منتدى السليمانية التاسع: لحظة عراقية دستورية في قلب عاصفة الشرق الأوسط.

د. أنور أبوبكر الجاف

منتدى السليمانية التاسع: لحظة عراقية دستورية في قلب عاصفة الشرق الأوسط.

مرّ هذا اليوم السادس عشر من نيسان/أبريل 2025 وقد ألقى الثلج الأبيض ستاره الهادئ على قمم گويژە وأزمر في السليمانية ليبرد شيئًا من حرارة المشهد السياسي العراقي المحتقن، بينما لا تزال أروقة السياسة في بغداد وأربيل تضجّ بأسئلتها القديمة والجديدة.

فقد اجتمعت فيه تناقضات العراق لا لتتناحر بل لتتحاور ولعل هذا هو المعنى الأعمق الذي يمكن أن يُستخلص من النسخة التاسعة من “منتدى السليمانية” التي انعقدت كعادتها السنوية في رحاب وحرم الجامعة الأمريكية في السليمانية تلك المدينة التي أصبحت بحقّ رئة متنفسة وقلبًا نابضًا للفكر السياسي في الشرق الأوسط بفضل ما تختزنه من حيوية طبيعية وإرث فنّي و ثقافي وكفاح شعب لا ينسى دروس التاريخ ...

إنَّ منتدى هذا العام الذي استضاف نخبة من قادة الدولة العراقية بدءًا من رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني ورئيس حكومة إقليم كردستان ورئيس وزرائه نیچیرڤان و مسرور بارزاني ووزير داخليته.

إلى جانب وجوه دبلوماسية دولية بارزة من أمريكا وإيران والخليج وأوروبا جاء محمّلًا بتحديات الإقليم ومتغيرات الجغرافيا السياسية المتسارعة في منطقة تضطرب فوق أرضها ملفات معقدة: من مستقبل العلاقة الإيرانية-الأمريكي إلى سيناريوهات السلام التركي- الكردي ومن تداعيات الحرب في سوريا إلى تقلبات مناخية تُهدد مجمل المنطقة.

وبينما كانت جلسات المنتدى تناقش هذه المحاور الدقيقة لم يكن الحضور مجرد تكرار سنوي لمراسيم دبلوماسية بل بدت السليمانية وكأنها تسعى فعليًا إلى تقديم نفسها بوصفها منصة جامعة لكلّ ما تفرّق في بغداد أو طهران أو واشنطن. وها هو الثلج الذي كسا المدينة عشية انعقاد المنتدى يتحوّل إلى رمزٍ نقيّ لحوار يريد أن يزيل تراكمات سوء الفهم ولو من على سطح الخطابات.

فلم تكن السليمانية في هذا المشهد السياسي مجرد مدينة استضافت الوفود بل كانت كما وصفها رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني : إنَّ السليمانيّة شعلةً تنير دروب العلم والثقافة والحرية. وقد قال في العام الماضي في لحظة وجدانية: “أنا من السليمانية، لأن نصفي منها”، في إشارة إلى أصل والدته التي تنحدر من عائلة عريقة في المدينة، وهي عبارة تختزل رمزية الانتماء العميق وترسم جسرًا من الودّ بين أربيل والسليمانية بين الدم والسياسة والتاريخ والمستقبل.

ولا يمكن الحديث عن منتدى السليمانية من دون الإشارة إلى مهندسه السياسي الرئيس العراقي السابق الدكتور برهم صالح ابن مدينة السليمانية ونجل احد قضاتها وحفيد زهادها الصالح الذي استطاع لتسع سنوات متواصلة أنْ يجمع تحت سقف هذا الحدث السياسي السنوي الشتات و متناقضات خارقة للعادة: (أمريكا وروسيا، إيران وأطراف الخليج، الكرد والعرب، الشيعة والسنة، الديمقراطي والاتحاد ، بل حتى منْ كانوا في خصومة سياسية معه حضروا المنتدى بشخصهم ولحمهم ودمهم … وفي ذلك دلالة فذة على فنّ صناعة اللقاء السياسي على الرغم من التنافر العقائدي والحزبي.

ولقد وصف أحد المحللين الحاضرين المشهد بقوله: “السليمانية لم تعد فقط مدينة جبلية جميلة، بل تحوّلت إلى قاعة دائمة للمراجعة الدستورية غير المعلنة” فيما كتب أحد المثقفين: “ما يجري في منتدى السليمانية لا يقل شأنًا عن مؤتمرات جنيف أو ميونيخ أو داڤوس، لكن الفرق أنّه يتم بإرادة عراقية من داخل الأرض لا بإملاءات فوقها”.

ولعلّ ما ميّز هذا المنتدى أيضًا هو تركيزه المتصاعد على المناخ وتحديات الاستدامة بوصفها أزمة أمن قومي لا تقل خطرًا عن الفساد أو الإرهاب ، وهكذا بدا النقاش كأنه يتجه نحو مقاربة شمولية تجمع بين الجيوسياسة والاقتصاد والمجتمع بدلاً من البقاء أسيرًا للمحاور الأمنية والتوازنات التقليدية فقط.

ومن اللافت أيضًا أن جلسات المنتدى لم تخلُ من إشارات واضحة إلى ضرورة سنِّ قوانين ضرورية ناجعة و مراجعة الدستور العراقي وإعادة بناء العلاقة بين المركز والإقليم على أساس تفاهم حقيقي وجوهري وهو ما أكده الرئيس السابق د. برهم صالح بقوله: “هناك دفعٌ حقيقيّ نحو حلّ جذريّ للمشكلات بين إقليم كردستان وبغداد”. وقد بدت تصريحاته كأنها تلخّص ما يدور خلف الكواليس من تفاهمات لم تُكشف أوراقها كلها بعد، فهذا هو العمل الذي يميز ابن السليمانية عن غيرها والتي اشاد بها بحق دولة الرئيس محمد شياع السوداني عندما ذكر ان السليمانية مدينة جمال والثقافة والفن والكفاح المشرف ضد الدكتاتورية والطغيان" وهذا دليل على أنَها فضلا عن كونها عروسة مدن الشرق الأوسط على الإطلاق فقد أصبحت منصة حوارية تجمع المختلفين و على قدرتها على توحيد الصفوف وتعزيز التفاهم بين الأطراف المتنوعة.

هذا، و يبدو أن منتدى السليمانية التاسع لم يكن فقط لقاءً أكاديميًا أو سياسيًا بل كان فصلًا حيويًا من سردية عراقية تبحث عن عقد اجتماعي جديد وعقل سياسي يتجاوز ثنائية المركز والهامش بل وينظر إلى ما هو أبعد من ذلك: عراق فدراليّ دستوريّ حقيقي يعترف بتنوعه لا كأزمة بل كفرصة تأسيسية جديدة، وعليه نقول:

إذا اجتمعت خصوم الأمس فيهِ
فذاك دليل حلمٍ لا يُدانى
ومن جمع الأضداد في دار سلمٍ
كمن أحيا رميمًا كان فانى

فگويژە في وقارٍ تستكينُ
وأزمرُ في كفاحٍ لا يلينُ

ما الحارسانِ إن غفلت مدينةٌ
يُنادي پیرمگرونُ: لا تَهونُوا!

الباحث الأكاديمي : د. أنور أبوبكر الجاف
١٦/ ٤ / ٢٠٢٥

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1457 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع