(بمناسبة اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية ٢٠٢٥) حكاية مسجد ومَعلمٍ وأثر

 بقلم وعدسة أحمد مكتبجي / بغداد

(بمناسبة اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية ٢٠٢٥) حكاية مسجد ومَعلمٍ وأثر

لم أجد بدا وبعد أن أعلنت المنظمة العربية للسياحة اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية لعام 2025م، وذلك بعد انتهاء المنظمة من مشاركتها في اجتماع الدورة الـ(27) للمجلس الوزاري العربي للسياحة، بمقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وبهذه المناسبة الكريمة من استعراض خمسة من أعرق وأجمل مساجد بغداد وأبرز معالمها ولكل واحد منها حكاية وذكرى وأثر.

(1)

جامع الشيخ عبد القادر الجيلاني

كنت أذرع الأرصفة جيئة وذهابا بمنطقة السنك لشراء بعض اللوازم الضرورية، واذا بأذان الظهر يصدح في الآفاق بصوت رخيم ينساب عذبا رقراقا على الطريقة العراقية يشنف الأسماع ،ويخلب الألباب ،ويأخذ بمجامع القلوب من مآذن جامع أثري عريق يتوسط رصافة بغداد،في منطقة كانت تسمى قديما بـ” محلة باب الأزج ” وكانت تضم مدرسة شرعية تحمل إسمها – مدرسة باب الأزج – تأسست سنة 541 هـ ، حتى تغير اسم المدرسة والمحلة المحيطة بها فسميا تيمنا باسم عاشق الجياع ،وملهم العلماء ،”الشيخ عبد القادر الجيلاني” الذي قال فيه الامام النووي في كتابه (بستان العارفين) ” كان شيخ السادة الشافعية والسادة الحنابلة ببغداد وانتهت إليه رياسة العلم في وقته، وتخرج بصحبته غير واحد من الأكابر وانتهى إليه أكثر أعيان مشايخ العراق “، وقال فيه الامام الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) ” الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة شيخ الإسلام وعلم الأولياء ” ، وقال فيه ابن رجب الحنبلي ،في كتابه ( طبقات الحنابلة )، “انتصر أهل السنة الشريفة بظهوره وانخذل أهل البدع والأهواء، واشتهرت أحواله وأقواله وكراماته ومكاشفاته، وجاءته الفتاوى من سائر الأقطار،وهابه الخلفاء والوزراء والملوك” إنه أبو صالح محيي الدين عبد القادر، ويرجع نسبه الى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما ، وأمه هي أم الخير،فاطمة بنت الشيخ عبد الله الصومعي ، وكانت زاهدة ورعة عابدة ، ولد الشيخ عبد القادر الجيلاني الملقب بـ”تاج العارفين” و”محيي الدين”عام 470هـ /1077م على الرأي الراجح وكانت ولادته في جيلان أو كيلان فعرف بالجيلاني أو الكيلاني، ولقب أيضا بـ” الجيلي” لقضائه أكثر مجاهداته وسياحاته في “جيل” التابعة الى منطقة المدائن في العراق،وقيل لأنه من مواليد “جيل”على شاطىء دجلة،والرأي الأخير هو رأي للعلامة مصطفى جواد، والعلامة حسين علي محفوظ ،كما أنه ورد في كتاب”بهجة الاسرار ومعدن الانوار” .

وصل الشيخ عبد القادر الجيلاني الى بغداد في ريعان شبابه ليمضي فيها 73 سنة متتالية ،كان الجيلاني يتيما توفي والده وهو في سن صغير ،وأوصته أمه بالصدق الذي ينجي الإنسان من المهالك، ويقربه من الله تعالى، يوم هم بطلب العلم فالتزم بوصيتها طوال حياته ، تفقه الجيلاني على أبو سعيد المبارك المخّرمي الذي أنشأ مدرسة باب الازج ، وصحب الشيخ حماد الدباس ، ومن ثم لازم ودرَّس في المدرسة ردحا طويلا من الزمن .

هابه السلاطين والحكام حيث كان يبغض الظلم والطغيان ولايخشى في الله لومة لائم ولقد عاصر خمسة من خلفاء بني العباس وكان يقول الحق ولو على نفسه وهو القائل “إذا عَّظمت جبابرة الدنيا وفراعينها وملوكها وأغنياءها ونسيت الله عز وجل ولم تعظِّمه، فحكمك حكم من عبد الأصنام، تصيّر مَنْ عظّمتَ صنمَك” ،فيما تاب على يديه 100 ألف عاص ولص وقاطع طريق كانوا قبل توبتهم يعبثون بأمن البلاد والعباد ، كما أسلم على يديه 5 الاف من غير المسلمين وحسن إسلامهم .

عوتب الجيلاني ذات يوم لكثرة إنفاقه على الفقراء والمحرومين فقال ” ماذا أصنع ، كفي مثقوبة ولو جاءني الف دينار من الذهب لم تبت عندي “حتى قال فيه الشيخ أبو سعد السمعاني” كان فقيها صالحا كثير الذكر،دائم الفكر،شديد الخشية، مجاب الدعوة ،أقرب الناس للحق، ولا يرد سائلاً ولو بأحد ثوبيه” .

ولاشك أن من بركات ذلكم الكرم والجود الذي لازم الشيخ طوال حياته فقد أكرمه الله تعالى به حتى بعد مماته فصارت – الشوربخانة – الملحقة بجامع الشيخ عبد القادر ، التي توزع الطعام بين الجياع والمحرومين والفقراء طوال العام ولاسيما في شهر رمضان المبارك، من أقدم وأعرق المطابخ الخيرية التي عرفها العالم من أقصاه الى أقصاه وما تزال تعمل بجهود الخيرين والمتبرعين والمتطوعين ، كيف لا ومن وصايا الشيخ الجيلاني الخالدة قوله ” فتشت الأعمال كلها ، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام ، أود لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع ” وهو القائل في حسن التربية “صحبتك للأشرار توقعك في سوء الظن بالأخيار..اغسل ثيابك من الوسخ واغسل قلبك من الذنوب ” وقوله في السلوك ” كُنْ عاقلا وتأدب مع الله عزَّ وجل ، وأعلم بأن الإقبال على الخلق ،هو عين الإدبار عن الحق ، ولا تتّكلْ على أعمالك الصالحة ، فإن اتكالك عليها شِرك بربك عز وجل ” .

أما في فضل العلم والتعلم وطريقة التربية والتعليم فقال نظما :

اذا لم يكن للشيخ خمـس فوائـد …وإلا فدجـالٌ يقــود إلى جهل

عليم بأحكام الشريعة ظـــاهراً …ويبحث عن علم الحقيقة عن أصل

ويظهر للورَّادِ بالبشر والقــرى…و يخضع للمسكين بالقول والفعل

فهذا هو الشيخ المعظم قـــدره …عليم بأحكام الحـرام من الحــل

يهذب طـلاب الطــريق ونفسه…مهذبـة من قبل ذو كـرم كلـي

أشهر كتب الشيخ عبد القادر الجيلاني “البلبل الصادي بمولد الهادي ” و” تفسير الجيلانى ” و”جلاء الخاطر” و” الغنية لطالبي طريق الحق “و” إغاثة العارفين وغاية منى الواصلين” و”آداب السلوك والتوصل إلى منازل الملوك” و” تحفة المتقين وسبيل العارفين” وغيرها الكثير.

وبعد أن دمَّر المغول المدرسة والمحلة المحيطة بها قام المهندس العثماني الشهير “خوجه معمار سنان آغا ” بإعادة بنائها بأمر من السلطان سليمان القانوني .

انتقل الجيلاني الذي قال فيه أبو عبد الله محمد بن يوسف الإشبيلي ” كان مجاب الدعوة، سريع الدمعة، دائم الذكر، كثير الفكر، رقيق القلب، دائم البِشْر، كريم النفس، سخيَّ اليد، غزير العلم، شريف الأخلاق، طيب الأعراق، مع قدم راسخ في العبادة والاجتهاد” إلى بارئه تاركا دار الفناء، الى دار البقاء في ربيع الثاني سنة 561 هـ الموافق / 1166م فضجت بغداد وارتجت لخبر وفاته، ودفن في مدرسته التي أفنى عمره في التدريس والوعظ والتربية والفتيا فيها لكل مستفت وسائل وطالب علم .

تحتضن الحضرة القادرية اليوم مكتبة عامرة وضع نواتها الأولى أبو سعيد المبارك المخّرمي، ومن ثم عهدت الى الشيخ عبد القادر الجيلاني، وتضم نفائس الكتب ونوادر المخطوطات ،اضافة الى روائع المصادر والمراجع والمطبوعات .

ولأن الشيخ ظل طوال حياته مستثمرا للوقت بكل ما هو نافع ، داعيا الى عدم اضاعته فيما لانفع فيه البتة ، فقد أكرمه الله تعالى بعد وفاته وزين مسجده العامر الكبير بساعة موضوعة على برج عال،تم صنعها في مدينة مومباي الهندية تعد الساعة الأقدم والأجمل في بغداد أهديت الى الجامع من قبل مسلمي الهند وتتميز بأربعة أوجه كبيرة وتحتوي على ثلاثة أجراس .

تعاقب على الفتيا والتدريس والامامة والخطابة في جامع الشيخ عبد القادر الجيلاني ،عدد كبير من الائمة والعلماء الأعلام على مر قرون وكان من بينهم مفتي العراق وعلامته الشيخ عبد الكريم محمد فاتح سليمان المدرس ،المعروف بعبد الكريم بيارة، نسبة الى قريته بيارة في شمال العراق، وقد اتخذ ركنا دائما في مدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني ،للافتاء في الامور الشرعية ، وكان طلبة العلوم الشرعية فضلا على عامة الناس يتقاطرون عليه من كل حدب وصوب لسؤاله في أمور دينهم ودنياهم، ومن مؤلفاته “إرشاد الأنام إلى أركان الإسلام” و ” جواهر الفتاوى” و” مواهب الرحمن في تفسير القرآن” .

ولله در الشيخ عبد القادر الجيلاني، القائل في الثقة بالله تعالى ، وحسن التوكل عليه :

أيدركني ضيم وأنت ذخيرتي …وأظلم في الدنيا وأنت نصيري

إذا ضاق حالي اشتكيت لخالقي … قدير على تيسير كل عسير

فما بين أطباق الجفون وحلها ….انجبار كسير وانفكاك أسير

(2)

جامع أبو حنيفة النعمان

كنت في طريقي الى جامع عريق لابد لي من أن أطل عليه بين الفينة والأخرى لأشم بين أروقته عبق التاريخ ، وأتنسم بين جنباته عبير العلم ،وأتنشق شذى العلماء،جامع سمي باسم علم من أعلام الامة الاسلامية، وفقيه من أجل فقهائها قال فيه الامام مالك بن أنس” لقد رأيت رجلاً لو نظر إلى هذه السارية وهي من حجارة، فقال إنها من ذهب لقام بحجته” وقال فيه الإمام الشافعي “من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة”، وقال فيه الإمام أحمد بن حنبل “إن أبا حنيفة من العلم والورع والزهد وإيثار الآخرة بمحل لا يدركه أحد” .

هو النعمان بن ثابت ويكنى بأبي حنيفة نسبة الى الدواة – المحبرة – كناية عن سعة العلم ،وغزارة المعرفة ، ولد سنة (80هـ ) بالكوفة ونشأ وترعرع فيها وقد إختلف المؤرخون في نسبه،أفارسي هو أم عربي ؟ فيما يؤكد العلامة المحقق الدكتور ناجي معروف، الذي شغل مناصب عميد كلية الامام الاعظم ، وعميد كلية الشريعة،فضلا على كونه أحد المؤسسين لـ (جمعية منتدى الإمام أبي حنيفة) ورئيسها حتى وفاته خلال مناسك العمرة في شهر رمضان من عام 1977،بين دفتي كتابيه ذائعي الصيت “عروبة الإمام أبي حنيفة النعمان”و” عروبة العلماء المنسوبين إلى البلاد الأعجمية ” أن أبا حنيفة كان عربي الأرومة” وترجع أصوله الى عرب الأزد الذين هاجروا من اليمن وسكنوا العراق بعد إنهيار سد مأرب ويؤيده في ما ذهب إليه كثيرون.

أخذ النعمان العلم عن شيوخه ومنهم سبعة من الصحابة، وثلاثة وتسعون من التابعين كما ورد في كتاب (أبو حنيفة )،اعتمد مذهبه الفقهي على القياس والرأي المستمد من أحكام القرآن والسنة ، أشتهر المذهب الحنفي وشاع في العراق والشام واليمن وشمال افريقيا وأواسط آسيا و شمال القفقاس اضافة الى بلاد فارس والهند والصين .

من جميل أقواله ” كلامنا هذا رأي فمن جاءنا بخيرٍ منه تركنا ما عندنا إلى ما عنده” و” لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به ، والدعاء المأذون فيه ، المأمور به ، ما استفيد من قوله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ) ” كما جاء في الدر المختار من حاشية المختار “.

أما جامع الإمام الأعظم أو جامع أبو حنيفة النعمان في منطقة الأعظمية فقد بني سنة 375 هـ ، لتشيد الى جانبه مدرسة كبيرة سنة 459 هـ كانت تعد واحدة من أقدم ثلاث جامعات في العالم .

ولعل من اللطائف أن صنبور الماء سمي بـ” الحنفية ” نسبة الى الامام “ابوحنيفة ” حيث كان الامام لا يجوز استخدام الماء من وضوء سابق وعندما بنى ” مسجد محمد علي ” في القاهرة وزود بـ “الصنابير بدلا من طريقة الوضوء بالاكواز السائدة آنذاك ،اعترض بعض العلماء إلا أن علماء الحنفية، جوزوا الوضوء من الصنابير لرفع المشقة ومنذ ذلك الحين سمي صنبور الماء بـ” الحنفية ” .

ولاشك أن من معالم جامع ابي حنيفة “ساعة الجامع الشهيرة” وهي إحدى الساعات التراثية التي تم نصبها على برج عال عام 1958م فيما يرجع تاريخ صناعتها الى عام 1930م تم استهدافها بقذيفة دبابة أبرامز مباشرة عام 2003 إمعانا في الأذى وإيذانا بوقف عجلة الحياة ، وحركة الزمن في العراق عامة ، وفي بغداد الحضارة خاصة وما دروا بأن الأمة التي تقرأ صباح مساء في قرآن ربها آيات يقسم فيها الباري عز وجل بـ” العصر ” بـ” الفجر ” بـ” الضحى ” بـ ” الليل والنهار” ليعلمنا احترام الوقت وأهميته والحرص على عدم تضييعه فيما لانفع فيه البتة لن تركع أبدا ..تفتر حينا نعم ، تنام لفترة ممكن، تغط في سبات مؤقت وارد ، تضيع وقتها برهة محتمل ، أما أن تنام أبدا فهيهات إنما هي وكما جاء في الحكم ” لكل صارم نبوة ، ولكل جواد كبوة ، ولكل عالم هفوة”وأضيف وهذه من جعبتي” ولكل أمة حية غفوة !!” .

توفي أبو حنيفة الذي قال فيه القاضي أبو زكريا السلماسي ،في كتابه (منازل الائمة الاربعة ) “أما أبو حنيفة فسيد الفقهاء في عصره، ورأس العلماء في مِصره، فضله وافر، ودينه ثابت، وعَلَمُه في مراده للمجد ثابت، اسمه النعمان وأبوه ثابت” ، وكانت وفاته رحمه الله تعالى في بغداد سنة 150هـ، ليدفن في مقبرة الخيزران وهي مقبرة كبيرة تحيط بجامع الامام أبي حنيفة وتضم رفات أشهر قامات وعلماء وأدباء وأعلام العراق ، وقد أفاض في ذكر أسماء المدفونين فيها الشاعر والمؤرخ والخطاط الكبير وليد الاعظمي، في كتابه “أعيان الزمان وجيران النعمان في مقبرة الخيزران ” وقد دفن رحمه الله تعالى فيها أيضا عقب وفاته عام 2004 .

على مقربة من الجامع كان هناك جسر عائم يصدق فيه بيت علي بن الجهم :

عيون المها بين الرصافة والجسر …جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

أزيل الجسر العائم عام 1957م وكان يربط الأعظمية بالكاظمية ليتم بناء جسر متين بدلا منه شبيه بجسر الأحرار من حيث التصميم وبعد الانتهاء من بنائه سمي بجسر الائمة، تيمنا الإمامين الجليلين ، أبو حنيفة النعمان في مدينة الاعظمية المسماة باسمه، والإمام موسى الكاظم في مدينة الكاظمية المسماة باسمه .

تعاقب على إمامة الجامع والخطابة والتدريس فيه علماء أجلاء أبرزهم الشيخ عبد القادر الخطيب،وكان اماما وخطيبا في جامع الإمام ابي حنيفة لأربعين سنة ، إضافة لكونه رئيسا لرابطة علماء العراق ، وقد رثاه الدكتور رشيد العبيدي ، بعد وفاته بقصيدة عصماء قال في بعض أبياتها :

شيخ الشيوخ وما عيني بغالية …إذا بكتك فأدمى جفنها الرمد

ولا الفؤاد بغال إن ألم به …سقم لفقدك أو أودى به الكمد

كذلك العلامة الكبير نعمان الأعظمي ، الذي تمكن ومن خلال مجلته (تنوير الأفكار) من الحصول على موافقة السلطان لإنشاء كلية الإمام الأعظم،لتدريس العلوم الشرعية وما تزال قائمة الى يومنا هذا ، ومن مؤلفاته “شقائق النعمان في مواعظ رمضان” و “إرشاد الناشئين” .

كذلك الشيخ مولود الحنفي وأصله من مدينة قونيا التركية، لقبه لفيف من علماء الازهر أثناء دراسته هناك بـ” الرجل الصالح ” وبعد هجرته الى بغداد درس على يد مفتي الديار العراقية الشيخ عبد الكريم بيارة ، والشيخ محمد طه البيلساني، وكان الشيخ مولود الحنفي يدرس طلبته في جامعي أبي حنيفة وبشر الحافي ،بينما يخطب الجمعة في جامع الدهان القريب ،استشهد الشيخ الفاضل برصاصتين غادرتين ، وكان في طريقه للعلاج بالعاصمة الاردنية عمان عام 2005م، فشيعت جنازته في بغداد وصلى عليه جمع غفير في جامع أبي حنيفة الذي أحبه وعشقه وأمَّ ودرَّس فيه ردحا طويلا من الزمن ليدفن الى جواره في مقبرة الشهداء الملاصقة ، ومن أئمة الجامع الأعلام الشيخ العلامة الدكتور أحمد حسن الطه ،ويرأس المجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء للدعوة والافتاء الذي يشغل جانبا من باحات جامع أبي حنيفة النعمان .

(3)

جامع الحيدر خانة

قبل أيام كنت مارا في شارع الرشيد لبعض شأني،وعندما أمر بهذا الشارع العريق أجدني ومن دون وعي مني منساقا لأمارس بعض هواياتي التقليدية هناك والتي تعد إدمانا لايمكنني مقاومته وبدونها لأمر قليلا بـ “مقهى الزهاوي”الذي شهد أشهر المساجلات الأدبية بين زبون المقهى الدائم حتى وفاته “الشاعر جميل صدقي الزهاوي” من بغداد، وبين عملاق الأدب عباس محمود العقاد ، من القاهرة ،وقد اختلف الأديبان في تقييم أحدهما للآخر برغم اتفاقهما على انتقاد أمير الشعراء أحمد شوقي، وفي هذا المقهى تحديدا جلس شاعر الهند الكبير طاغور في ثلاثينات القرن الماضي بعد قدومه الى بغداد ونظم واحدة من قصائده ، وعلى إحدى طاولات المقهى نظم رائد التفعيلة بدر شاكر السياب، واحدة من أشهر قصائده وأطولها عام 1954 وعنوانها” المومس العمياء ” التي يقول في بعض أبياتها :

جِيَفٌ تستر بالطلاء، يكاد ينكر من رآها

أن الطفولة فجَّرَتْها ذات يومٍ، بالضياء

وقبل أن أيمم وجهي صوب شارع المتنبي ومن ثم مبنى القشلة ،فسوق السراي ، والسراجين قبل أن تختتم الرحلة بجسر الشهداء للتمتع بمشاهدة النوارس البيضاء المهاجرة التي تربطها بهذا الجسر المعروف بقصصه وحكاياته ارتباطا روحيا وثيقا في كل عام ، لابد ولزاما أن تتضمن الرحلة مرورا بأحد المساجد المحيطة والقريبة وأبرزها ” جامع الأحمدي ، جامع العاقولية ،جامع الوزير،جامع مرجان،جامع سيد سلطان علي ، اضافة الى علم المساجد “جامع الحيدر خانة” وهو مناط حديثنا لهذه الحلقة وكان يسمى بـ” الجامع الثائر” الذي انطلقت منه شرارة ثورة العشرين في العاصمة بغداد ضد “المستدمر” ولا أقول “المستعمر” البريطاني عام 1920.

الجامع الذي بناه بحسب المؤرخ الموسوعي الثقة ” الدكتور عماد عبد السلام رؤوف “الخليفة العباسي الناصر لدين الله ، قبل أن يعيد بناءه وتوسعته آخر ولاة المماليك في العراق داود باشا،وكان في شبابه مسيحيا وأصله من جورجيا قبل اسلامه،لتتم صيانة الجامع وإعماره وتجديده على فترات متعاقبة كان من أبرزها في عهد السلطان محمود خان ،عام 1242هـ،والسلطان عبد الحميد الثاني ،عام 1311هـ ، لتستمر عمليات تجديد وإعمار المسجد بين الفينة والأخرى وعلى مر عقود طويلة والى يومنا هذا .

ولن أتحدث في هذه العجالة عن هندسة وعمارة المسجد وزخارفه وخطوطه الرائعة وأتركها لأصحاب الاختصاص ممن أفاضوا مشكورين بشرحها وتبيانها مطولا للمهتمين والدارسين ، وأخص منهم الاخ والباحث الفاضل اسامة سعد آل شاكر، وإنما سأمر سريعا على أبرز من خطبوا وأموا ودرَّسوا ودرسوا ها هنا ولاسيما في المدرسة الداودية قبل اندراسها ، منوها الى أن الجامع كان يضم مكتبة عامرة بالكتب النفيسة، والمخطوطات النادرة ،ومن أعلام المسجد الشيخ رشيد حسن الكردي ، وكان عالما جليلا يتقن أربع لغات ، ومن أشهر مؤلفاته ” تفسير القرآن الكريم” و” حاشية في أصول الفقه ” فضلا على المقالات والحواشي في علوم النحو والصرف والمنطق ، كذلك الشيخ عيسى البندنيجي،وكان من العلماء الاجلاء، وأعلام الخطاطين الفضلاء ، كذلك العلامة محمود شكري الالوسي ، الملقب بدائرة المعارف الاسلامية ، علامة المنقول ودراكة المعقول، صاحب المؤلفات الغزيرة في الشريعة واللغة والنحو والتاريخ والادب والتراث ، ومنها كتاب “تجريد السنان في الذب عن ابي حنيفة النعمان ” و” الدر اليتيم في شمائل الخلق العظيم ” و” بلوغ الأرب ” و” المفروض من علم العروض ” و” أخبار بغداد وما جاورها ” و”أمثال العوام في مدينة بغداد دار السلام ” و” تاريخ مساجد بغداد ” وغيرها الكثير، ولعل من اللطائف أن الشيخ الجليل كان خطاطا بارعا،وصحفيا حاذقا ،وكاتبا لامعا وهو الذي أسس أول صحيفة في بغداد “جريدة الزوراء” وكان يرسل مقالاته تباعا الى “مجلة المنار”،وصحيفة “المقتبس” و”المشرق” وغيرها ، والحق أقول لكم أني أعشق “المشايخ غير التقليديين من متعددي الميزات والابداعات والمواهب وإن كانوا من أحاديي المشارب والمذاهب” .

في جامع الحيدر خانة العريق ألقى الشاعر محمد مهدي البصير، بعض قصائده ضد الاحتلال البريطاني حتى لقب بشاعر ثورة العشرين، كذلك الشاعر محمد رضا الشبيبي،صاحب المقولة الشهيرة أمام الحاكم البريطاني عام 1917 قائلاً (إن العراقيين يرون أن من حقهم أن تتألف حكومة وطنية مستقلة استقلالاً تاماً)،وفيه مر أيضا رائد الصحافة الساخرة في العراق، نوري ثابت ، مؤسس”صحيفة حبزبوز”الشهيرة والتي تعد أول نافذة لنشر فن الكاريكاتير السياسي اللاذع الساخر في العراق وكان يصف نفسه بأنه “حزب سز” بمعنى أنه لاينتمي وبرغم اتهامه بالتحزب الى أي حزب سياسي كان .

(4)

جامع المرادية

شُيد الجامع من قبل الوالي العثماني مراد باشا، سنة 978 هـ/ 1570م ، وسميِّ نسبة اليه " جامع المرادية "، جدد الجامع في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ، سنة 1319 هـ / 1901 م ، وللجامع مئذنة غاية في الجمال والروعة فضلا على قبة كبيرة في منتهى الاتقان ، مع عدد من القباب الصغيرة المجاورة ، وكأن المئذنة أب،والقبة أم ،وبقية القباب الصغيرة ابناءهما من ذكور وأناث !

ولعل أشهر من أمَّ للصلاة في هذا الجامع التراثي العريق ،وخطب فيه الجمعة ، ودرس َّ فيه هو الشيخ كمال الدین بن عبد المحسن الطائي ،وعندما أقول كمال الطائي ، فأنا أتحدث هاهنا عن شيخ من المشايخ غير التقليديين حيث كان رحمه الله تعالى استاذا للعلوم الشرعية ، وشيخا وواعظا وإماما وخطيبا وصحفيا في نفس الوقت ، وقد أصدر وترأس تحرير العديد من المجلات وأبرزها مجلة " الهداية‌ و "صدى الإسلام ، و " الصراط المستقيم" و "الاعتصام" و" الكفاح " اضافة مجلة " لسان الهداية " و " الذكرى" و" الراية"، ليس هذا فحسب بل وكان الشيخ رحمه الله ضليعا في تأسيس الجمعيات الخيرية والدعوية كذلك حيث أسس جمعية الآداب الإسلامية ،وجمعية الشبان المسلمين ، وجمعية الهداية الإسلامية .

أما عن أشهر كتبه ومؤلفاته فكتاب " كيف عالج الإسلام مشكلة الفقر" و" علوم الحديث وأصوله"و " موجز البيان في مباحث علوم القرآن" و " الذكرى المحمدية" وغيرها .

(5)

جامع السراي

كان لابد للرحلة الماتعة أن تنتهي بجامع السراي الذي بناه الخليفة أحمد الناصر لدين الله ، سنة 1193م ،وفقا للمؤرخ الثقة عماد عبد السلام رؤوف، قبل أن يتولى إعماره وتوسعته مؤسس دولة المماليك في العراق الوزير حسن باشا، وكان يلقب بـ" الجديد " فحمل الجامع فضلا على المنطقة التي يتوسطها اسمه "جديد حسن باشا"بحسب "موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين" لعباس العزاوي،وكان الجامع يضم مدرسة للعلوم الشرعية لا أعلم ما هو مصيرها حاليا .

ومن الجدير ذكره أن حسن باشا هو جد "عادلة خاتون "التي بنت على نفقتها الخاصة كلا من جامع "عادلة خاتون" قرب جسر الصرافية ،و"جامع العادلية الكبير" قرب شارع النهر عام 1749م، وفقا لـ"دليل الجوامع والمساجد التراثية والأثرية "وسيكون لنا مع الجامعين الأثريين وقفة لاحقة بإذنه تعالى .

جامع السراي أو جديد حسن باشا أو جامع الناصر لدين الله ، وإن كان يشترك مع نظرائه من جوامع بغداد العريقة بمصليه الشتوي والصيفي ، ومنارته الجميلة الشاهقة ، إلا أنه يتميز عن سائر المساجد الأخرى بقبابه العشر ،وبأبوابه الخمسة، وبعدم وجود أي أثر لأية زخارف في أروقته وحرمه، فضلا على أن كل ملوك العراق رحمهم الله تعالى كانوا قد صلوا فيه"الملك فيصل الأول ، والملك غازي وتحمل احدى البوابات الرئيسة اسمه،والملك فيصل الثاني". يتبع

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

872 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع