التعامل مع نقد الحداثة وما بعد الحداثة

د. علي محمد فخرو

التعامل مع نقد الحداثة وما بعد الحداثة

لإكمال موضوع الأهمية القصوى لتجديد القيم والسلوكيات الفردية والمجتمعية اللازمة لضبط وإنجاح المشروع النهضوي العربي، دعنا نَعُد لنؤكد أن ذلك التجديد يحتاج أن يرتكز على مهمتين: مراجعة ونقد القيم التراثية التي ما عادت صالحة لأزمنتنا من جهة ومراجعة ونقد القيم الحداثية المرتبكة التي أخذناها تقليداً أو فرضت علينا من حضارة الغرب والحضارة العولمية الرأسمالية من جهة أخرى.

والواقع أن هناك الكثير من المفكرين والأحزاب والمؤسسات المدنية في الغرب قد كونوا عبر العقدين الماضيين تياراً قوياً ناقداً لمسار الحضارة الغربية، وعلى الأخص لمواقفها المتناقضة والمتعارضة مع كل الأسس الفكرية والحقوقية التي جاءت بها حضارة الأنوار الأوروبية، تياراً مطالباً بإجراء مراجعة عميقة إصلاحية تجاوزية للكثير من قيمها الأخلاقية والسلوكية والمفاهيمية الخاطئة التي أضيفت إلى حضارة الغرب على الأخص في العقود الأخيرة.

ويجري ذلك النقد في أغلبه تحت شعار ما يعرف بتيار ما بعد، بدءاً بشعاري ما بعد الحداثة وما بعد ما بعد الحداثة ومروراً بشعارات فرعية من مثل ما بعد الاستعمار أو ما بعد النيولبرالية الرأسمالية أو حتى ما بعد العقلانية الغربية والعلمانية اللتين اعتبرهما الغرب في الماضي شعارين مقدسين. ولقد وصل الشطط ببعضهم إلى طرح شعار عدمي من مثل ما بعد نهاية الغرب وبنية حضارته، وما سيأتي على أنقاضه من بقاع الدنيا الأخرى من صراعات وفوضى حسب تفكيرهم المتعالي المتكبر.

وفي المدة الأخيرة، ومع التطورات العلمية والتكنولوجية الهائلة، من مثل الصعود المذهل لاستعمالات الروبوت والذكاء الإصطناعي، يتكلم الغرب عن ما بعد الأنسنة وتهافت دورها في إدارة عالم الإنسان وبالتالي صعود قيم جديدة، والتي لم تعرفها مسيرة الإنسانية منذ نشأتها وإلى يومنا هذا، والتي تتميز بالغموض وبالإمكانيات الشريرة المدمرة لقيم الأنسنة وللقيم الميتافيزيقية والروحية والدينية للبشرية.

والسؤال المفصلي الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا: هل ستمارس حليمة عادتها القديمة، فينتظر العرب نتائج كل تلك المراجعات التي يقوم بها الغرب حالياً ويتبنونها تقليداً وخضوعاً أم أننا سنلعب دورنا المتفاعل المزدوج، سواء المتعلق بمراجعتنا الخاصة لبناء ذاتنا ولنهضتنا أم سواء المتعلق بالمساهمة مع الأخرين لتصحيح مسار الإنسانية كلها وإخراج العالم من الفوضى القيمية الأخلاقية والحقوقية التي يعيشها.

في قلب هذا الموضوع يكمن التقابل التضادي المرعب بين عالم معاصر ارتبطت فيه مفاهيم القيم بتحقيق مصالح خاصة بفرد أو جماعة فئوية أو مجتمع معين دون إعطاء أي اعتبار لانعكاس ذلك على مصالح الآخرين... بين عالمنا المعاصر ذاك وبين رؤية تكونت عبر العصور تقول وتنادي بارتباط مفاهيم القيم بالضمير الحي وبالفطرة البشرية السوية وبالسمو الأخلاقي والروحي.

إن أمة وصف الدين الذي حملته للعالم بدين القيمة، ووردت في قرآنه الكريم مشتقات تعبير القيم حوالي ستمائة وخمسين مرة، تركزت في أربعة مجالات حيوية للإنسان وللعالم من مثل الاستقامة والمسؤولية والخير والصلاح، وخصت بالأولوية قيم كبرى من مثل العدل والقسط والميزان والحرية والخير والتقوى والصبر والتكافل والصدقة والصدق والوفاء وقول الحق، وغيرها الكثير الكثير،

بحيث لم تبق فضيلة إلا ونالت التمجيد وتآخت مع أساس العقيدة الروحية: الإيمان... إن أمة لديها مثل هذا التراث القيمي تستطيع، لو توافرت الإرادة والصدق مع النفس والضمير الحي والقيادات التاريخية، أن تسهم مساهمة مؤثرة في مراجعة إشكالية تراجع القيم الأخلاقية والسلوكية، لا في بلاد العرب فحسب، وإنما أيضاً عبر العالم كله.

لن تكون تلك المساهمة مقصورة على إشكاليات بعض قيم الحداثة، التي تراكمت عبر قرون عدة، وإنما ستشمل أيضاً إشكاليات بعض تيارات ما بعد الحداثة المتنامية بشتى أسمائها وتفريعاتها عبر العقود.
منذ القرن التاسع عشر والعشرات من المفكرين العرب، بشتى انتماءاتهم الإيديولوجية والفكرية، يتعاملون مع هذا الموضوع، تحليلاً ونقداً ومحاولة تجاوز، لكن ظلت تلك المحاولات جهوداً فردية أو فئوية محدودة.

ما نحتاجه الآن وعبر المستقبل المنظور هو تيار كبير، يضم أشكالاً من علماء حقول شتى المعارف العلمية والإنسانية، للقيام بتلك المهمة الوجودية. مطلوب من شباب وشابات الأمة أن يتابعوا ذلك التيار ويتفاعلوا معه، فهو قادم.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

720 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع