أفول حلف الناتو

د. منار الشوربجي

أفول حلف الناتو

النظام الدولي يتفكك ولا يبدو في الأفق ما سوف يحل محله. فأعمدة النظام الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية تتهاوى تباعاً. والأسابيع القليلة الماضية مؤشر قوي على تفكك حلف الناتو، أحد أعمدة ذلك النظام.

فالولايات المتحدة تبعث برسائل علنية للأوروبيين تتنصل فيها من الحلف وتقول، تصريحاً لا تلميحاً، إنها لن تدافع عن أوروبا، ولن تكون الحليف المضمون. ورسالتها لكل من يهمه الأمر أنه ما لم تكن هناك فائدة مادية ملموسة للولايات المتحدة، فإنها لن تقدم على المشاركة في أي فعل مع دول أخرى في أوروبا أو في غيرها.

والمشادة الكلامية للرئيس الأمريكي ونائبه مع الرئيس الأوكراني أمام الكاميرات لم تكن أول تجليات التحول الأمريكي، ولن تكون الأخيرة. ففي ميونخ قبل ذلك بأسابيع، وبدلاً من أن يشرح نائب الرئيس الأمريكي رؤية بلاده لكيفية إنهاء الحرب في أوكرانيا، إذا به يعطي الأوروبيين محاضرة في الديمقراطية ويتهم حكوماتهم بأنها لا تستمع لمطالب شعوبها

. وبينما انهمك الزعماء الأوروبيون في إدانة الخطاب واعتباره إهانة «غير مقبولة»، كان وزير الدفاع الأمريكي يطالب بلادهم، في بروكسل، بالدفاع عن نفسها وتخصيص 5% من دخلها القومي للميزانية الدفاعية، لأن الولايات المتحدة ستنشغل «بالتهديد الصيني».

بل وصرح بيت هيغسيث، قبل المفاوضات، التي أعلن ترامب أنه سيجريها مع الرئيس الروسي لوقف حرب أوكرانيا، بأن الأخيرة لا يمكنها العودة لحدودها الجغرافية التي كانت عليها قبل الحرب، ولن تنضم لحلف الناتو، بل وشدد على أن أي قوات ضامنة للسلام المرتقب بين أوكرانيا وروسيا لن تكون تابعة لحلف الناتو، أي لن تضم قوات أمريكية ولن تكون بقيادة أمريكية. الأهم من ذلك كله، أن ترامب نفسه لم ينسق مع حلفائه الأوروبيين ولا حتى أخطرهم مسبقاً بأنه سيلتقي بالرئيس الروسي للتفاوض بشأن إنهاء الحرب. وهي المفاوضات التي لن تكون بحضورهم، ولا حتى بحضور أوكرانيا.

ولم يقف التباين الأوروبي الأمريكي عند هذا الحد، إذ راح الرئيس الأمريكي يطالب أوكرانيا بحصة من أرباح معادنها النادرة بمقدار 500 مليار دولار، وهو رقم أكبر بكثير من الحجم الكلي للمساعدات الأمريكية طوال الحرب. ولم تسلم أوروبا بالأمم المتحدة من راديكالية التحول الأمريكي.

فالولايات المتحدة رفضت التصويت بالجمعية العامة لصالح قرار أوروبي لأنه نص على أن روسيا هي «المعتدي» في الحرب الأوكرانية، وطالبها بالانسحاب «غير المشروط من كافة الأراضي الأوكرانية». بل وتقدمت الولايات المتحدة بقرار بديل في مجلس الأمن، غابت في صياغته أي إشارة «لعدوان روسي»، وهو القرار الذي تمت الموافقة عليه، بينما امتنعت عن التصويت كل الدول الأوروبية ذات العضوية الدائمة وغير الدائمة بالمجلس.

وكانت المفوضية الأوروبية قبل ذلك بيوم واحد أعلنت من كييف عن حزمة مساعدات لأوكرانيا مقدارها 3.5 مليارات يورو، فضلاً عن التأكيد على استفادة أوكرانيا من الزيادة الأوروبية المرتقبة في إنتاج السلاح ودعم القدرات العسكرية. ومع صعود الحزب الديمقراطي المسيحي لرئاسة الحكومة الألمانية، تتطلع أوروبا علناً لدور قوي لألمانيا وسط الأزمة الأوروبية المستحكمة.

وفي كل تلك التطورات المتلاحقة، يبدو حلف الناتو في مرحلة بالغة الحساسية. ولا ينكر الأوروبيون أن قوة الحلف تنبع من الدعم الأمريكي، وهو اعتراف ضمني بأنه يتفكك فعلياً. وهو تفكك لا يقتصر على الحكومات وإنما يمتد ليشمل الشعوب.

فالاستطلاع الذي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية لدراسة موقف شعوب 14 دولة أوروبية من الولايات المتحدة، كشف عن أن الأغلبية في كل دولة لم تعد ترى أمريكا حليفاً يُعتمد عليه وبينه وبينهم قيم ومصالح مشتركة، إنما هي شريك من الضروري التعاون معه «استراتيجياً».

واللافت أن النسبة الأعلى ممن صاروا يعتبرون أمريكا «شريكاً»، لا حليفاً، كانت في دول أوروبا الغربية بالمقارنة بشرقها! والدول الأربع عشرة التي شملها الاستطلاع كلها، باستثناء أوكرانيا، تحمل عضوية حلف الناتو. وقد نشر المجلس الأوروبي تقريراً مصاحباً للاستطلاع كان عنوانه «غروب الحلف العابر للناتو». وهو عنوان دلالاته لا تحتاج للتعليق.

والنظام الدولي الذي أرست دعائمه الولايات المتحدة، لا يعيره رئيسها الحالي بالاً. وأي نظام دولي ينهار تدريجياً. ومؤشرات تفكك النظام الحالي تتجلى بالفعل منذ فترة، ولكنها تسارعت منذ تولي ترامب، ولكن دون بزوغ البديل.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2146 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع