الحسين بين فقه الدم وطبع الجبل : قراءة كرديّة في وجدان النّبوء.

د.أنور بن أبي بكر الجاف
باحث أكاديمي

الحسين بين فقه الدم وطبع الجبل : قراءة كرديّة في وجدان النّبوء.

ما كان الحسينُ عليه السلام إمامَ فئةٍ دون فئة ولا ثائراً من ثوار العشيرة بل كان المرآةَ الناطقة لضمير السماء ورأس الحكمة حين يُسفِرُ الزمانُ عن وجهه الكالح، فإنْ نظرتَ إليه بعين البصيرة رأيتَ فيه ملامح النبيّ لا تنطفئ وإذا أمعنت في خُطاه يوم عاشوراء رأيتَ قَدَمًا تمشي على الصراط وقدمًا تُزهِر على رماد الفقد .

ولم يكن من الغريب أن يهتزّ الجبلُ له عند وقيعة كربلاء؛ فجبال كردستان حين تُرتِّل دعاء الحسين تُصغي لها الأرضُ كما تُصغي أذُن الجنين لقلب الأم ، وقد قال أهل التحقيق: الكرامة لا تُكتسب بل تُوهبُ وقد وُهِب الحسينُ كمالها كما وُهِبَتْ الجبالُ صبرَها .

في الحسين عَينان: إحداهما تقرأ القرآن بدمعةٍ والأخرى تُناظر سيوف الطغاة بابتسامة، ولقد اجتمع فيه فقه النبوّة وشجاعة العترة، فكان آيةً تمشي وحجّةً تُنطق وسِرًّا يُفهمه من كان له قلبٌ كرديّ النَّخوة عربيُّ العِرق حسينيُّ الولاء..
فلا تسل عن الفقه في دم الحسين، فإنّ كل قطرةٍ منه فتوى وكل شهقة من أهل بيته إجماعٌ ساكت وكل دمعة من زينب حُكمٌ معلَّلٌ بمصالح أعلى من أن تُدرَك بمدارك العوام.
ويا صاحِ إن سألوكَ عن معنى العدل فاقرأه في جبين الحسين حين وقف في رمضاء الطفّ وقد صوّتتْ حرملة بسهمه وأطبق الشمرُ بحدّه ولم يرضَ لنفسه أن يُذِلّها ولو للحظة، هذا هو الفقه الأعلى الذي لا يُدرّس في المعاهد، بل يُروى في مقابر الشهداء ومؤسستها ..
وأما نحن الكرد فما لنا والحسين؟ نحن قومٌ لئن تفرّقَت بنا الألسن جمَعَنا صوت الحسين في سويداء الكرامة. نحن منْ بكى عليه ولم نَرَه ومشى خلفه ولم يُدرِكْه، ومن نادى به في جبال أزمر وقنديل وزاگروس وهلگرد : لبيكَ يا حفيد الرسول وفلذة كبد البتول إنا لا نُساوم!.

وهناك في البرزنجة القصبة لا في جغرافيا مدينة السليمانية فقط بل في جغرافيا القلوب تُبسط السجّادات كما بُسطت أرض الطف وتُشعل الشموع كما اشتعلت خيام الحسين وتُقرأ المقاتل كما تُقرأ في كربلاء والنجف بل كما تُهمس في السماء.

تُحيي البرزنجة يوم عاشوراء لا كذكرى بل كيقين حيّ فتتحوّل الأزقة إلى مآتم وتتوشّح البيوت بالسواد وتضجّ الدماء والدموع بأسماء أصحاب كأنهم سقطوا اليوم. فيها من الصالحين والعارفين والمحبين من لو رآهم ابن طاووس لضمّهم إلى رواة المصرع ولو أدركهم الحسين لقال لهم: "قد كفيتمونا الدفاعَ في آخر الزمان.".

تُقرأ فيها المراثي بالكردية والعربية، ولكن تُفهم بالدم فدمعة الكرديّ حين يبكي الحسين ليست ترجمة بل شهادة .

وفي تكية القادرية العلية الكسنزانية حيث يتهجد القوم بذكر الله واسم الحسين ويمتزج الذكر بالبكاء وترتجف الأجساد على أعتاب المحبة ترى أحفاد الحسين لا بالنسب فقط بل بالنهج والسلوك يدورون حول الحسين كما يدور الفلك حول قطبه يحيرون بالدمع بل بالدم ويُلقون أنفسهم على جمر الولاء كأنهم ما وُجدوا إلا ليُكملوا بصوتهم نداء هل من ناصر؟.

هناك يُشقّ الصدر بالحقيقة لا بالحديد ويُسكب الماء على الجراح لا لتبريدها بل لتفتيق اليقين من صخرٍ جمد في قلوب الغافلين، وهناك لا يُقرأ كهيعص من المصحف الشريف فقط بل من الحناجر التي ما فتئت تُردّد: سلامٌ على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين .


وما الجبلُ إلا شاهدٌ للكرامِ
إذا ما اختلطتْ في الحمى الأقلامِ

فكنْ قَبسًا لا تتبعِ المُستداما
فالعزُّ سيفٌ ما له من غُلامِ

إذا سكتَ القومُ عن قولِ فقهٍ
تكلّمتِ الجوزاءُ بالأنظامِ

فلا تَغتررْ بزيفِ الحُكْمِ حينا
فإنّ العدلَ حُكمُ الأعلامِ

إذا ناح في التكيةِ قلبُ محبٍّ
وأبدى الدموعَ ولم يستترْ

فقلْ: ذاكَ مَنْ في هواه استقامَ
فذابَ كَمِسكٍ على المجمرِ

تكسنزَ في الدمعِ حتى بدا
لهُ سرُّ طه وسيفُ البَشرْ

فما زالَ في السيرِ حتى اهتدى
وذاقَ يقينَ الحسينِ الأغرّ

سقى اللهُ قبرًا بالطفوفِ تَشرَّفا
به الحَقُّ واستعلى البيانُ المُسطَّرا

فما ماتَ مَن للحَقِّ كان مُترجِما
ولا خابَ قومٌ بالحسينِ تَحرَّرا

إذا ساءلوا الجُبْلَانِ: مَن رايةُ الدُّعا
ومَن ضجَّ في أفقِ الجراحِ مُكبِّرا؟

فقالا: شهيدُ العزِّ قامَ لربِّه
وعلَّمَنا أنْ لا نُذِلَّ ونُقهَرا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

559 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع