عودة البرابرة

                                         

قفز الشاب الأشقر -الذي حتما لم يبلغ العشرين- محاولا لمس النقطة الأعلى للحائط، لكنه ما كاد أن يقترب منها حتى سقط، من بعده حاولت فتاة تكبره بسنوات قليلة اصطياد طرف الحائط، لكنها أيضا تعثرت، ثم تتالت محاولات الشباب والشابات خاصة بعدما تحلق حولهم جمع من الزائرين، انتبهت إليهم بينما كنت أجلس على الدرج بصحبة «كرستين» صديقتي الألمانية الباحثة التي ملكت اهتمامي حين قالت:

«قدميك الآن في ألمانيا الشرقية، وعينيك تطل على ألمانيا الغربية»، كنا نجلس أمام نهر الاشبراى الهادئ البريء الذي بدا كما لو أن مياهه لم تستقبل أطنان الدموع التي ذرفها الألمان حين تمزقت عائلاتهم بين الأرضين، من خلفنا كان حائط برلين، أو بالأصح جزء باق من الحائط يقف كشاهد على الزمن،الجدار الذي طالما اعتاد على أصوات الجنود المدججين بالسلاح بات لوحة فنية هائلة، صارخة الألوان تحوي غضبا وحزنا على الخسائر والأوجاع التي خلفها بناء الحائط.
تستيقظ كلمات المفكر الفلسطيني «إدوارد سعيد» في ذكرى وفاته السابعة التي مضى عليها أيام قليلة، قال «سعيد» في كتابه الأشهر «الاستشراق»: «إن جماعة من البشر تعيش على بضعة هكتارات من الأرض ستقيم حدودا بين أراضيها ومحيطها المباشر وبين ما هو خارج عن ذلك، وتسمى ما يقع خارج حدودها أرض البرابرة»، حين أقيم حائط برلين عام 1961 فاصلا بين شرقها وغربها، كان إدوارد سعيد قد بلغ السادسة والعشرين من العمر وانتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية بعدما أمضى طفولته الأولى متنقلا بين القدس ومصر، وهناك جذب تفوقه الانتباه مبكرا وتنافست الجامعات العريقة على استقطابه طالبا في البداية ثم أستاذا وفنانا ومفكرا عالميا، تخصص «سعيد في هدم الجدران، ووعى اتساع مداها وتنوع أشكالها، فهو قد تمرد من البداية على الحدود والجدران التي يصنعها البشر ويحتمون بها ويصنعون داخلها وطنا ثم يصدقون أن خارج الجدران عدو بربري قادم للإجهاز عليهم، اعتبر «سعيد» أن مهمة الاستشراق كانت بناء جدارا فاصلا بين الشرق والغرب، وإنها لم تعد عن كونها تقليدا أكاديميا يقوم على التمييز المعرفي والوجودي بينهما للهيمنة على الشرق.
شهد «سعيد» في حياته جدارا آخر ينهض بأيدي المحتل الإسرائيلي وهو الجدار العازل الذي بدأت إسرائيل في بنائه عام 2002 في الضفة الغربية قرب الخط الأخضر، بلغ طول الجدار حتى الآن 402 كيلومتر، وببنائه يتكرر الوجع، وتتشتت الأسر وتضيع الساعات عبثا على مواقع التفتيش وتلد النساء قبل أن يبلغن المستشفات، وتتمزق حقائب الصغار الذين يصرون على اجتياز الجدران بدون فحص ضمائرهم، مكررين نفس المشهد الألماني، عائدين للخلف بضعة أمتار، ثم مسرعين الخطى عدوا، ثم يقفزون على الحائط، تطال بعض الأيادي عنق الجدار وأخرى تفشل، فيسقط صغار ويهربوا بينما آخرين يدفعون إلى داخل المعتقل.
همّ نفس الإنسان في برلين وفي الضفة الغربية وفي مصر وفي الصين، هم شخص واحد حر يكره الحوائط ويخشى أن تمزق وحدة قلبه وتشطر روحه بفعل بضعة أحجار صماء يعبث بها المحتل ويرفع بها جدارا، ثم ما يلبث الجدار أن يلد آخر، فالجدران تتوالد كما الكائنات، تنتج الجدران فرقة وعداوة وقبحا، تنتج عزلة وتصنع أعداء خارج المحيط، تصنع برابرة.
تشكل الجدران الجغرافية جدارانا نفسية واجتماعية، ومن ثم تتحول تلك إلى اقتصادية وسياسية وعسكرية، في ميدان التحرير المصري وفي شارع بورقيبة التونسي وفي بني غازي الليبية سقطت الجدران بين المتظاهرين، ذابت كما لو أنها لم ترتفع يوما، في مصر سقطت الحوائط التي حالت عقودا بين المسلمين والمسيحيين، وبين الأغنياء والفقراء، وبين المصلين وغير المصلين، وبين المحجبات وغير المحجبات، تهاوت الجدران وتشابكت الأيادي والأحلام وتوحد المتظاهرون في صوت واحد «يسقط النظام»، وكما سقط سور برلين عام 1989 بعد تسعة وعشرون عاما من ارتفاعه، سقطت أنظمة بعض الدول العربية، لكن الجدران عادت للارتفاع، وتوالدت الانقسامات، والحوائط، وانتشر البرابرة، أو من أسماهم الشاعر اليوناني العبقري «كفافيس» برابرة، ففي قصيدته «في انتظار البرابرة» التي كانت المفضلة لدى المفكر الفلسطيني «إدوارد سعيد» يحكي الشاعر عن الحاكم وحاشيته الذين يوهمون الناس بأن البرابرة قادمون ليهجموا على الحدود، وعليهم أن يرفعوا الجدران ليحتموا خلفها، وليبقى الشعب ساكنا في الخوف، محبوسا في أمتار قليلة تفصل بينه وبين الآخر، وبينه وبين العالم وبينه وبين حاضره ومستقبله وبينه وبين قلبه، يختم الشاعر قصيدته قائلا:
قالوا إنه ما عاد للبرابرة وجود
ماذا سنفعل الآن؟
لقد كان هؤلاء الناس حلا من الحلول،،

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

787 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع