د.أنور أبوبكر كريم الجاف
"الأكراد أمة ممزقة وهوية لاتموت"
الأكرادُ إحدى أقدم المجموعات العرقية القومية في الشرق الأوسط وجذورهم ضاربة في عمق التاريخ متغلغلة في جغرافية تمتد عبر العراق وسوريا وتركيا وإيران، فضلاً عن انتشارهم في بعض الدول المجاورة.
وعلى الرغم من أن الكيان القومي الكردي لم يتجسد في دولة مستقلة معترف بها بيد أن هذه الأمة بقيت متماسكة بثقافتها ولغتها وتقاليدها وتجذرها على ارضها وعلى الرغم من العقود الطويلة من القمع والتقسيم والتلاعب السياسي الذي فرض عليهم فأصبحوا ضحايا الخرائط التي رسمتها القوى الاستعمارية والتي وزعت وطنهم التاريخي بين عدة دول دون أن تمنحهم فرصة تقرير مصيرهم.
فلم تكن كردستان مجرد بقعة جغرافية متناثرة بل هي موطن أصيل لأمة احتفظت بلغتها رغم كل محاولات الطمس والاندماج القسري. ان اللغة الكردية التي تعود إلى العائلة الهندو-أوروبية من أكثر الأدلة وضوحًا على وحدة الشعب الكردي مع تعدد لهجاتها فهي لم تكن مجرد أداة تواصل بل حملت معها التاريخ والتراث والأدب والهوية القومية وواجهت تحديات كبرى من التتريك والتعريب والتفريس ولكنها بقيت صامدة في وجدان الشعب متجددة في شعره وأغانيه وأساطيره وملاحمه.
وإن الغنى الثقافي للأكراد لم يكن مقتصرًا على البعد اللغوي فقط بل انعكس في تعدديتهم الدينية والمذهبية وهو ما جعلهم نموذجًا حقيقيًا للتعايش الذي لم تصنعه السياسات بل فرضه واقعهم التاريخي، فمنذ قرون طويلة عاش بينهم المسلم والمسيحي واليهودي والأرمني والشركسي وغيرهم كما شكلت الديانات القديمة مثل الزرادشتية والإيزيدية والكاكائية جذورًا روحية متأصلة في الهوية الكردية.
لم يكن الإيمان بالنسبة للأكراد حاجزًا للتفرقة بل عاملًا إضافيًا أثرى نسيجهم الاجتماعي ، للأسف أن هذا التعدد قد استُغل سياسيًا لخلق الفرقة داخل الأمة الواحدة، لتُزرع بذور الشك بين مكونات كانت في الأصل متسالمة متشابكة ومتآلفة.
ففي العراق كان الوجود الكردي واضحًا منذ فجر التاريخ، ليس فقط كلغة وشعب بل أيضًا كأرض وتاريخ وممالك قديمة ازدهرت في شمال وادي الرافدين. ولم يكن الأكراد في يوم من الأيام طارئين أو دخلاء على هذه الجغرافيا بل كانوا أحد الأعمدة الأساسية في تشكيل الحضارات التي قامت في المنطقة. ومع ذلك كانت السياسة الحديثة قاسية عليهم، إذ لم تكتف بحرمانهم من حقهم القومي بل سعت إلى تفكيك نسيجهم الاجتماعي فأصبح الكردي المسلم يُعامل بمعايير مختلفة عن الكردي الإيزيدي أو المسيحي، وتزايدت محاولات عزل الشبك والكاكائيين ولو أن التاريخ والجغرافيا يشهدان بأنهم جميعًا أبناء أمة واحدة.
ان النكبات التي تعرض لها الأكراد لم تقتصر على فقدان وطن مستقل بل امتدت إلى حملات الإبادة والتهجير والتغيير الديموغرافي بدءًا من مذابح الدولة العثمانية، وصولًا إلى عمليات الأنفال في العراق وقصف المدن الكردية في سوريا والتنكيل بالحقوق في تركيا وإيران. وفوق ذلك لم يخلُ التاريخ الكردي من مقاومات متكررة ضد الظلم فكأن هذه الأمة قد كُتب عليها أن تبقى في صراع دائم بين الوجود والفناء. ومع ذلك بقي الأكراد قادرين على النهوض في كل مرة، يحملون معهم أحلامهم رغم تبددها، ويبنون من ركام القرى المحروقة قصائد عن الحرية، ومن جراحهم أناشيد عن المستقبل.
إن الجغرافيا السياسية التي فُرضت على الأكراد لم تفرقهم فقط كدولة بل حاولت تفتيتهم داخليًا فأصبح الكردي الإيزيدي يُعامل على أنه أقل انتماءً إلى قوميته، مع أن كل تفاصيل حياته تعكس كرديته، وكذلك الأمر مع الشبك الذين حاولت بعض القوى دفعهم نحو هوية منفصلة رغم أن لغتهم وتقاليدهم تثبت بوضوح أنهم جزء أصيل من النسيج الكردي، والكاكائيون الذين حاول البعض تقديمهم كمجموعة دينية منفصلة عن الانتماء القومي بينما أن جلّ شيوخهم وشعرائهم لطالما تغنّوا بكرديتهم وحتى المسيحيون الأكراد واليهود الذين نزحوا من كردستان نحو الشتات لم يكونوا يومًا خارج الهوية الكردية رغم أنهم جُردوا منها قسرًا عبر القرارات السياسية.
وعلى عكس كل التحديات التي واجهتها الأمة الكردية بقي الأكراد يشكلون اليوم رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط بعد العرب والفرس والترك ومع ذلك فهم ما يزالون الأقل حظًا في الحصول على كيان سياسي يعبر عن وجودهم ، إذ تظل كردستان ممزقة بين حدود أربع دول تتعامل مع القضية الكردية باعتبارها مسألة أمنية لا مسألة قومية مشروعة. وبينما حصلت بعض الشعوب على استقلالها في مراحل مختلفة من التاريخ الحديث بقي الأكراد تحت وطأة التفاهمات الدولية التي لم تمنحهم سوى حقوق محدودة، بل وأحيانًا مشروطة بسياسات القوى الكبرى.
وإذا كان الحديث عن التنوع داخل الأمة الكردية مهمًا فمن الضروري الإشارة إلى الكرد الفيلبيين الذين يحملون اسمهم من منطقتهم التاريخية، حيث تعرضوا عبر عقود طويلة لمحاولات طمس لهويتهم وتغيير انتمائهم القومي تمامًا كما جرى مع مجموعات أخرى من الأكراد الذين قُسموا وفق سياسات الدول التي يعيشون فيها. هؤلاء، كما هو حال الشبك والإيزيديين والكاكائيين لم يكونوا يومًا خارج الإطار القومي الكردي، لكنهم دفعوا ثمن السياسات التي سعت إلى تجزئة القومية الكردية إلى هويات فرعية يمكن التلاعب بها وفقًا للمصالح السياسية.
وفي ظل هذا الواقع لا يمكن تجاهل أن كل محاولات دمج الأكراد ضمن الدول التي يتوزعون فيها لم تنجح في محو هويتهم رغم استخدام أساليب القهر السياسي والاقتصادي فعلى الرغم من أن البعض يعتقد أن إقليم كردستان العراق يمثل نموذجًا للكيان الكردي إلا أن الحقيقة أكثر تعقيدًا، فالإقليم محاط بالضغوطات من كل الجهات ويتعرض لهجمات عسكرية متكررة ويُفرض عليه حصار اقتصادي يجعل من الاستقلال الحقيقي أمرًا نظريًا أكثر منه واقعًا، أما في سوريا فالكُرد يواجهون معضلة الوجود ذاته، إذ يتم التعامل معهم كورقة ضغط إقليمية وليس ككيان له حقوقه المشروعة. في تركيا وإيران رغم الخطاب الرسمي حول التنوع ما تزال السياسات القمعية تحكم التعامل مع الأكراد، فهم دومًا إما مصدر تهديد أو أداة يمكن استخدامها وفقًا لمقتضيات اللحظة السياسية.
وإذا كان العالم قد اعتاد التعامل مع الأكراد باعتبارهم مشكلة أمنية أو سياسية فمن الأولى أن يُنظر إليهم كأمةٍ لها حقها في تقرير مصيرها تمامًا كما أُعطيت شعوب أخرى في الشرق الأوسط الفرصة لتشكيل دولها وهوياتها. إذ لا يمكن تحقيق الاستقرار في المنطقة دون الاعتراف بحقيقة أن هذه الأمة رغم تمزقها ماتزال متماسكة في ثقافتها وتطلعاتها وحقوقها التي لا تسقط بالتقادم ولا تذوب تحت أي مخطط يُراد له أن يجعلها منسية.
صفوة القول: إن القومية الكردية ليست مجرّد قضية سياسية بل هي امتداد لحضارةٍ كانت وستظل قائمة مهما حاولت الخرائط والحدود طمسها او طمس معالمها .
695 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع