سرحان - قصة من الحرب المنسية

بسام شكري

سرحان - قصة من الحرب المنسية

قصتي هذه كانت احداثها في صيف 1984 وفي القاطع الأوسط من ساحة العمليات, خلف تخوم منطقة زين القوس حيث كانت وحدتنا تنتشر في مرتفعات شاسعة بتضاريس متنوعة بين الحجرية والرملية وتمتد على مد البصر جرداء خالية من النباتات الا من بعض الأشجار في الوديان السحيقة التي تمر فيها سيول الامطار وقد أصبحت سواقي شديدة الجريان تنبت حولها أشجار حرشيه والكثير من القصب والبردي، ولعدم وجود غطاء نباتي فقد كانت الشمس تسطع مباشرة على الأرض وكانت الأرض تشتعل حتى يظن الرائي انها تتنفس لهبا، كنا نعيش فوق مرتفعات شاهقة تطل على وادي سحيق، معزولين مع الصخور والعقارب والافاعي التي كانت في الغالب بنية اللون مرقطة بلون بني غامق والتي كانت منتشرة بكثرة في تلك المنطقة، من حرارة الجو اللاهب وعدم وجود أشجار كان الصمت يغلب على ذلك المكان الا من همس الرياح اللاهبة وطلقات متقطعة من ناحية العدو وتراشق بالمدفعية بين الحين والأخر من الطرفين، كانت ملاجئنا في المرتفعات التي تطل على العدو مدفونة في الصخور وقد حفرناها بصعوبة بالغة , ولكي لا تنهار تلك الملاجئ علينا استعملنا اكياس الرمل لتغليف الجدران الداخلية, وعلى ذكر أكياس الرمل اتذكر ازمة نقص السكائر والشاي التي حصلت في تلك الفترة بسبب اغلاق الموانئ العراقية بسبب الحرب وهذا ما أصاب العديد من المقاتلين بالصداع وعدم التركيز وغالبية المدخنين العراقيين مصابين بمتلازمة الشاي والسكائر فمع كل رشفة شاي حلو بطعم العسل يدخنون سكارة وهكذا طول اليوم وقد تأثرت واجبات المقاتلين من دوريات ومراصد وكمائن كثيرا فكنا اشاهد البعض في الشقوق الأرضية وقد جلس وراسه منحني على الأرض وحديث الجميع كان في موضوع عدم توفر الشاي والسكائر, ونتيجة لتلك الازمة فقد اخذ المقاتلين يبحثون عن اعقاب السكائر التي سبق لهم وان قاموا بحشرها بين أكياس الرمل بعد الانتهاء من تدخينها واخذ البعض الاخر يجمع ما تناثر في الأرض وقاموا بإعادة غلي الشاي مرة ومرتين وابتكروا طرقا عديدة في تنشيف بقايا الشاي بنشره تحت اشعة الشمس واستمرت تلك الازمة لأكثر من شهر ونصف الى ان قام الملك الحسين بن طلال بإنقاذ الموقف وارسل كميات كبيرة السكائر والشاي للعراق هدية من الاردن لحين تمكن العراق من استيراد ما يحتاجه فكانت فرحة كبيرة لا توصف وقد عاد التركيز للجميع وانتهت تلك الازمة الطارئة وكان المقاتلين يشربون الشاي ويدخنون وهم فخورين بهدية الملك حسين لهم وقد ارتفعت معنوياتهم كثيرا لوجود قائد عربي يقف معهم , شهدت تلك الفترة اضطرابا كبيرا في الجبهة فالأكل غير مهم للعراقي مثل الشاي والإدمان على الشاي الأسود الذي يطلق عليه باللهجة العراقية ( شاي سنكين) أي شاي غامق بالتركي ومشكلة شرب الشاي مشكلة ازلية يعاني منها العراقيين, فهم يتناولون اطعمة دسمة للغاية تحتاج الى شاي غامق لتصريف تلك الدهون, لذلك يعاني العراقيين كثيرا من الأيام الأولى من شهر رمضان لانقطاع الشاي في الصباح.

في غالب الأوقات كانت السماء فوقنا صافية شمسها تبث علينا اشعتها الحارقة بلا رحمة وتحتنا كانت وديان سحيقة تموت فيها الظلال, كنا نعتمد على بغلنا سرحان لنقل الماء والعتاد من أسفل الوادي الى مواضعنا الحصينة على رؤوس المرتفعات وكل يوم يتسلق سرحان المنحدرات الصخرية مرتين الى ثلاث مرات ويحمل معه امالنا وتمسكنا بالحياة, الجيش العراقي يستعمل البغال في المناطق الجبلية منذ تأسيسه وقد اخذ ذلك التقليد من الجيش العثماني , والبغل حيوان ضخم اقوى من الحصان والحمار وهو ناتج تزاوج بينهما والبغل عقيم لا ينجب لأنه خنثى أي انه ليس ذكر ولا انثى وذكائه في الغالب محدود, وفي الجبهة كل سرية جبلية لديها أربعة الى خمسة بغال يتم اطعامها والعناية بها من قبل مقاتل متخصص ومدرب على تلك المهمة وانتشار الجهل بين المقاتلين قد يؤدي الى معاملة سيئة للبغال وحوادث انتحار البغال كثيرة في الجيش العراقي بسبب تشغيلها فترات طويلة او نقل حمولات كبيرة على ظهورها او سوء معاملتها في بعض الأحيان, وقد شهدت عملية انتحار في احدى المرات حيث القى بغل بنفسه من اعلى الجبل الى الوادي باتجاه العدو لكنه لم يصل الى الأرض لأنه ارتطم بكتف الوادي حيث افجر عليه لغمين في وقت واحد, ان لكل بغل في الجيش رقم واسم وبغلنا كان اسمه سرحان وكان ابيض اللون مع بقع بنية اللون في قدميه, وكان يتعامل مع الجميع بأريحية ويحبه الجميع لأنه كان يساعدنا في صعود المرتفعات وهو يحمل على ظهره الماء وصناديق العتاد والارزاق( الطعام في الجيش العراقي يسمى ارزاق والطعام الجاف مثل المعلبات والبسكويت يسمى ارزاق جافة) وكان سرحان لا يأكل من أي طعام خاص بالمقاتلين اذا صادفه في مائدة معدة على الأرض او على طاولة او في الممرات الا اذا قدمنا له الطعام لذلك كنا دائما نعتني به ونعطيه إضافة الى طعامه الخاص مكعبات السكر والخبز وبقايا الأطعمة وقشور الفواكه وكان يحب قشور البطيخ والشمام كثيرا.
في صباح يوم مليء بالغبار وعاصفة ترابية تغطي المنطقة كنا نجلس على حافة الصخور ونراقب سرحان وهو يصعد من اقصى يسار الوادي وهذه كانت المرة الأولى التي يسلك تلك الطريق لان احد المقاتلين أراد اختصار المسافة للوصول الينا فاخذ سرحان الى تلك المنطقة الغير مطروقة, وفجأة انفجر لغم ارضي مدفون تحت حوافره, وقد اكتشفنا لاحقا ان تلك المنطقة هي حقل الغام وكان يحيط بها سلك شائك وعلامات وقد سقط السلك على الأرض نتيجة للرياح او تقادم الزمن عليه ولم يتم اعادته الى مكانه وذلك عندما كانت الوحدة العسكرية التي سبقتنا في المكان, وما ان انفجر اللغم حتى انتفض الوادي وانتشر صدى الانفجار على طول خط الجبهة فركضنا نحو سرحان بحذر شديد خوفا من وجود الغام أخرى في المنطقة وقلوبنا تنبض خوفا عليه فوجدنا سرحان منبسطا فوق الصخور عيناه مفتوحتين كأنه لم يصدق انه مات, جلس حسن الى جانبه يمسح جبينه ويتحسس وجهه لعله ما يزال على قيد الحياة واخذ حسن يكلم نفسه : وين تروح يا سرحان وتتركنا وحدنا هنا؟ الكل واجم فقد كان سرحان صديق الجميع وله حضور دائم وهو كذلك كان موضوع للنكتة في اغلب الأوقات، وبعد ان استوعبنا موت سرحان جلسنا على شكل نصف دائرة حوله وقد أصاب الجميع الإحباط فرغبت بتخفيف الموقف فقلت للجميع: نحن بحاجة ان نعمل له نصب تذكاري فهو شهيد الماء والاكل والعتاد فضحك الجميع، فيما كان سرحان يُدفن تحت الثرى في اسفل الوادي، كانت قلوبنا تتساءل ماذا بعد ان فقدنا سرحان وصحبته؟ من سيحمل الينا الماء؟ ومن سيحمل لنا الارزاق والعتاد إلى مواضعنا في اعلى المرتفعات الجبلية؟ وفي اليوم التالي عملنا جدول يومي يشارك فيه جميع المقاتلين لنقل الماء والارزاق من الوادي الى الأعلى لحين ان يتم جلب بغل اخر بدلا من سرحان, لم يمضي يومين على تلك الحادثة وحيث كنا في جلستنا المعتادة وقت غروب الشمس سمعنا صرخة من اسفل الوادي حيث سقط حسن من على صخرة وهو يحمل جليكان الماء على كتفه الأيمن فنزل اليه زميله سهم مع مقاتل اخر, سهم مقاتل من أبناء الناصرية متوسط القامة قوي البنية يداه من كثرة عمله في الزراعة خشنة قوية قام بربط قدم حسن التي أصابها جرح بسيط لكنه لم يتمكن من الحركة من كثيرة الألم وخوفا من ان تكون القدم قد كسرت فقد قام سهم بربط قدمه بحبل وثبتها على قطعتين خشبيتين من الجانبين وبدلا من الصعود الينا فقد نزل الثلاثة الى اسفل الوادي وتم نقل حسن الى مفرزة الفوج الطبية التي تبعد عنا حوالي الكيلومترين.
خلال يومين غاب سرحان عنا وغاب حسن وقد أصاب الجميع الحزن على الاثنين لان سرحان كان طيبا جدا مطيعا للأوامر لم يسبق وان اسقط أي حمولة من على ظهره وكان يستمع الينا وخصوصا الى حسن ويطيعه اكثر من الاخرين وحسن الفلاح القادم من منطقة ( امام ويس ) القريبة من الجبهة يعرف كيف يتعامل مع الحيوانات, كان حسن في بعض الأحيان يركض مسرعا لجلب الطعام الى سرحان ويقول انه جائع وعندما نساله كيف عرف انه جائع يقول ان اسنانه تحكه ولم نفهم او نعرف ان الاسنان تحك ونكرر السؤال عليه فيخبرنا ان البغل عندما يجوع يبدا بالتكشير عن اللثة ويمسحها بلسانه ويكشر عن اسنانه وهذا ما نسميه في قريتنا ان اسنانه تحكه , وقد انتشرت تلك العبارة بين المقاتلين فعندما كان يجوع احدهم يقول اسناني تحكني فنضحك ونفهم انه جوعان.
بعد نقل حسن الى المفرزة الطبية للعلاج حيث نقل بعدها الى المستشفى الميداني , رجعنا الى الملجأ وقد اصبح الوقت مساء واجتمعنا حول الشاي وكان سهم يسرد النكتة بعد الأخرى وضحكنا تلك الليلة حتى تساقطت الدموع من عيوننا، فرغم كل شيء كنا نعرف انه مادام الضحكة تخرج من قلوبنا فلن ينكسر الوطن في داخلنا فالكل متعاون والكل يساهم في تنظيف المكان وطبخ الطعام وعمل الشاي ثلاثة الى اربع مرات يوميا وكان التعاون في تقسيم الواجبات العسكرية وكأننا عائلة واحدة في الوقت الذي كان الجميع من مختلف انحاء العراق, الجلوس مع سهم كان له نكهة خاصة فكان يبدأ بشرب الشاي وتدخين سيكاره ويبدأ بالكلام بقصة او حكمة لكن ذلك اليوم اخبرنا بانه يشعر بالارتباك والقلق لأننا فقدنا سرحان وحسن في خلال يومين لذلك فهو متشائم ويترقب ان تحل علينا مصيبة قريبا ولم نبالي بما قاله سهم لأنه في بعض الأحيان يخلط بين الجد والفانتازيا الريفية فيشطح .
في اليوم التالي حيث غاب عنا حسن وبينما كانت الشمس ترتفع ببطء في كبد السماء، كانت أرواحنا تتنقل من لحظة إلى أخرى، مثقلةً بتلك الأحداث التي لا تُنسى, الهمسات كانت تجري بيننا كأسرار خافتة بين أعيننا وصدورنا، كلنا يعرف أن الجبهة قد تشتعل في أي لحظة لكننا تعودنا على روتين معروف للجميع وكنا مشغولين بالأعمال اليومية والدخول الى مواضعنا تحت الأرض كلما بدأ القصف المدفعي علينا لكننا لم نلاحظ أي جندي إيراني طول فترة وجودنا في ذلك القاطع الا من عجلات بعيده تمر في الوديان مرة او مرتين يوميا وبما ان تلك العجلات بعيدة عنا وعن مدى اسلحتنا فقد اعتبرناها جزءا من الروتين اليومي ولكن لا شيء يمكن أن يوقف الزمن من أجلنا ويستمر الروتين، صرنا نعيش على عتبات حافة الأمل بان الهدوء سوف يستمر في الجبهة لكن ذلك لم يحصل فبعد اقل من أسبوع وفيما نحن نتناول طعام الغداء حتى سمعنا رمي عتاد خفيف يأتي من بعيد وقبل الانتهاء من الغداء اصبح صوت الرصاص اكثر كثافة وقربا منا فتيقنا ان هناك هجوم إيراني علينا من جهة الشرق فمن خلال خبرتنا لو سمعنا أصوات قصف مدفعي او هاون فهذا شيء طبيعي يحصل على مدار اليوم لكن أصوات رصاص بتلك الكثافة فهذا يعني ان هناك هجوما بريا علينا , مرت ربع ساعة واقتربت أصوات الرصاص اكثر فاكثر وعندما تبين لمراصدنا هدف العدو بالوصول الى الشارع العريض في الوادي الذي يخترق فوجنا والفوج الأول صدرت الأوامر بان نتحول من جهة جبهة العدو الى الجهة الخلفية وتركنا بعض المقاتلين والمراصد لمراقبة جبهتنا مع العدو وكان الفوج الأول ينتشر على تلة مرتفعة في يمين فوجنا بحيث نشكل مع بعض ما يشبه رأس السهم بيننا الوادي الذي يمر من وسطه الشارع, وفجأة راينا مجموعة من العجلات العسكرية المليئة بالجنود تتقدمهم مجموعة من الدراجات البخارية التي تحمل ثلاثة اشخاص لكل منها تتقدم الينا بسرعة من شرق المرتفع الذي نحن فيه عندها قمنا بسحب المدرعة التي تقف على الشارع الترابي في اسفل الوادي بين الجبلين لنفسح الطريق للإيرانيين بالدخول بين الجبلين وتوزع القناصين خلف الصخور عند الفتحة وفي نفس الوقت قام الفوج الأول الذي كانت مواضعه على يسارنا بتغيير اتجاهه من الجبهة الى الخلف وتحركت اربع مدرعات بسرعة على منطقة مرتفعة تطل على الفتحة الكبيرة بين الجبلين , لقد كانت مدرعاتنا تحمل صواريخ ميلان ومالوتكا اليوغسلافية التي ترمي الصواريخ المضادة للدروع بواسطة سلك كهربائي مداه تقريبا ثلاثة كيلومترات, في تلك اللحظات كنا نخرج الاعتدة من الملاجئ والمواضع ونضعها قريبا منا مع بعض الماء والخبز والتمر وتجمعنا نحن والفوج الأول فوق الوادي لنعمل كماشة , كان امر الفوج الأول في إجازة وكان مكانه معاون امر الفوج وهو برتبه رائد وكان امر فوجنا موجود فقام بإصدار الأوامر للفوجين بعدم رمي أي اطلاقة الى ان يقوم هو بإطلاق اطلاقة دخان من مسدسه الخاص بإطلاقات الدخان في قلب الوادي وامر الجميع بعدم الحركة الى ان يقترب الإيرانيين ويصبحون في منتصف الوادي, من جانبهم الإيرانيين كانوا في عالم اخر فالكل كان يصرخ الله اكبر خميني رغبر وتعني بالفارسية خميني العظيم ونحن كنا نردد بصمت الله اكبر خميني الاغبر, وفي اقل من عشر دقائق وصلوا الينا ودخلوا الوادي ولم يلاحظوا المدرعات ومدافع 106 ملم الرابضة فوق قمم التلال, ووصلوا تقريبا الى نهاية الوادي الذي يؤدي الى شارع عرض يربطنا بمقر اللواء, كانت عدد الشاحنات التي دخلت الوادي تسعة شاحنة فيها عدد كبير من الجنود مع اربع مدافع 106 محمولة على سيارات مكشوفة وما يزيد على عشرة دراجات بخارية تحمل كل منها ثلاثة جنود , وفجأة سمعنا صوتا عالي هز الوادي ودخان احمر في وسط الوادي وفهمنا ان المقدم عدنان امر الفوج بدأ المعركة, بدأت المعركة بمشهد مضحك فالمقدم عدنان عندما قام برمي اطلاقة الدخان في اسفل الوادي اصابت مقدمة احدى الشاحنات الإيرانية وانتشر اللون الأحمر في الشاحنة فتوقفت وخرج السائق واثنين من الجنود الايرانيين وقد اصبح لونهم احمر كأنهم شياطين حمر يركضون للاحتماء بالصخور القريبة من الرمي الكثيف الذي اصبح يشبه المطر, وبدأنا جميعا وبجميع الأسلحة الرمي على الوادي ونحن لا نعرف انضحك من مشهد الشياطين الحمر الثلاثة ام ننشغل بالقتال, استمر القتال ولم تتمكن شاحنة واحدة من الهروب حيث قامت احدى مدرعات الفوج الاول بإطلاق عدة صواريخ على اخر شاحنة دخلت الوادي فاحترقت الشاحنة وسدت عليهم طريق الهروب والعودة من حيث جاءوا واصبح الإيرانيين مثل الجرذان يتراكضون للاحتماء بالصخور المنتشرة في الوادي واستمرت المعركة ( المصيدة) نصف ساعة تقريبا وقتل العديد من الإيرانيين وتم اسر البقية .
ما ان بدأت المعركة حتى نزلا مئات الجنود الإيرانيين من الشاحنات وانتشروا يحتمون بالصخور الكبيرة ويرمون علينا , ومن معروف فان الإيرانيين يتبعون مبدأ الكثرة تغلب الشجاعة في الحرب وهم لا يقاتلون رجلا لرجل لما يتمتعون به من جبن, وانما يرسلون اعداد كبيرة لقتال مجموعة صغيرة وقد اعتقدوا بان عددنا صغير جدا مقارنة بهم , وعندما شعروا انهم وقعوا في مصيدة لم يبذلوا جهدا كبيرة في القتال او الهروب فاحتموا بالصخور الكبيرة في الوادي ورفعوا راية بيضاء, فتوقفنا تدريجيا عن الرمي عليهم , ومدافعهم الأربعة من عيار 106 ملم المحمولة على السيارات فلم تطلق أي اطلاقة بل تم قتل من كان فيها وهم في أماكنهم وخلال تلك المعركة الخاطفة فقد سقط منا عدد من الابطال لعدم خبرتهم في القتال وعدم اختبائهم خلف الصخور واخطأ بعضهم بالنزول الى الوادي مما عرضهم لرصاص جنود العدو الذين لم يتوقعوا ان نكون بهذه الكثافة لاعتقادهم القدرة على اختراقنا للوصول الى مقر اللواء.
انجلى غبار المعركة وصدرت الأوامر بإيقاف الرمي وعدم الحركة الى ان نقوم بأخذ أسلحة المهاجمين وبعد ان توقفنا عن اطلاق النار توقف الإيرانيين كذلك واعتقدنا انهم سوف يستسلمون فنزل خمسة من مقاتلينا وخمسة من مقاتلي الفوج الاول لتجميع الاسرى وفي لمح البصر غدر بهم الإيرانيين الذين اعلنوا الاستسلام وقتلوا العشرة امام اعيننا فاستشاط غيظا مقاتلينا وخصوصا المنحدرين من مناطق الأرياف العراقية حيث ان دمهم حار وحميتهم عالية للانتقام من قتلة رفاقهم فتحول الوادي بصخوره وترابه الى عاصفة ترابية ارتفعت الى عنان السماء وقتلنا عدد منهم الى ان سمعنا صراخهم وقد رفعوا راية بيضاء مرة أخرى عندها توقفنا ونزلنا بحذر لأخذهم اسرى وتم ارسالهم الى مقر اللواء هم وما تبقى من أسلحتهم وشاحناتهم, وقد عالجنا الجرحى بما يتوفر لدينا من إمكانيات وقمنا بدفن الموتى في الوادي.
رغم حدة المعركة ومرارة ذلك اليوم، إلا أن الضحكة تبقى سيد الموقف، ففي اللحظات التي كان الجميع يشعر بالتعب والارهاق، لم يتوقف قلب مبارك المقاتل البصري الأسمر ذو الابتسامة المشرقة عن المزاح. وكان يقول دائما: "في الحرب، نحن لا نركض وراء النجاة فقط، بل نركض وراء النكتة التي تجعلنا ننسى الموت." كانت هذه هي ثقافة الحرب التي نعيشها، إذ كان مزاح مبارك يصلح أن يكون علاجاً ضد الألم. في تلك اللحظات، كنا بحاجة لما هو أكثر من الأسلحة، كنا بحاجة إلى أمل، وكانت النكتة تضع لمسة أمل في قلوبنا، المقاتلين من مدينة البصرة مميزين دائما فمعنوياتهم مرتفعة ولو تعبوا تجمعوا في حلقة واخذوا بالغناء وموسيقاهم التصفيق الذي يسمونه الخشابة والاتهم الطناجر وأدوات الطبخ.
على الرغم من مرور 36 سنة على نهاية الحرب العراقية الإيرانية التي أطلق عليها فيما بعد حرب الخليج الأولى فاني مازلت احن الى تلك الأماكن التي قضيت فيها أجمل أيام الشباب وأكثرها خطورة وأتمنى ان اعود يوما ما لأتفقد تلك الأماكن وادخل الملاجيء التي كنا نعيش فيها لعلي أجد خوذة قد كتب أحد المقاتلين اسمه في اطارها الجلدي الداخلي، او أجد دفتر مذكرات لأستعيد تلك الذكريات واعيش نشوى أيام الصبا والشباب.
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

844 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع