"نحبك يا نعيمة": شهادات بوح واعتراف: جدل الخاص والعام
بقلم: أ. د. رشيد برهون/ المغرب
صدرت عن مركز التنور الثقافي الطبعة الأولى (2025) لكتاب "نحبك يا نعيمة، شهادات إنسانية وإبداعية بأقلام من عاصروها وأحبوها"، من تأليف دة. سناء شعلان. سأحاول في هذا التقديم استعراض بعض مضامين هذا المؤلَّف، والقيم الإنسانية التي ينتصر لها، مع التطرق للخصائص الفنية لجنس الشهادة، انطلاقا من المقالات التي تحمل توقيع شخصيات، تتوزع بين الأقارب وأفراد العائلة والباحثين والأكاديميين والأدباء والصحفيين والإعلاميين والناشطين في مجال حقوق الإنسان والعمل الإنساني... والحال أنه ليس من السهل استعراض مضامين هذا الكتاب الضخم (704 صفحة)، لهذا سأستهدي بمجموعة من الأسئلة التي قد تساعد على تحليل محتوياته والتماس خيط أو بالأحرى خيوط ناظمة تجمع بين مختلف الشهادات: ما هي دلالات عنوان الكتاب وأبعاده؟ ما هي القيم التي ينبني عليها جنس الشهادة استنادا إلى هذه المساهمات؟ ما هي الصورة الشخصية (البورتريه) التي ترسمها هذه الشهادات للراحلة؟ ما هي سمات شخصيتها كما تجلوها الشهادات؟ هل يجتمع في هذه الصورة الحميمي الشخصي والعمومي المنفتح على المجتمع والقضايا العامة؟ هل أفلحت بعض هذه الشهادات في تقديم بعض ملامح صورة نعيمة المشايخ، بعيدا عن السمات النمطية المكرورة التي تجعل منها كيانا مجردا لا إنسانة فياضة بالحياة قوة وضعفا؟
دلالات العنوان وأبعاده الرمزية
يحمل العنوان، "نحبك يا نعيمة"، بعدًا وجدانيًا عميقًا، فهو ليس مجرد عنوان توثيقي أو تأبيني، بل هو تعبير مباشر عن مشاعر حب وتقدير للراحلة نعيمة المشايخ. فالفعل المضارع "نحبّكِ" يشير إلى استمرارية المحبة، مما يوحي بأن تأثير نعيمة المشايخ لم يتوقف برحيلها، بل بقي حاضرًا في قلوب من عرفوها. واستخدام الضمير المخاطب "كِ" يستحضر الجانب الحميمي الذي يتحدى الغياب، وكأن الخطاب موجّه مباشرة إلى نعيمة، مما يمنح الكتاب طابعًا شخصيًا وعاطفيًا. وأداة النداء "يا" تضيف بُعدًا وجدانيًا، وكأن الكتّاب ينادون الراحلة بأسلوب مباشر يعكس القرب العاطفي منها. كما أن ذكر اسمها مجردًا دون ألقاب يضفي لمسة من الألفة والمحبة. وهو يعكس بدقة طبيعة الكتاب، الذي يضم شهادات لأشخاص عرفوا نعيمة المشايخ وأرادوا التعبير عن حبهم لها، وهو يخرق الطابع الرسمي، ليعكس أجواء الشهادات التي تتميز بالحميمية، والاعتراف، والتقدير العاطفي. واستنادا إلى الشهادات نفسها، قد لا يعني الحب، الذي يشير إليه العنوان، مجرد مشاعر شخصية، بل هو تقدير لدورها الثقافي، الإنساني، والأكاديمي، انسجاما أيضا مع المحتوى الذي يجمع بين الكتابات الأدبية، والإنسانية، والشهادات الشخصية. باختصار، يعبر العنوان بصدق عن طبيعة الكتاب، حيث يخلق حالة وجدانية حتى قبل قراءة الشهادات، ما يجعله متميزا عن العناوين التقليدية التي قد تبدو جافة أو تأبينية.
القيم الإنسانية التي تؤطر الكتاب
تصدر الشهادات المتضمنة في الكتاب عن مجموعة من القيم النبيلة، كالوفاء والتقدير والمحبة والامتنان والعرفان، ضمن ثقافة الاعتراف بأبعادها الإنسانية الرحبة، وأيضا الوجدانية والذاتية. فهذه الكتابات تمثل في الآن نفسه محاولة لتخليد ذكرى نعيمة المشايخ بوصفها "شخصية عمومية"، وتوثيق تجربة فردية وازنة، تجعل من صاحبتها إحدى الشخصيات المؤثرة في محيطها، مع إدراجها ضمن سياقها الثقافي والاجتماعي؛ وتشكل أيضا محاولة لكتابة نوع من التاريخ الأدبي والاجتماعي ورسم ذاكرة جماعية انطلاقا من تجارب إنسانية دالة؛ وتعكس هذه الشهادات، من جانب آخر، تجربة كُتَّابها مع الراحلة، مما يضفي طابعا ذاتيا وحميميا على الكتابة، باعتماد أساليب تتنوع بين السردي والشاعري والتحليلي وفقا لخلفية كل كاتب ومجال اشتغاله وطبيعة علاقته بالراحلة. وهنا تبرز مشاعر الحنين، واستعادة المواقف الشخصية في تقاطع مع فكرة مركزية تتمثل في ثقافة الوفاء والاعتراف، حيث يصبح الكتاب تجسيدًا لمشاعر الحب والتقدير لشخصية خلفت أثرا كبيرا في حياة من عرفوها.هو إذن احتفاء بذكرى نعيمة المشايخ كشخصية ملهمة ومؤثرة، وإنسانة قريبة إلى قلوب من عايشوها ونهلوا من معين عطائها الفكري والإنساني.
مضامين الشهادات وتنوع زوايا المعالجة
تنبجس من خلال الشهادات صورة إنسانة تعددت عطاءاتها ومجالات اشتغالها وتنوعت اهتماماتها. هي شخصية أكاديمية وإبداعية بارزة، نشطت في عدة مجالات، منها الأدب والكتابة، فقد كان لها اهتمام خاص بأدب الطفل وساهمت في الترويج للأدب والثقافة عموما، عن طريق التدريس والحضور الوازن في المؤتمرات والندوات العلمية، مع الاضطلاع بدور بالغ الأهمية في تدريب الطلبة وتحفيزهم على الإبداع الأدبي، مع دعم الكتابات الشبابية، من ذلك مشاركتها في تنشيط ورشات إبداعية لفائدة الطّلبة الفائزين في مسابقات الأدب على مستوى المملكة الأردنية. كما أنها ساهمت في دعم حقوق الإنسان ونشر الثقافة العربية وضمان إشعاعها، حيث شاركت في مؤتمرات دولية مثل مؤتمر قسم اللغة العربية والفارسية في جامعة كلكوتا بالهند، مع التعاطي أيضا إلى العمل الإنساني والاجتماعي، حيث حظيت جهودها في دعم قضايا حقوق الإنسان والسلام والأمن الثقافي، بالإشادة والتكريم، من ذلك، على سبيل التمثيل لا الحصر، تكريمها من قبل منظمة "PEACE AND FRIENDSHIP INTERNATIONAL ORGANIZATION" في الدنمارك. وحظيت بتكريم خاص من قبل مبادرة نشمية وطن تثمينا لدورها الرائد في الإبداع الأدبي والإنساني، وحصلت على لقب "الأم المثالية" لسنة 2017 من مبادرة "أكرموهم الأردنية" ونالت لقب "سفيرة الرحمة" من الاتحاد الدولي للقيادة والمبدعين تقديرًا لجهودها الإنسانية والثقافية. ومن المفارقات الجميلة أن الراحلة لعبت دورًا فعالًا في نشر ثقافة الاعتراف والتقدير، من خلال مساهمتها في توثيق شخصيات ثقافية بارزة والترويج لقيم الوفاء، وجاء كتاب "نحبك نعيمة" ليردد أصداء تلك والثقافة ويعمل على ترسيخها تقليدا إنسانيا نبيلا.
نعيمة إنسانة الفرح والتفاعل الإنساني العفوي
هل أفلحت بعض هذه الشهادات في تقديم بعض ملامح صورة نعيمة بعيدا عن السمات النمطية المكرورة التي تجعل منها كيانا مجردا لا إنسانة فياضة بالحياة قوة وضعفا؟
يمكن الحديث عن تنويع في زوايا المعالجة الشخصية، فالشهادات لا تقتصر على رسم صورة تقليدية للراحلة بوصفها "كيانا مجرد" مثاليا، مستغرقا في العمل بآلية وتجرد متعال، بل تستعرض مواقف مختلفة تعكس جوانب متعددة من شخصيتها، مثل روحها المرحة، ولحظات ضعفها، وأثرها العميق في من حولها. هناك أيضا تغليب الأبعاد الإنسانية، إذ إن بعض الشهادات لا تكتفي بالثناء على الراحلة، بل تروي مواقف تُظهر طبيعتها العفوية، مما يضفي على شخصيتها أبعادًا حقيقية تجعلها قريبة من القارئ بدل أن تكون مجرد نموذج مثالي. وتوجد مواقف تكشف مواطن القوة والضعف والإنساني، ففي حين يحتفي الكتاب بإنجازات الراحلة وعطائها، تبرز إشارات إلى صراعاتها الإنسانية، مما يضع شخصيتها في إطار أكثر واقعية وإنسانية. ورغم أن الهدف الأساسي للكتاب هو الاحتفاء بنعيمة المشايخ وإبراز قيمها النبيلة، فإنه يحاول تجنب اختزالها في مجرد كائن مثالي ونمطي، ويتحقق ذلك من خلال استعراض لحظات الفرح، والحزن والتحدي، وحتى الجوانب العفوية في حياتها. ربما يكون هناك تفاوت بين الشهادات في هذا الجانب، لكنها في المجمل تفلح في تقديم شخصية أكثر إنسانية، ونابضة بالحياة، قوة وضعفا، تتأرجح بين لحظات الصراع الداخلي والإنهاك العاطفي في مواجهة بعض التحديات، سواء على المستوى الشخصي أو المهني، ومعاناتها من ضغوط الحياة رغم ابتسامتها الدائمة. إلى جانب مواقف تعكس تأثرها العاطفي الشديد ومرورها بتجارب صعبة، وضعفها أمام الفقد والوداع وتأثرها العميق عند فقدان أشخاص عزيزين عليها، وكيف كانت تواجه هذه اللحظات بدموع صامتة أو تأمل داخلي يعكس ضعفًا إنسانيًا طبيعيًا. مع التوقف عند بعض تجارب القلق والخوف حيال المستقبل القاتم لبعض القضايا التي تؤمن بها، مما يظهرها كإنسانة ليست فقط رمزًا للقوة، بل أيضًا شخصًا يواجه القلق كأي إنسان آخر، وهو ما يجعلها أكثر قربًا من القارئ ويمنحها بعدا واقعيا، كإنسانة من لحم ودم ومشاعر. وهناك ملمح آخر يعزز هذا البعد الواقعي الإنساني، يتجلى من خلال التناوب بين المواقف المرحة إلى جانب الجوانب الجدية والوجدانية، مما يضفي على الشهادات طابعًا متوازنًا يعكس مختلف جوانب شخصية الراحلة نعيمة المشايخ. هكذا تستعيد شهادات ذكريات مضحكة أو طريفة عاشها أصحابها مع الراحلة، خصوصًا في سياقات عائلية أو اجتماعية، حيث تكشفت روحها المرحة وقدرتها على خلق أجواء مليئة بالحياة، إضافة إلى تعليقاتها الفكاهية، وكيف كانت تضفي جوًا من الفرح حتى في أصعب الظروف، مما يعكس جانبًا إنسانيًا دافئًا في شخصيتها ويبرز حس الدعابة الذي كان يميزها.
خلاصة
يمكن القول إن الشهادات في الكتاب ليست مجرد رثاء، بل هي شهادات اعتراف وامتنان تعكس العلاقة العاطفية العميقة التي جمعت الراحلة بالمحيطين بها، مما يجعل الكتاب أكثر من مجرد تأريخ لسيرة شخصية، بل هو مساحة لتوثيق مشاعر إنسانية خالصة. وهو في المجمل تجميع لشهادات إنسانية وإبداعية كتبها أشخاص عاصروا وأحبّوا نعيمة المشايخ، مما يجعله وثيقة أدبية واجتماعية ذات بعد اعترافي قوي، تحاول الاقتراب من شخصية الراحلة وإبراز تأثيرها العميق في محيطها الخاص والعام.
ولا شك أن القارئ سيلفي نفسه أمام تجربة فريدة في ثقافة الاعتراف، حيث يتجاوز مجرد التأبين إلى توثيق مشاعر المحبة والامتنان للراحلة نعيمة المشايخ. من خلال شهادات متنوعة، تتكشّف صورة إنسانة جمعت بين العطاء الفكري، والالتزام الإنساني، والروح المرحة، مما يجعل الكتاب بمثابة مرآة متعددة الزوايا تعكس تأثيرها في محيطها القريب والبعيد. كما يبرز الكتاب التوازن بين البعد الشخصي الحميمي والعمومي الثقافي، حيث لا تقتصر الشهادات على الاحتفاء بإنجازاتها، بل ترصد أيضًا مواقف إنسانية تكشف عن ضعفها وقلقها ولحظاتها المرحة، مما يجعلها أكثر قربًا من القارئ وأكثر حضورًا في الذاكرة الجماعية. هكذا يمكن القول دون مبالغة أن الكتاب يؤسس لفعل ثقافي يتجاوز الفردي إلى الجماعي، حيث يصبح الوفاء والتقدير للراحلة امتدادًا لمسيرتها في نشر ثقافة الاعتراف والاحتفاء بالإنسان في أبعاده المختلفة.
1111 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع