(محطات من رحلتي إلى العراق) الجزء الأول

 موفق الخطاب

(محطات من رحلتي إلى العراق) الجزء الأول

العودة إلى الجذور:

في مستهل شهر تشرين الثاني من هذا العام حزمتُ أمري بعد عامين من اخر زيارة لي الى ارض الاباء والاجداد، ويَمَّمتُ وجهي شطر العراق؛ ذلك البلد الذي أبصرتُ فيه النور، وتغذّت كل خليةٍ من خلايا جسدي من خيراته، وارتوت من مائه من عيوني جباله ومن ضفاف دجلته و فراته ، وتلحّفت بسمائه.
بلدٌ لا يغادر الذاكرة مهما ابتعدت المسافات، ولا يفارِق الوجدان مهما طال الغياب.

انطلقت طائرتنا من المنامة، عاصمة التعايش، التي احتضنتنا منذ عشرين عاما خلت وقد أغدقت علينا من بركاتها، فكنّا نرفل فيها بالعز، ونعيش بين أهلنا شعب البحرين الذي لا يدانيه شعب من طيبته و دماثة خلقه ، في أمنٍ واستقرار. ثم حطّت بنا الرحال في أربيل (هولير)، عاصمة إقليم كوردستان، وقلب العراق النابض بالحياة.

دموع المغترب:

وما إن تطأ قدم المغترب، مثلي، أرض الوطن، حتى تتزاحم في مقلتيه دموع الفرح الممزوجة بحرقة الشوق. دموعٌ تنهمر حين يلتقي الأهل والأحبة، حزنًا على عمرٍ يمضي مسرعًا بعيدًا عن بلدٍ عظيمٍ يزاحم الوالدين في المنزلة والمعزّة.
وما فرّقنا عنه إلا القدر ، ولكل مغتربٍ حكايته، ولكل غربةٍ وجعها الخاص.

وفي هذه الرحلة، عزمتُ أن أطوف بكم، سادتي، عبر محطاتٍ عدّة من رحلتي إلى أربيل والموصل، مسجّلًا ملاحظاتي، وناقلًا مشاعري، بصدقٍ لا تصنّع فيه.

أربيل… عراقٌ مصغّر:

كانت أربيل محطتنا الأولى، ومنها ابتدأنا وإليها عدنا، بل ومنها انتهت الرحلة. مدينةٌ غدت فسيفساء العراق، وعراقًا مصغّرًا تتعايش فيه كل أطياف وقوميات الشعب العراقي .
ما يميّزها عن سائر المحافظات هو الإحساس العالي بالأمان والاستقرار، والتطور المتسارع، وطيبة أهلها ، وقِدم أسواقها ، وقلعتها التاريخية العريقة وعبقها .

نافورتها الشهيرة التي تتوسط القلعة وسوقها تنعش الزائر نهارًا، ومتنزهاتها الغنّاء تفتح ذراعيها للجميع ليلًا . من يرتادها يلمس بوضوح أعلى درجات التنظيم والنظافة، دون أن يُرهق بكلفةٍ تثقل كاهله..
ولا تكتمل صورة أربيل من دون المرور ( بمولاتها) مراكز التسوق الحديثة الحديثة، التي تضم أرقى المحلات وأجود الماركات العالمية. وأخصّ بالذكر منها مركز «ماجدي غراند»، ونافورته الراقصة التي تتحوّل مساءً إلى ملتقى للعوائل، في مشهدٍ يفيض حياةً وطمأنينة.

غير أن المتعة الحقيقية لا تكتمل إلا بالتجوال في دهاليس سوق القلعة، المشيَّد على الطراز العثماني، بتنوّع بضائعه وروح المكان فيه. ثم تكون الاستراحة واجبة في مطعم «كباب ياسين» الشهير داخل القلعة، حيث تنتظر دقائق طويلة من شدّة الإقبال. ومع ذلك، فإن نكهة الكباب، حين ترشف معه لبن أربيل، تجعلك تدرك أن الانتظار كان ثمنًا مستحقًا.


طقوس الشاي… هوية عراقية

وما إن تفرغ من وجبةٍ دسمة حتى تستوقفك رائحة الشاي العراقي المهيّل، وصوت الملاعق وهي تغوص في أعماق الاستكانات ( الأقداح ) لتذيب السكر، وتراقص أطباق الشاي بين يدي صبّابٍ ماهر، لحظتها تتسلّل إلى الذاكرة أغاني العراق الشهيرة:
«خدّري الشاي خدّري… عيوني لمن أخدّره؟»
(و خدري الشاي يابنية دا نشرب منه شويه..)

لن تكتفي أبدًا باستكانٍ واحد، مهما حاولت؛ فالشاي هنا ليس مشروبًا فحسب، بل طقسُ انتماء.


شقلاوة… حيث تستريح الروح:

ولا تحلو السياحة في أربيل من دون زيارة مصيف شقلاوة، والسير في سوقه العامر بكل ما يبهج الزائر فلا تتمالك نفسك الا وانت قد خرجت محملا بما لذ وطاب من الحلوى والمكسرات.
وقد سخّرت حكومة إقليم كوردستان، مشكورة، إمكانياتها لشقّ طريقٍ جميلٍ معبّد، يتخلله نفقٌ أنيق، اختصر المسافة بين مركز أربيل والمصيف إلى نحو نصف ساعة، بعدما كانت الرحلة سابقًا تستغرق أكثر من ساعةٍ ونصف عبر طريقٍ متعرج.

الطريق الذي كسر فرحة الرحلة:

ورغم كل هذه الإيجابيات، حدث ما نغّص عليّ الرحلة وألقى بظلالٍ من الإحباط، حين غادرتُ أربيل برًّا متجهًا إلى محافظة نينوى بعد قضاء عدة ايام جميلة فيها .
تفاجأت بطريقٍ لا يليق أبدًا أن يكون طريقًا دوليًا، وهو من مسؤولية حكومة كوردستان، وصولًا إلى منطقة خبات.

الطريق محفوف بالمخاطر، و يفتقر إلى الصيانة، والإنارة، والعلامات التحذيرية، ومع ذلك فهو مزروع بكاميرات السرعة المزدحمة ، وكأن معالجة الشكل سبقت معالجة الجوهر. ورغم التزامي التام بقواعد السير والسرعة، وجدتُ نفسي في مواجهة خطرٍ دائم، ونجوتُ، بفضل الله، مرارًا من حوادث مميتة.

ولم يغب عن ناظري مشهد السيارات المعطّلة والمصنّفة، المركونة على جانبي الطريق، وهي شاهدةً على سوء حالته و اهماله ، في طريقٍ لا بديل عنه، سوى سلوك المضطر.


ملاحظة لا بد منها:

وفي طريق عودتي إلى أربيل، لاحظتُ تعامل بعض أفراد السيطرة مع القادمين من الموصل بأسلوبٍ قاسٍ وغير لائق، وهو أمر يستوجب وقفة جادة، لا سيما في التعامل مع الزوار الأجانب. نعم، نحن مع تشديد الإجراءات الأمنية، لكن ذلك لا يبرّر الأسلوب الفوقي أو غياب لغة التواصل، خاصة أن بعض العناصر لا يجيدون سوى اللغة الكردية فكيف يتم التفاهم معه؟.

ليس من المقبول إلزام الزائر، سواء كان يحمل جوازًا أجنبيًا أو جوازًا عراقيًا وهو مقيم في الخارج، بالوقوف في طوابير طويلة مع عائلته للتدقيق الأمني في مشهد اذلال ، رغم أن منفذ المطار قد أتم إجراءات الدخول والتدقيق الأمني، وهو ما يفترض أن يكفل له حرية التنقل داخل البلاد دون منغّصات.
مع خالص التحية لحكومة كوردستان ومن محبتنا وافتخارنا فيها يستوجب علينا الاشادة بتجربتها الناجحة كذلك تشخيص أماكن ونقاط الخلل فيها لتلافيها..

وللحديث بقية مع الجزء الثاني في ام الربيعين الحدباء مدينة الانبياء

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1134 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع