علي السوداني
أمّا جوزيف الذي استوطن ثريّا مكتوبنا الليلة القائمة ، فهو الكائن اللطيف الحميم البديع جوزيف عبد الأحد ، معلّمي وصحبي لمادة اللغة الإنكليزية ، سنوات الدراسة في متوسطة القادسية ، من أعمال مدينة جميلة الناظرة من غربها صوب نُهير جميل تسميه الناس قناة الجيش ، في رصافة بغداد العباسية
للمعلّم جوزيف عشرون طريقة وطريقتان ، تجعلك تعشق اللغة الإنكليزية وتتذوقها فتنزل طعومها عليك وتخلد في ذاكرتك ، مثل طعم أول قبلة منتوفةٍ من خدّ بنت الجيران . وجهٌ نورانيّ وجسد رشيق أقرب الى القصر منه إلى الطول ، وشعرٌ أشيب ولفحة مميزة تحيط بالرقبة وتنزل نهايتاها فوق جانبي الصدر ، كمن يشيل على عنقه طفلَ أخير العمر . بشكله المحبوب هذا ، قام بتمثيل غير شخصية ودور في مسلسلات وتمثيليات منها " حكايات المدن الثلاث " و " رجال الظلّ " أمّا أنا ، تلميذه الشاطر ، فلقد حظيت منه برعاية وسقاية عظيمة ، إذّ علّمني فأبدع تعليمي ، حتى عرّشتُ فوق قائمة أحسن الدارسين . كنّا نلعب لعبة حلوة أيامها الطيبة ، اسمها المطاردة الشعرية ، وهذه تقتضي فريقين جيّدين من حفظة الشعر العموديّ تحديداً ، وساعة يبدأ التحدّي ، ستقرأ عليهم بيتاً شعرياً ينتهي عجزه بحرف العين مثلاً ، وهنا يتوجب على الفريق الآخر أن يجيبك ببيت شعر يبدأ بالعين . كانت لدى أستاذي الجميل ، رغبة قوية للمشاركة في هكذا فعل أدبيّ عزيز ، وحيث تأتيه المصادفة كي يكون حكماً ، سيكون بمقدوري أن أحس بنظراته العارفة ، وهو يكتشف بقوة المعرفة والقراءة ، أنني كنتُ لويتُ عنق الحرف الأخير وزوّرته تزويراً ، فيرفع المعلم النبيل يده الحميمة ، معترضاً وضاحكاً ومواسياً . في حفلة كانت مناسبتها هي فوز فريقي الذي أظنه الثاني أو الثالث متوسط ، فاجأ معلمي المدهش جوزيف ، التلاميذ والأساتذة ، وارتقى دكة مسرح مدرسيّ بسيط ، وبيمينه عودٌ رنّان ، وبعبّه رغبة عملاقة للغناء ، فصدح بواحدة فيروزية اسمها " على جسر اللوزية " فرددنا وراءه بخلطة من خجل ورغبة بكسر ضلع اليوم الحادّ . وعلى ذلك الرنين العجيب ، بمكنتي الآن استعادة صوت المعلم ، وأيضاً وجه مدير المدرسة وهو رجل عبوس حادّ ، إنْ زرع فوق خدّك الطريّ كفّهُ القوية ، لظلّتْ الواقعة تطاردك حتى ساعة وقوعك بين يديّ ربّك الكريم . معلّمي جوزيف الذي صار تالياً صديقي ، كان متيماً بالسينما ، وحيث تعرض سينما بابل بشارع السعدون البغداديّ المريح فلماً جديداً ، فأنني أقوم بإخبار استاذي بالأمر ، فيأتي أخير المساء ليجدني مشتولاً خلف عربانة الكرزات والسكائر خاصتي بباب السينما ، فيشتري منّي مائة غرام فستق عجم وقالب شوكولاتة ماركة بيت بنّية ، ومجموعة علك أبو السهم وبطعوم مختلفة ، منها بطعم الموز والنعناع والدارسين ، وعندما أشبك يميني على يساري وأرسمهما خلفي ، متجنباً أخذ سعر ما اشترى معلّمي ، يقوم هو بوضع ثمن كيسه الطيب ، في جارور العربانة ثم يودعني بالإنكليزيّ ، لنلتقي في اليوم التالي ، ببطن الصفّ الثاني باء . ألمرة الأخيرة التي رأيته فيها ، كانت على مقربة من تسعينيات القرن الفائت . كنت ماشياً بشارع السعدون ، مقترباً من مكتبة النهضة ، وكان مهوايَ الشارع كله ، وختمته المسك سينما بابل حبيبتي . لم يكن هو جوزيف القويّ المتألّق المخلص العصاميّ النزيه المشعّ ، الذي كان مؤمناً بأنّ مضغ العلك لساعات طوال ، سيحفظ الوجه كما انولد أول مرة . كان صوته واهناً متضعضعاً تالفاً ، وحيث صرنا بباب زقاق يبدأ من يسار سينما السندباد حيث سكن المعلّم ، ويصبّ الناس الماشية على أبي نؤاس ، صافحني وودّعني المعلم الرحيم جوزيف عبد الأحد ، بجملة خافتة مكسورة مثل ظهر العراق ، والآن بوسعي أن أخبركم أنّ استاذي كان قال جملة الوداع تلك ، بحروفٍ ليست انكليزية أبداً .
سلام عليك استادي ، من دون نقطة فوق دالك المبجلة ، أينما حللتَ ونزلتَ ومشيت .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عمّان حتى الآن
1443 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع