ذو النورين ناصري زاده
حين تغرب شمس الدولة العراقية:تأملات في وطن يحترق بالعصي الدخانية
في الجغرافيا التي علّمت الإنسانية كيف تصوغ الطين حضارةً، والمسمار فكرةً، والنهر طريقًا، تُطلّ علينا اليوم أرض الرافدين من خلف دخانٍ كثيف، ليس هو دخان المعارك الكبرى، بل دخان الفوضى التي تسلّلت من شقوق الدولة الواهنة، لتطفئ الشمس وتُشعل الظلال.
هنا، لا يغرب النور وحده، بل تغرب معه ثقة المواطن، ويهوي ميزان العدالة، وتنكمش الفكرة الوطنية أمام تمدّد العصبيات في عراقٍ يتنفس على وقع الميليشيات، وتتمزق ذاكرته بين خطوط النار وخرائط الولاء، لا بد من مساءلة كبرى: ماذا يعني أن تغيب الدولة؟ وماذا يبقى من الوطن حين يُختصر في هوياتٍ صغيرة لا تسع حلمًا ولا تُنقذ مصيرًا؟ هذا النص محاولةٌ لتأملٍ مرّ، في وجعٍ جميل، اسمه العراق.
وعندما تغيب الشمس، لا تضيء العصي الدخانية سماء الوطن. لأن الدخان – مهما تلون – لا يصنع نهارًا، ولا يقيم حياة، بل هو نَفَسُ الرماد، وصوت الخراب حين يتسلل إلى عظام المدن. وحين يُستبدل ضوء الدولة بوهج الفوضى، ينكشف الجسد الوطني كما يُكشف الجرح أمام العاصفة، بلا ساتر من قانون، ولا ملاذ من عدالة.
لقد صار المشهد العراقي، في صيرورته الحديثة، حكايةً مأساويةً تتكرر فصولها منذ أن تخلخلت أعمدة الدولة وانفرط عقد السلطة الشرعية. لم يعد الوطن ينهض تحت شمسٍ واحدة، بل تتوزع أنحاؤه بين أنواءٍ متضادة، وراياتٍ متنازعة، وسلطاتٍ تتوالد في الظلام كالفطر السام، تتغذى من ضعف المركز، وتزدهر في ظلال العجز. وهنا، لا تعود الميليشيا مجرد ظاهرة أمنية، بل تتحول إلى بنية موازية، تطبع حياة الناس بالخوف، وتعيد صياغة الانتماء بعيدًا عن فكرة المواطنة.
إن الدولة ليست بناءً إداريًا، ولا مؤسسات بيروقراطية فحسب. الدولة، في جوهرها، هي الإطار الأخلاقي والسياسي الذي يضبط حركة المجتمع، ويجعل من التنوع ثراءً، لا تهديدًا. إنها الضامن الوحيد لأن يكون الاختلاف حقًا، لا تهمة، وأن يكون الانتماء للعراق أسبق من أي شارة أخرى تُغرس في صدر المواطن كوشمٍ قسري.
ولكن، ماذا يحدث حين تُكسر ساعة القانون، وتضيع البوصلة الوطنية بين قوى الأمر الواقع؟ عندها تتبدل المفردات: تُصبح الكرامة مرهونة بولاءٍ ضيق، وتغدو الحماية مشروطة بالخضوع، وتُختصر الهوية في خطوط النار التي تقسم الشوارع والمدن والقلوب. يغدو الجار غريبًا، والأخ خصمًا، والوطن ساحةً مؤقتةً للوكلاء.
هكذا ولدت "دول الظل"، كياناتٌ غير مرئية لكنها نافذة، ترفع شعارات "المقاومة" و"الحق" و"الدم"، لكنها تُنبت جدرانًا بين الناس، وتنسج من الخوف نظامًا للحياة. فالمسلح، مهما ادعى التمثيل، لا يبني دولة، ولا يحمي مدنًا، بل يؤسس لعصر العزلة والانغلاق. وكم من مِعْوَلٍ دخل بيتًا عراقيًا لا ليحميه، بل ليحفر فيه قبرًا جديدًا للثقة والأمان!
لقد تحولت الهويات، في زمن الانهيار، من طوق نجاة إلى قيدٍ يخنق النفس. الناس تهرب إلى العشيرة والمذهب والقومية، لا لأنهم كفروا بالوطن، بل لأنهم لم يعودوا يجدونه. غاب القانون، فحكمت الغرائز. انهارت الدولة، فصارت وسائل التواصل منابر للتمزق، لا جسورًا للحوار. يُزرع الكره في العقول كالألغام، ويُعاد تدوير الألم في خطاب الكراهية كما يُعاد تدوير الحطب في مواقد الشتاء الطويل.
فهل نحن أمام قدرٍ محتوم؟ هل كُتب على العراق أن يبقى مرهونًا لدوامات الصراع؟
التاريخ يجيب، بصرخة المجرب لا بنغمة المؤرخ: الدول لا تسقط حين تُهزم عسكريًا فقط، بل حين تُخترق أخلاقيًا، حين يُستبدل القانون بالعصبية، والمؤسسة بالطائفة، والمستقبل بالثأر. سقطت الإمبراطوريات من فارس إلى بيزنطة، ومن الرومان إلى العثمانيين، حين غابت عنها شمس العدالة، وتسلطت الظلال على القرار.
خلاص العراق لا يأتي من وعدٍ انتخابي، ولا من تسوية بين زعماء الطوائف، بل من نهضة وعي جماعي تُعيد للدولة مكانتها بوصفها الإطار الحاضن للجميع، والقاضي على الجميع، والخادم للجميع. فـ"دولة القانون" ليست شعارًا دستوريًا فحسب، بل هي فعل نهضة، وحالة وعي، وشمسٌ لا بد أن تعود لتشرق على هذا التراب المثقل بالجراح.
تلك الشمس، حين تعود، ستحرق أوكار الفساد، وتُذيب الجليد بين الطوائف، وتعيد للسفينة وجهتها. لن يُقاس العراقي بعد اليوم بطائفته، بل بكرامته، ولن يُحاصر بكرديته أو عروبته أو مسيحيته، بل سيُحتفى به كمواطنٍ في ظل دولةٍ تعرف أن تنوعها سرّها، لا خطرها.
حينها فقط، تُدفن خطابات الانقسام تحت أقدام الأمل، ويُعاد ترميم البيت العراقي، لا بالحجارة، بل بالثقة والعدالة. فالعراق لا يحتاج إلى راية جديدة، بل إلى شمس قديمة... شمس الدولة التي طال غيابها. وفي المحصلة، لا خلاص لوطنٍ تهوي مؤسساته إلا بالعودة إلى المعنى الأول: الدولة بوصفها ظل العدالة لا سوط السلطة، وسقف الجميع لا خندق البعض. إن العراق، الذي شيّد الحضارات قبل أن تُقسم الأديان، لن يُرمم إلا بإرادة تجمع لا تُقصي، وبقانون لا يثأر، بل يُنصف. فالميليشيا لا تبني وطنًا، كما أن العشيرة لا تحمي حضارة، والهوية لا تكون نجاةً إلا إذا كانت جسراً لا سكينًا. حين تعود الدولة – لا كهيكل بل كروح – وحين يُرفع القانون فوق الطائفة، وتُصان كرامة الفرد بوصفه إنسانًا حرا لا تابعًا، حينها فقط... تُشرق الشمس من جديد على وادٍ أرادوه خرابًا، فانتفض بالحياة.
773 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع