ثريا الشهري
طلبت المعلمة الأميركية المشرفة على تدريس المادة من طلابها وطالباتها تسليم الواجب يوم الثلثاء كما جرت العادة.
ولأن مادة فيزياء المباني (حساب كميات الحديد والأسمنت والأعمدة.. إلخ) في تخصص مثل الهندسة المعمارية لا تأتيك حلول أسئلتها إلا بشق النفس والجهد والفهم، فكان الواجب كما التحدي الذي على الطلاب اجتيازه كل أسبوع. إلى أن حل موعد الواجب ولم يستطع بعض الطلبة الوفاء به لتراكم مواعيد تسليم الواجبات الأخرى لبقية المواد باقتراب انتهاء الفصل الدراسي. وهنا استأذن هؤلاء من معلمتهم بتأجيل التقديم ليوم الأربعاء عوضاً عن الثلثاء للسهر على الواجب المعقّد، فوافقت المعلمة بطيب خاطر لتفهّمها الظرف، غير أنها انتهجت نشر أجوبتها الصحيحة ببرمجة «أتوماتيكية» تظهر بعد كل موعد تسليم واجب في موقع للتواصل بين المعلمة والطلبة على النت، حتى إذا انتهى موعد المحاضرة اطلع الطلبة على الحلول. وهذا ما كان، فغاب عن بال المعلمة هذه المرة الخروج من حصتها وتعديل البرمجة إلى اليوم التالي حيث التسليم. وبالتالي، ظهرت الحلول على النت فسارع الطلاب إلى نقلها حرفياً قبل أن تتنبه المعلمة وتحجبها.
وهكذا قدّم الطلبة واجباتهم بالحلول الصحيحة، ولم يكن أمام المعلمة غير تقويمها بالدرجة الكاملة، ولأنه لم يخفَ عليها ما جرى، فقد أرسلت إلى إحدى الطالبات من توسمت فيها الصراحة، سؤالها الآتي: أصدقيني القول يا فلانة وأعرف أنك لن تخذليني في ذكر الحقيقة، هل اطلعت على أجوبتي قبل أن تحلي مسائل واجبك؟ ففكرت الطالبة أنها قد تحامقت بما فيه الكفاية، فلا داعي للاستمرار في الكذب، فأجابت معلمتها بنعم. وقد نقلت الأجوبة عن صديقتها التي ربما اطلعت بدورها على الحلول. فكيف كان رد فعل المعلمة وتعليقها برأيك؟ ولو كنت مكانها فما هو التصرف الأمثل الذي يليق بك كمربٍّ أولاً قبل أن تكون الأستاذ صاحب السلطة؟ اغمض عينيك وتحرّى جوابك قبل الانتقال إلى الفقرة الآتية. أقلها لتتعرف على الفرق والتماثل بين تفكيرنا وتفكيرهم.
أرسلت المعلمة وخريجة جامعة هارفارد ردها للطالبة في إيميل حصل أن اطلعت عليه، لأتعلم منه درساً أزعم أنه أعجبني، وتستغرب كيف كتبت المعلمة المنشغلة بمسؤولياتها مثل ذلك الخطاب الوافي للطالبة التي لم تتكلف وتخلق وقتاً لواجبها. وسيتضاعف استغرابك إذا عرفت أن فحوى الكلام كان اعتذار المعلمة من الطالبة لأنها «حدّتها» على ما أقدمت عليه في معرفة الأجوبة، حين أصرّت من جانبها على تسليم الواجب الأسبوعي ولم تراعِ ظروف الطلبة مع الواجبات أخرى. فهل تخيّلت وأنت تتحرى جوابك مثل هذا الاعتذار؟ وقد بدأت المعلمة إيميلها بالشكر العميق للطالبة على صدقها «المشرّف». هل لاحظت.. الشكر العميق! وأبلغتها باحترامها لها كإنسان بصرف النظر عن الموقف والدرجة، مع رجائها الطالبة ألا تعتبر استفسار المعلمة منها كنوع من الحكم عليها، فهي لم تسألها إلا لاعتقادها أن الطالبة ممن تأتمنهم وتثق بهم في قول الحقيقة. على أنه من العدل أن تمنح درجات إضافية للطلبة الذين قدّموا واجبهم قبل موعد نشر الأجوبة بالخطأ، لأنه يعني أنهم وحدهم من قاموا بالجهد لمعرفة الحلول. إيماناً من المعلمة طبعاً بأن الدرجات الإضافية لا ينالها سوى من يستحقها.
هذا ما كان من المعلمة. أمّا الطالبة فتقسم بالله أنها طوال سنوات عمرها العشرين لم تشعر بهذا الخزي والإحساس بالحزن على نفسها الذي لطمها بعد قراءة الخطاب. وهذه لعمري احترافية تفاعل المربي مع الموقف، ولكن فقط لمن يتعلم الدرس ويستوعبه، فـ «ما لجرح بميت إيلام». وقد شكرت الطالبة معلمتها على تعاملها الراقي، واحترامها لها على رغم ما صدر منها. معترفة أن المبادئ والقيم لا تمتحن إلا في الأوقات الصعبة. ومعها يعرف الإنسان قوته وثباته. ولذلك فهي مصممة على القيام بواجب إضافي لا طمعاً بالدرجة، وإنما لاستعادة اعتزازها بنفسها الذي تلاعبت به وتهاونت بتساهلها. ولتكتمل القصة تعلن المعلمة عن أسماء أصحاب الدرجات الكاملة وإذا بهم جميعهم وبلا استثناء من العرب، وكل الطلبة الأجانب ومن نتفنن في الحديث عن لاأخلاقياتهم كانت درجاتهم ناقصة. فما قولكم بالنتيجة؟ على العموم، لم تنسَ المعلمة قبل انتهاء المحاضرة أن تعلن عن جبرها للدرجات الناقصة حتى تتساوى بالكاملة، مع شهادات بالتزكية تمنحها لجميع الطلبة الذين لم يطلعوا على الأجوبة. وهذا هو المنطق العادل. وتسألني طالبتنا المبتعثة وتقول: أمن المصادفة أن كل الذين غشوا كانوا عرباً ومسلمين؟ فتنهدت ولم أجب، ولكني وعدتها تشجيعاً لنضجها واتعاظها بعرض قصتها بلا استقطاع. فإذا على رأيي، فالحكاية شارحة ومحللة نفسها. وهذه هي تربيتنا وثقافتنا، والتي ننتهي معها بما قاله يوماً برناردشو: «ليست عقوبة الكذّاب أن الناس لا يصدقونه، بل إنه لا يعد يستطيع أن يصدق الناس».
1593 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع