عبد القادر أبو عيسى
عمرو بن العاص داهية من دهاة العرب ~ الجزء الخامس
شعار المقال : ـ ـ ليس العاقل الذي يعرفَ الخيرَ من الشر َولكنه الذي يعرف خيرَ الشرّين ـ عمرو بن العاص ـ
مكانة عمرو بن العاص في زمن الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه
~ فتح مصر~
سار عمرو بجيشه مخترقاً رمال سيناء حتى وصل الى- العريش – وأدركهُ فيها عيد الاضحى . سنة 18 هجرية ( 12 كانون الاول – ديسمبر 639 ميلادية ) ولم يجدُ فيها حاميةً من الروم تصدّه فأستولى عليها بسهولة . ومضى الى – الفَرَما – وتقع على ساحل البحر الابيض المتوسط – قريباً من بور سعيد . اليوم – وهي مدينة قديمة العهد ذات حصونٍ قوية وكنائس وأديرة , وتعتبر مفتاح مصر . وحاصرها نحواً من شهر قبل ان يستولي عليها في منتصف كانون الثاني . يناير . سنة 640 ميلادية . وتقدم الى – بلبيس – التي تبعد عن القاهرة اليوم بنحو ثلاثين ميلاً – فأقام على حصارها شهراً حتى فتحها , وهزم فيها جيشاً رومانياً يقدره بعض المؤرّخين بثلاثة أمثال الجيش العربي . وانقض بعدها من ناحية الصحراء على - ام دُنَين -وتقع في موضعها حديقة الازبكية بالقاهرة اليوم . وقد أستعدّ في موضعها الروم وعوّلوا على الثبات في هذا الموقع الحصين . وحمي القتال حولَ الحصن عدة اسابيع فكتبَ عمرو إلى الخليفة الفاروق يطلب المددَ . وقلوب المسلمين تتفطر حزناً على ما يتساقطُ منهم من الشهداء كل يوم , وهو كثيرٌ إذا قيس بعدد الجيش العربي , وقد كانوا يُكبّدون الروم خسائر فادحة حقا , لاكنها قليلة إذا قيست بأعداد العدو . ولقد وضع حصارُ – أم دُنين – عمرو بن العاص في أحرج المواقف . فقدكاد اليأس يستولي على قلوب المسلمين .. مما جعل القائد الطموح يكتبُ الى الفاروق يلحُّ في طلب المدد ... ولكن همةَ عمرو التي لاتعرف الوهن قوّت من عزائم المسلمين .. فما لبثوا حتى أقتحموا الحصنَ وغلبوا الرومَ على امرهم , قبل ان يصل المدد من جزيرة العرب .. وغنمَ الجيشُ العربي في هذا الانتصار قواربَ وسفناً تجري في النيل , ورأى عمرو الذي درس المنطقة على الطبيعة واستكملَ وضعَ خطط الفتح , أن ينعطف الى الجنوب مستخدماً وسائل النقل النهرية التي غنمها نحو – البهنسا و الفيّوم – منصرفاً مؤقتاً عن الوقوف تحت أسوار حصن – بابليون – المنيع , ريثما يصلهُ المدد من الخليفة ابن الخطاب . وكان شروعه في هذا المسير , في شهر" ايار مايو سنة 640 ميلادية – 19 هجرية " وقد أبتدأ بأن استولى على مدينة – منف – التي تقع على الشاطئ الغربي للنيل مقابل حصن بابليون . وعلى حين كان الجيش العربي يواصل أنتصاراته تحدو به في ذلك روحٌ عالية وإيمان بالله ورغبة في تحرير هذا القطر من نير إحتلال أجنبي قد استمر قروناً , وهويسوم السكان الضلم والعسف ... كان – تيدور – قائدُ الروم يجمع فلوله المنهزمة هنا وهناك ويحشدها إستعداداً للمعركة الفاصلة . وعلم عمرو بن العاص وقد استولى على – البهنسا – أن المدد العربي قد دخل أرض مصر وهو الآن متجه الى نواحي – أم دُنين – التي هي في حوزة العرب . وسرعان ماركب النيل عائداً , ليكون في إستقبال الجند العربي , الذين جاءوا يشدّون من أزره ويُعينونه على إستكمال الفتح والتحرير . وكان اللقاءُ رائعاً بين عمر الفاتح المنتصر المترقب , وبين ( الزبير بن العوام ) الذي جاء على رأس أربعة آلاف عربي يتعطشون لضرب الروم في ارض الكنانة مثلما هزموهم في ارض فلسطين والشام . وكانت خطيئةٌ استراتيجية كبرى من قائد الروم – تيدور – الذي جمع جموعه وتقدر بعشرين ألف ليس في حصن بابليون المنيع الذي يقع الى الجنوب من أم دُنَين بل هو اراد أن يزحزح بها العرب عن – هيليوبوليس ( عين شمس ) . الموقع الصحراوي شرقي أم دُنَين .. والعرب لايحبون النزال في مكان قدر تفضيلهم إياه في الصحراء , حيث يسهلُ عليهم القتال والكر والفر. وكانت خطةٌ عبقرية من عمر بن العاص , الذي قسّم جُندَه الى جيوش ثلاثة , كَمَنَ منها جيشان اثنان على حين تصدّى الجيشُ الثالث لجيوش ( تيدور ) الزاحفة نحو – هيليوبوليس – وقدظنّ قائدُ الروم أنه إنما يقابل جيوش العرب جميعاً . ونشب بين الطرفين قتالٌ عنيفٌ في منتصف الطريق ( في الموضع الذي يقع فيه اليوم حي العباسية شرقي القاهرة ) وقد أيقن كلٌ منهما أن على النجاح في هذه المعركة يتوقف مستقبل مصر . ! ولما بلغ القتال أشدّه , خرجَ من الجبل احدُ الجيشين وانقضّ كالصاعقة على ساقة الروم , فاختلّ نظامُ جندهم من أثر المباغدة , وانعطفوا غرباً نحو أم دُنين . فخرج اليهم الجيش الثالث من النيل ... فاصبحوا بذلك بين جيوش العرب الثلاثة , التي سحقتهم حقاً . وسار بعضهم في النيل هارباً وفرّ آخرون إلى حصن بابليون . وحاصر العرب حصنَ – بابليون – بمن تجمعَ فيه من فلول الروم ومعهم ( المقوقس ) حاكم مصر. وطال الحصار . وترددت رسل بين الطرفين , وكان من رأي المقوقس أن يصالح على شروط ولكن قومه رفضوا وكانوا يخرجون احيانا يناقشون العرب قليلا ثم يمتنعون وراء الاسوار , ينتظرون الفرج من .. هرقل .. وقد بدأ الحصار في أوائل شهر ايلول – سبتمبر – 640 م 20 هجرية ... وها قد مضى عام وبعض العام والفتح لم يتمّ , فكتب الخليفة إلى جيش المسلمين يقرّعهم " عجبت لأبطائكم عن فتح مصر تقاتلوهم منذ سنتين وما ذاك إلا لما اصبتم من الدنيا ما احبّ عدوّكم وإن الله تعالى لا ينصر قوماً إلاّ بصدق نياتهم " وقد أبرِم في ذلك مشروع معاهدة صلحٍ بين عمرو والمقوقس . جاء فيها [ أصطلح عمرو والمقوقس على أن يُفرض للمسلمين على من بمصر – أعلاها وأسفلها – من القبط ديناران على كل نفس شريفهم و وضيعهم , ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغُ الحلم ولا على النساء شيئ ] ولكن هرقل رفض هذا المشروع عندما عُرض عليه , وكتب الى المقوقس كتاباً يوبّخه فيه على التسليم ويستصغر قوة العرب . ثم ما لبث جيش المسلمين أن اقتحم الحصن المنيع وكان ذلك في أواخر نيسان 641 ميلادية سنة 20 هجرية .. فانهارت خطوطُ المقاومة الرومانية .. وسيّر عمرو جيوش المسلمين في كل اتجاه , فخضعت له المدن والدساكر ولم تستعصي الاّ مدينة الاسكندرية التي حوصرت وطال حصارُها أربعة عشر شهراً , إستسلمت بعدها يأساً وخوراً في 10 من شهر كانون الأول . ديسمبر. 641 وفق شروط منها . " ان يدفع كلُّ من فُرضت عليه الجزية دينارين كل سنة وألاّ يتعرض المسلمون للكنائس وألا يتدخلوا في أمور المسيحيين وأن يبقى اليهود في الاسكندرية وأن تسود بين الروم والعرب هدنةٌ تبحِر خلالها الحامية الرومانية من الإسكندرية ومعها مالها ومتاعها على ألاّ يحاولَ الروم استرداد مصر بعد ذلك ابداً . " وتألّف عمر قلوبَ القبط فكان بحقٍ خير الولاة وأحبّهم الى الرعيّة وأحسنهم عدلاً وأكثرهم حرصاً على العمران . وفي عهده أمن الناس شرّ الفتن والقلاقل فتحرّروا من الاضطهاد واطمأنّوا على انفسهم وعيالهم وأموالهم . بعد ان دانت مصر للعرب وأستقرّت الامور لصالحهم . تراءى للقائد العربي أن يَسكن الاسكندرية , بعد أن جلا عنها الروم وقد رآها مشيدة غير محتاجة إلى إصلاح فبعث الى الخليفة يستأذنه في ذلك فسأل عمرُ الرسول – هل يَحُول بيني وبين المسلمين ماء .. ؟ أجاب الرسول .. نعم يا امير المؤمنين إذى جرى النيل ـ يقصد أذا فاض في موسمه ـ فكتب الفاروق إلى عمرو ... إني لا احب ان تنزل بالمسلمين منزلاً يحول الماءُ بيني وبينهم في شتاء ولاصيف . وتحوّل الفاتح الى مدينة { الفسطاط } التي ابتناها في قصة معروفة . خلاصتها انه لما أراد أن يقوّض فسطاطَه الذي أقامه إلى جوار حصن بابليون . رأى يمامةً قد باضت في أعلى الفسطاط فقال مشفقاً ـ ـ لقد تحرّمت بجوارنا ـ ! وأمر الجند يُقروا الفسطاط فلا يُقوّضوه حتى تطيرَ فراخُها , فبقي وبنيت المدينةُ مكانه وسميت " الفسطاط " وأتخذ منها حاضرةً ~ عاصمة ~ لمصر وقد غدا عليها والياً . ومن سماحة عمرو التي هي من سماحة الاسلام أن كَتبَ الى ـ البطريق بنيامين ـ المتواري منذ ثلاث عشر ة سنة عن أنظار الروم , يُعطيه الامان ويردّه الى كرسيه ويمنحه السلطة التامة على القبط وإدارة شؤون الكنيسة . وقد جاء في احدى خطب بنيامين لدى عودته الى الاسكندرية ~ هنا وجدتُ النجاة والطمأنينة اللتين كنت أنشدهما بعد الاضطهادات والمظالم التي قام بتمثيلها الظلمةُ والمارقون ~ ومن الانصاف أن نذكّر بتلك القصة التي تحكي عدالة الفاروق عمر بن الخطاب التي هي من عدالة الاسلام . والتي حدثت مع ابن العاص ـ محمد ـ وخلاصتها أن عمراً اجرى في مصر سباقاً للخيل فأقبلت فَرس رجلٍ من المصريين , فحسبها محمد بن عمرو فرسه .. وصاح .. فرسي ورب الكعبة ..! ثم اقتربت فأذا هي فرس المصري , فغضب محمد .. ووثب على المصري يضربه بالسوط , ويقول له .. خذها وأنا أبن الاكرمين .. وبلغ ذلك أباه فخشي أن يشكوهما المصري فحبسه زمناً حتى أُفلِتَ وقَدِم الى الخليفة يرفع اليه ضلامته . فاستقدم الخليفةُ . عمرو بن العاص وابنَه وقال للمصري ـ دونك الدرّة فاضرب بها ابن ألأكرمين . ؛ ففعل المصري .. فحضّ الخليفة على أن يضرب أباه قائلاً ... والله ما ضربك إلا بفضل سلطانه ... فاعتذر المصري قائلاً لقد ضربت من ضربني يا امير المؤمنين ..! ثم التفت الفاروق عمر الى ابن العاص يقول قولته الخالدة { متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً } وتلك هفوة من بن العاص الطيب الشفوق ما كان لها ان تبدر منه لولا خوفه من رئيسه الفارق العادل حتى رؤوس أنامله , فزاد عمر بخطئه دواعي المؤاخذة والمحاسبة ... وذلك لعمري .. ما يجعل العرب في طليعة أمم الارض عدالةً واحتراماً للإنسان و ~ ديمقراطية ~ كما يصطلحون عليها اليوم . وأيضاً ينبغي علينا أن نذكر قصة اول مسجد في مصر وأفريقيا بناه عمرو بن العاص في مدينة الفسطاط . وسمي جامع عمرو بن العاص وكان ايظاً يسمى بمسجد الفتح والمسجد العتيق وتاج الجوامع وكانت مساحته وقت انشائه 50 ذراعاً في 30 ذراع وله ستة ابواب . وكيف تناهى الى سمع الفارق بأن بن العاص قد شيد فيه منبراً عالي الارتفاع يخاطب المسلمين وهو جالس عليه فأرسل له الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وارضاه يأمره بكسر المنبر وعليه أن يخاطب المسلمين وهو واقف ... فتم ذلك وكَسر المنبر .. أذعاناً لأمر الخليفة الفاروق . ومن نافع الكلام تذكير حضراتكم بأنه بعد وفاة سيدنا محمد صلى الله عليه وآلهِ وأصحابه الطيّبين الطاهرين . عندما كان الخليفة ابو بكر يئم المسلمين , لم يجلس في المكان الذي كان يجلس عليه النبي بل بمكان أدنى , تقديراً واحتراماً , وكذلك فعل الفارق عمر بن الخطاب , كان يجلس في مكان أدنى من مكان ابو بكر الصدّيق ـ ـ ـ وهذا دليل تواضع وتقدير لشخصيات لن يكررها التاريخ . ومراعاة لمشاعر المسلمين .... أين نحن اليوم من أولائك الأفاضل ... وكم نبتعد في السلوك والصدق والايمان والتضحية والاخلاق والعقل الراجح ونكراناً للذات .. نقول .. لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ـ ـ وحسبنا الله ونعم الوكيل ـ ـ على الحال الذي نحن فيه ...ألى هنا نتوقف على أمل أن نتكلم في الجزء القادم والأخير . عن مكانة عمرو بن العاص في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه . وما تلى ذلك من دوره في { الفتنة الكبرى } وما تلاها من تداعيات في زمن معاوية وعلي بن ابي طالب ~
فألى ذلك الحين ندعكم في رعاية الله ..... شكراً لكم على تواصلكم وقراءتكم المقال......
عبد القادر أبو عيسى : في ~ 26 / 11 / 2013 ~
1571 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع