، و خاصة دول المنبع المنتفعة دائماً، و دول المصب المهضومة حقوقها قي معظم الأحيان.
ذكر الدكتور حسن الجنابي سفير العراق السابق لدى منظمات الأُمم المتحدة في روما في بحثٍ قيّم ٍ حول هذا الموضوع:"تمثل الإنجاز الرئيس لقواعد هلسنكي بالإبتعاد عن مفهوم السيادة المطلقة في إدارة الموارد المائية بإتجاه الإعتراف بالمسؤولية المشتركة للدول المتشاطئة، و قد قامت الأمم المتحدة بعدها بتطوير تلك القواعد لتشمل مسؤولية الدول في الحفاظ على نوعية المياه و ليس كميتها فقط، و طوّرت مبادئ إرتكز عليها فيما بعد القانون الدولي و أهمها:
حق دول المصب أو أسفل النهر (الذنائب) في تسلُّم إشعارٍ مسبَق عن مشاريع الموارد المائية.
1-الدخول في مفاوضات قبل البدء بالمشاريع.
2- الإعتراف بالمسؤولية المشتركة.
3-منع الأعمال التي تسبب أضراراً كبيرة.
4-الإعتراف بالسبق الزمني في إستخدام المياه.
5- الحق في استخدام المعقول و المنصف.
6-منع تلويث الموارد المائية.
8-تطوير وسائل حل المنازعات حول الموارد المائية، و غيرها..."
تجهيز المنابع للمياه
تأتي من تركيا 56 بالمائة من مياه دجلة و من إيران 12 بالمائة منها و أمّا 32 بالمائة الباقية فتأتي من داخل العراق. و تنبع 97 بالمائة من نهر الفرات من تركيا و سوريا.
بنت تركيا 22 سداً كبيراً على حوضي دجلة و الفرات بسعة خزنية تبلغ 100 مليار متر مكعب، أي ما يعادل ستة أضعاف معدّل التصريف السنوي لنهر الفرات على الحدود العراقية.
أمّا سوريا فقد أنشأت ثلاث سدود ، سد الطبقة، سد تشرين و سد البعث، على نهر الفرات بسعة خزنية تزيد على 13 مليار متر مكعب، أي ما يعادل 70 بالمائة من إيرادات العراق من نهر الفرات خلال 30 سنة الأخيرة.
تدل الدراسات أن معدل إيرادات العراق من نهر الفرات قلَّ بحوالي 10 مليار متر مكعب في السنة منذ عام 1976، أي بعد إنشاء السدود التركية و السورية على نهر الفرات.
وفي تحقيقه حول الموضوع يذكر د. حسن الجنابي :"في ضوء ما تقدم تتوقع وزارة الموارد المائية أن تتراجع معدلات إيرادات العراق السنوية من نهر الفرات من حوالي 28 مليار متر مكعب قبل إنشاء السدود الى حوالي 8.5 مليار متر مكعب، أمّا إيراداته من دجلة فستكون حوالي 9 مليار متر مكعب بدلاً من 19.5 مليار متر مكعب ما سيخلق عجزاً مائياً يقدّر بحوالي 19 مليار متر مكعب في العام 2015."
أمّا إيران، فقد قامت بتحويل مجاري الأنهار و الروافد الصغيرة و الكبيرة الي تنبع من أراضيها نحو العراق الى داخل أراضيها ثانية.
إذا انحدرنا من شمال العراق الى جنوبه على طول الحدود مع إيران نرى أن الروافد الإيرانية التي تورد محافظة السليمانية هي باني، فزلجة، سوتة، بناوة، كولة، رزاوة و الزاب الأسفل و سيروان، و الأخيرة هي التسمية الكردية للجزء الشمالي من نهر ديالى في شمال العراق، وفي محافظة ديالى نهر الوند الذي يمر عبر خانقين و نهر قردة توالذي يصب في نهر ديالى و كذلك نهر كنكير في قضاء مندلي. و أما في محافظة واسط فقد حوّلت إيران مجاري نهر كنجان جم في زرباطية و نهر جنكيلات. و كذلك خمسة أنهار في محافظتي ميسان و البصرة هي دويريج، الكرخة (الكرخا)، الطيب، شط الأعمى، و أكبرها نهر كارون الذي يغذي شط العرب بالمياه العذبة تفوق ما يصل اليه من دجلة و الفرات مجتمعين. و أنشأت إيران سداً كبيراً بسعة 8 مليار متر مكعب على نهر الكرخة الذي (كان) يغذي هور الحويزة بالمياه. و أنشأت كذلك سدوداً بسعة إجمالية بمقدار14 مليار متر مكعب على نهر الكارون الذي (كان) يغذي شط العرب قبل تحويل مجراه.
تداعيات الوضع المائي في العراق
قبل أكثر من عقدين من الزمن برزت فكرة بيع المياه من قبل تركيا الى الكويت عبر أنبوب نقل ضخم يمر من تركيا الى سوريا فالأردن و المملكة العربية السعودية و منها الى الكويت. كانت تركيا ترمي من المشروع مقايضة (مياهها) العذبة بالنفط الكويتي، على الرغم من مرور الخط الأستراتيجي العراقي للنفط عبر أراضيها، و على الرغم من تدفق النفط العراقي الى مصفى الزرقاء الأردني بسعر تفضيلي ، و لغاية الآن. أمّا سوريا، و بسبب الخلاف بين بعث العراق و بعث سوريا، كانت قد تحالفت مع إيران في أثناء الحرب بين الأخيرة و العراق. ثم مات المشروع في مهده ثم اندثر...
كما ذكرنا في أعلاه، بنت تركيا و أنشأت عدة سدودٍ على نهري دجلة و الفرات لإحياء مشاريعها الزراعية و توليد الطاقة الكهربائية من دون الأخذ بنظر الإعتبار حقوق دول المصب، سوريا و العراق. في الوقت نفسه تسببت تركيا مع سوريا في تلويث مياه النهرين بضخ مياه المبازل الزراعية فيهما، و مع شحة المياه المتدفقة إزدادت ملوحة النهرين و تسببت بأضرار إقتصادية و صحية و بيئية. و أمّا الأضرار الصناعية فستظهر على المدى القريب إذ أن مصافي النفط العراقية مقامة على ضفافِ الأنهار لتأخذ حاجتها من المياه لمتطلبات عمليات تصفية النفط و صناعة الغاز. فإن جفتِ الأنهار، أو حتى قلّ منسوب المياه فيها، أو إزدادت نسب الملوحة في المياه الصالحة و الداخلة في الصناعة النفطية، فستُنْهي هذه المصافي عملياتها مضطرة... ويستورد العراق ذو الأحتياطي النفطي الأكبر في العالم المنتجاتِ النفطيةَ من دول الجوار... و هذا ما يحصل بنسبة لا بأس بها الآن...
بعد الزيارة الأخيرة لرئيس وزراء تركيا السيد رجب طيب أردوغان العراق زادت تركيا (الصديقة) من كميات المياه المتدفقة في حوض نهر الفرات المار عبر سوريا (الشقيقة)...فأستولت الأخيرة على حصة العراق من الكرم التركي. و جاءت هذه المقايضة بعد أن طلب السيد أردوغان منح محافظة كركوك وضعاً مميزاً و تفضيلياً و كذلك زيادة الصادرات التركية الى العراق من خمسة مليارات دولار الى عشرين ملياراً في السنة.
خاتمة
بعد كل هذه المعطيات يظهر أن موسم المزايدات قد بدأ... و أن الحرب المعلنة على العراق ليست فقط العمليات الإرهابية التي ترعاها جهات معروفة، شقيقة و صديقة، و لا هي حرب الإحتلال الأجنبي لأرضه، فهذه كلها يراها الفرد العراقي بعينيه و يحسُّ بلوعتها من تداعيات الوضع المتردي اليومي التي تنهش جسده العليل أصلاً. بطبيعة الحال، هذه كلها، من إحتلال و إرهاب، مكتوب عليها الزوال و لن تبقى أبد الدهر. و أمّا حرب المياه غير المعلنة على العراق فهي حرب طويلة الأمد و نتائجها المستقبلية هي تغييرالبيئة العراقية و تصحُّر أراضيه الخصبة بتقليل الوارد المائي في الأنهر العراقية و بالنتيجة إذلال العراق شعباً و بلداً...
أظهرت إحدى الدراسات الحديثة أن نهري دجلة و الفرات سينضبان من المياه و يعم الجفاف مجرييهما بحلول سنة 2040 إذا استمرت الحرب المائية ضد العراق على هذه الوتيرة.
فهذه الحرب غير المُعلَنة هي حرب مصيرية تمسُّ الأمن القومي للعراق، و مع الأسف لم تتخذ الحكومات العراقية الحالية بعد الإحتلال مواقف صارمة تحفظ للعراق حقوقَهُ في المياه المتدفقة عبر أراضيه من دول المنبع، بعد أنْ أَلْهتْ سابقاً قوى الظلام العراق بحروب عبثية في إهدار المال الحلال و الدم الطاهر الزكي، ثم التخبط في المستنقع العراقي نتيجة الوضع المسخ الذي طفى على السطح بعد الإحتلال في صراع الأحزاب و الطوائف على تقسيم الكعكة...
أما دولة الإحتلال فيقع بعضٌ من المسؤولية الأخلاقية في قضية شحة المياه على عاتقها. ذكر السيد محمد أمين فارس، أحد كبار المفاوضين العراقييىن في هذه القضية، أن الحكومة العراقية طلبت من الحكومة الأمريكية و منظمة الأمم المتحدة التدخل في المفاوضات مع الجهات المعنية كطرف ثالث و لكنهما رفضتا على إعتبار أن القضية سياسية و يجب حلها مع الدول الثلاث المعنية فقط...!!! و هذا هراء...
إن دول المنبع، تركيا و إيران و سوريا، خرقت حقوق الإنسان العراقي و حقوق الأرض العراقية بتكالب مدروس و مخطط في الأروقة والدهاليز السياسية المظلمة لفرض الجديد من المقايضات و المزايدات على الجرح العراقي...
فوا عجبي، منذ تأسيس الدولة العراقية في عهد الأنتداب في 1921 ثم بعد الأستقلال في 1932 الى سقوطها المدوِّي في 2003، لم تجرؤ وريثة الدولة العثمانية و لا شاهنشاهية الأمبراطور آريامهر و لا (الشقيقة) في الشمال الغربي أن تتحدى العراق في حقِّهِ من مياه الرافدين. و لكن ... لو طاح الجمل كثرت سجاجينه...
آرا دمبكجيان
844 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع