إبراهيم فاضل الناصري
الجاهلية تعود في هذا الزمن الموقوذ
(الجاهلية) في وجهها المقيت والظلامي إن هي الا حالة وليست مرحلة، وهذا يعني أنها ليست امرا قد مضى وانقضى، وانما ممكن انها تعود بعودة مسبباتها ومظاهرها وظواهرها. فقد ترجع الجاهلية ومعها كل مظاهرها العارمة وظواهرها الهادمة، فتكون جاهليةً كاملةً، لها نفسُ حكمِ وشكل الجاهليةِ الاولى مع اختلاف الاعصر.
فممكن تكون الجاهلية ظاهرةً اجتماعيةً عامةً، او ممكن تكون حالة خاصة، تظهر بعضُ علاماتها في بعض المجتمعات القلقة. وكلُّ هذا ممكن ان يحصل والناس مسلمون كحالنا، بمعنى ان الفردُ او المجتمع ممكن انه يتحلى بصفةً ما من صفات الجاهلية الاولى، وهو مسلم وهو متمدن ومتحضر وعصري المظاهر والهوى.
إنَّ الإسلام كدين عندما أشرق في البدئ لم يأتي لكي يحارب الجاهلية في صورتها النمطية الساذجة في تصورنا المحدود والمُكوَّنة من صنم، او من معبد، وما شاكل ذلك فقط، وانما جاء الإسلام لينقل البشرية تلك النقلة الهائلة في التصورات وفي انماط معالجة مسائل الحياة؛ تصور الإنسان عن عيشه، وتصوره عن كيانه، وتصوره عن مجموعة القيم التي تضبط حياته وتُوجهها، وغيرها من القوانين المنظمة لحياته.
لقد جاء الإسلام ليُسقط النُّظم والتقاليد والعادات والأعراف التي كانت قائمة على (العنصرية) وعلى (الطبقية)، وعلى (القبلية) او الداعية لها من التي تميز فئة على أخرى او شريحة على اخرة او شخص على اخر، لا لسبب منطقي، ولكن لاختلاف الفراش الذي وُلدوا فيه او لاختلاف جنسهم او طبقتهم او انتماءهم. وجاء الإسلام ليقرر أعظم مبادئ الكون، وأهم قيم حفظ المجتمعات، جاء بالتسامح وبالمساواة وجاء بالعفو وجاء بالرحمة وجاء بالحرية وبالرفاهية وجاء أيضا بقانون تفضيل الناس بأعمالهم وبكفاءاتهم ولم يأتي بالتمايز او بالتفاخر او بغمط الحقوق كما لم يأتي بالعنصرية ولا بالمحسوبية ولا بالفئوية ولا بالطبقية ولا بالمصلحية ولا حتى بالقمع او بالجبرية. وعاش المسلمون في الصدر الأول على مكارم الاخلاق زمناً رغداً، وزمنا مثاليا حتى بدأت عرى القيم والمباديء تنقض عروة عروة وبدأ المجتمع العربي يسترجع قيم الجاهلية واحدة تلو الأخرى ويجعلها تحكم حياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والثقافية والروحية. وإذا أردت أن تعرف رُقيَّ مجتمع ما، ومدى بعده او قربه من قيم الجاهلية فعليك بمعرفة طريقته في التعامل مع افراده وفي تقييم أفراده، وعلى أي أساس يُقدِّم بعضهم على بعض فإذا رأيته يُقدِّم ويفضل ويشرّف واحداً على الآخر بناءً على دمه او نسبه او لونه او علاقته وقربه من الحاكم، او على ما يرثه من ألقاب شرف، فاعلم أنه مجتمع متخلف وظالم، يعيش حالة الجاهلية التي أعنى في أوضح صورها فيا ضيعة الجهود التي رسخها الجدود
إنَّ الإنسان هو الذي يصنعُ جاهَه الاجتماعي ووجاهته، ويبني مجدَه وشرفَه الاعتباري، ويتقدمُ قومَه واقرانه وأبناء بلدته بحكمته وتجربته، وكفاءته ويسودُ عليهم بمواقفه ومآثره. وإنَّ المجتمع هو الذي يفرز أشرافه وسادته نتيجة لما يراه منهم، وبسبب ما يقدمونه له. وإنَّ من الحمق، كلِّ الحمق، أن يُقدم الإنسانُ نفسَه على الناس بشيءٍ لا يدَ له فيه، ولم يكتسبه بجهده. إنه يزرع بذور الانقسام في المجتمع، فيقطع الصلات، ويغرس الأحقاد، ويثير أعاصير الكيد والانتقام.
إن الجاهلية ان هي الا وليدةُ حالةٍ معرفيةٍ ونفسيةٍ شاذة وليس شكلية وهي حالة متجددة وليست منتهية. وان المراقب لصورة مجتمعنا اليوم سيلمس كيف اننا قد احيينا الجاهلية من جديد فبتنا ونحن عليها وما العشائرية والمحسوبية والطائفية والمصلحية والفئوية والطبقية التي تخيم بيننا الا دلائل واستشهادات على ذلك
فيا ضياع النصوص السماوية ويا ضياع القوانين الارضية، اذ انها كلها قد ذهبت أدراج الرياح بتكالب حالة مسكونة بقيم الجاهلية.
969 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع