بقلم - إيمان البستاني
عندما وطأت قدماه أرض تاهيتي فجر التاسع من حزيران ١٨٩١ م كان قد أكمل لتوه , ثلاثاً وأربعين سنة من عمره , حاملاً معه كل ممتلكاته كما لو أنه اراد ان يبين بوضوح أنه قد انتهى الى الابد من أوربا وباريس...
عمد الى قص شعره الكستنائي الطويل خوفاً من أن يُطلق عليه لقب ( ماهو ) أي رجل - امرأة , جاء بكثير من الأوهام وما كاد يتنفس هواء ( بابيتي ) الساخن حتى أُصيب بنزيف حاد , رافقته نوبات قلبية , في المستشفى أكدوا له أن هذه الأزمة هي عارض آخر للمرض الذي لايُسمى والذين شخصوه له في باريس
عاش في بنسيون ألحي الصيني بقليل من النقود وفي ضيق ونتانة جردانه من الرغبة في الرسم , كان ينسل أحياناً ليدخن غليوناً من ألآفيون في محلات خصصت لهذا الطقس , لم تغوهِ التجربة , فمتعة الغياب عن الوعي كانت سلبية جداَ بالنسبة له , هو الممسوس بشيطان الحركة
تعّرف على ( تيتي ) في ساحة السوق الكبيرة التي تتحول ليلاً لسوق أللحم وحفلات رقص تنتهي بمجون جماعي
كانت ( تيتي ) تقدم خدماتها تلك الليلة , أتفق معها على مبلغ متواضع وأخذها الى بنسيونه , رفضت أخذ النقود بعد ليلة بهيجة وقررت البقاء للعيش معه بالرغم من هرمها ألمبكر
بعد فترة وافقت على مرافقته الى داخل الجزيرة ليعيش حياة الوطنيّين وليس حياة الاوربيين
أنتقل الى ( ماتايّا ) هناك أستآجر كوخاً قبالة الخليج يمكنه ان يخرج منه مباشرة ليغطس في البحر , وماأن استقر هناك حتى باشر بالرسم بفورة إبداع حقيقية مع قضاء ساعات في تدخين الغليون والوقوف قبالة منصب الرسم , وراح يفقد اهتمامه ب ( تيتي ) التي كانت ثرثرتها تُلهيه عن عمله , فيلجأ الى اوتار جيتاره كي لا يضطر للتحدث معها , كانت تضجر بشكل لايمكن أخفاؤه , في ثماني شهور أنجز رسم حوالي ثلاثين لوحة لينهض صباحاً على ملاحظة وداع كانت نوع من التطهر(وداعاً وبلا آحقاد ياعزيزي )
كان يبحث عن العالم البدائي , بعد اسابيع على رحيل ( تيتي ) بدأ يشعر بالجوع الى المرأة , نصحوه جيرانه بالبحث عن رفيقة كان الأمر اسهل مما يظن , السيدة التي تدير محلاً بعد أن جهر بمطلبه أقترحت عليه أبنتها ذات ١٣ربيعاً فقط بالرغم من تطور جسدها , بعد نصف ساعة من ذلك اللقاء عاد الى ( ماتايّا ) ببضاعته الجديدة , وطنية جميلة تتكلم فرنسية عذبة وتحمل على كتفيها كل ممتلكاتها , هي من أسمته (كوكي ) أسم انتشر كالبارود
الشهور الاولى من زواجه ب ( تيهامانا ) كانت أفضل شهوره التي أمضاها في تاهيتي وربما في العالم
كانت تستاء اذا ما طلب منها ان تجلس في وضعية ثابتة ليرسمها , تركها ذات ليلة في الكوخ بعد أن نفذ زيت القنديل , عتمة أفزعت المسكينة وأوهمتها بخروج ارواح الموتى وشياطين العالم فتجمد جسدها العاري رعباً وتقلصت تقاسيم وجهها , عند عودته ظن عتمة الكوخ ملاحظة وداع أخرى فأشعل عود ثقاب ليتفاجئ بمشهد ندر أن يكّونه بمفرد جهده لجسد امرأة متشنج , حاول أن يخلد تلك اللحظة بلوحة أسماها ( ماناو توباباو ) وهي العبارة التي كانت تصرخ بها بعد ان أحست بوجوده ومعناها أنها ( تفكر في روح الميت ) , لم يفلح بأعادتها الى تلك الهيئة التي وجدها من خوف وتشنج جسد وتقوس ظهر , رسمها ولكنه غير راضٍ وبقى ذلك المشهد مبجلا ً فقط في ذاكرته..
هل نسيت أن اقول لكم , كنت اتحدث عن (بول غوغان) أظنكم عرفتموه منذ البداية ........في آمان الله
511 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع