المؤرخ إبراهيم فاضل الناصري
(على عتبات الاحتفاء بيوم تأسيس مدينة بغداد) لمحة تاريخية عن بغداد المحميّة خلال الحقبة العثمانيّة
كانت مدينة بغداد في أيام الخلفاء العباسيين، تعد حاضرة الإسلام، وقبلة العالم، ومقصد الانام، ففيها تتجسد الآمال، واليها تشد الرحال، ومنها تفوح الخلال، الا ان ضوعها المشرق، والقها الوهاج قد حاقه الظلام، ومجدها المتحقق قد نابه الحطام على ايدي التتار التيموريين الطغام، بيد انه مَا أن اِنْزاحتْ البَراثِن التَّيْموريِّة مِن على كاهل بَغْداد المحْميَّة فِي السنَة 808 هِجْريَّة، حَتَّى تَنفسَت حناياها الطاهرة الصُّعداء، مُسْتأْنفة َسَفرهَا الحضريُّ في مَوقعِها المتربع على شَفتِي دِجْلَة الأزَليِّة، حَيْث مَا انفك شَطرُها اَلشرْقِي يُسمَّى الرَّصافة ومَا برح شَطرُها اَلغرْبِي يُسمَّى الكرْخ، فكَان الشَّطْران فِي الزَّمن اَلمُحدد عِبارة عن حَاضِرة مُثَابرَة أتْعبتْهَا الصُّروف السَّافرة، فبَاتَت مُثخَنَة بِمآلِهَا، مُرتبكَة بِأحْوالهَا، يُخيِّم العتْق على أحْوالهَا. والْأحْياء اَلتِي تُشَكلهَا صَارَت مُتراكبة مُتقاربة فِيمَا بيْنهَا، تتخلَّلهَا اَلأزِقة ( الدَّرابين ) الضَّيِّقة وأكْثر الدَّوْر فِيهَا قد آلتْ عَتِيقَة مُتهالكة، وَلقَد كانت فِي شطْرهَا اَلشرْقِي تَحتَضِن مَجمُوعة مِن الأضْرحة الطَّاهرة لِبَعض الأوْلياء والصَّالحين ومشاهير الأعْيان المتقدِّمين، مِثلَما تَمتَلِك بَعْض العمائر والشُّواخص العمْرانيَّة التُّراثيَّة العبَّاسيَّة كالْمدْرسة المسْتنْصريَّة والْمدْرسة النِّظاميَّة وبعْض قُصُور الخلفاء العباسيين، فضْلا على بِضْعَة شَواخِص عُمْرانيَّة عُثْمانيَّة تُمثِّل الدَّوائر الحكوميَّة اَلتِي كَانَت وَتَعطلَت مِثْل القلْعة والسَّرايْ والْقشلة. أَمَّا شَطرُها اَلغرْبِي فَكَان عبارة عن ضَّاحية، إِذ ليس فِيه الا ثمّة سوق مفتوحة لتصريف أنواع معينة من البضائع والغلال وبعض خانَات وتكايا للصوفية وبستان صغير ومرفأ نهري للأكلاك، فضلا على جبانة طاهرة متطرفة، تضم اضرحة رجال مباركين. بينما ما برح الشطر الشرقي هو الذي يَتَركَّز فِيه العمْران ومؤسَّسات للحكومة والْقلْعة والْحيِّ التِّجاريِّ، ويرْبط الشَّطْران اَلشرْقِي والْغرْبيُّ جِسْرًا مِن (الدَّوب - نَوْع مِن الزَّوارق). وتتمَيَّز المدينة بِجانبيْهَا بِكثْرة المساجد والمقاهي. وانّ مِن الأسْباب اَلتِي أَودَت بِمآلِهَا اَلذِي كان، وَجَعلهَا تَكُون في أبئس منْظر وجوهر هِي حالات الارْتباك والْفوْضى والنَّمطيَّة اَلتِي تَلبسَت أو خَيّمَت على عَمَليَّة تَنشقِها المدَنيِّ مِن جديد بَعْد خُروجِهَا مِن الحقْبة التَّيْموريَّة اَلذِي كانت قد قضتْ على جلالها وجَمالِها وكمالهَا، ودخولهَا فِي الحقْبة العثْمانيَّة اَلتِي لَم تَهتَم بِالتَّمدُّن بِقَدر اِهْتمامهَا بِالْفتوحات والْغزوات، إِذ تَواتُر عن ذَوِي الإبْصار مِن سُكَّانِهَا مِمَّن شَهدُوا مَرْحَلة العهْد العثْمانيِّ كَيْف أنَّ سُكَّانَهَا قد أَخذُوا يهدمون بعض مَا خَرَّب مِنهَا ويبْنون بأحجاره بُيوتهم ومنشآتهم الخاصة ومصالحهم العامَّة وكُل على حسَب قْدرَته واقْتداره وتصوُّره دُون تَصمِيم عُمْرانيٍّ أو تَخطِيط حَضرِي. فنشأتْ الدَّوْر مُعْوجَّة او مزورة الجدْران وَعلَت السُّطوح على السُّطوح ولاذتْ الأواوين بِالْغرف (الاوضات) واشْرأبَّتْ الشُّرفات إِلى الشُّرفات وَأَمدَّت بعْضهَا إِلى بَعْض فتداخلتْ اَلبُيوت وضاقتْ الطُّرقات وصَارَت تُدعَى (دَرابِين). ومَا كان اَلوُلاة والْحكَّام مِن العثْمانيِّين ليكترثو بِهكذَا حال فظهرتْ خارطة بَغْداد بِهَذا المظْهر اَلمزْرِي، مَظهَر اَلْفَوضى فِي التَّعْمير. وصارتْ المنْشآتُ مُبَعثرَة تكْتنفهَا (الدَّرابين) الملْتوية أو (الدَّرابين) المغْلقة (اَلعُقود). وكانتْ بِجانبيْهَا اَلشرْقِي والْغرْبيِّ مُسَورَة، فالسُّور الموْجود فِي الجانب اَلشرْقِي يَعُود فِي قِيامه إِلى العهْد العبَّاسيِّ ويتخلَّله عدد مِن الأبْراج، كمَا تتخلَّله خَمسَة أَبوَاب فالْأَوَّل مِنهَا قريب مِن القلْعة ويسمَّى باب اَلمُعظم لِأَنه يُؤدِّي إِلى ضريح الإمَام الأعْظم، والثَّاني فِي أَعلَى السُّور اَلشرْقِي ويسمَّى اَلْباب الوسْطاني، وَإلَى الجنوب مِنْه يقع اَلْباب الثَّالث ويسمَّى باب الطَّلْسم وَهُو اَلذِي أَغلَق بَعْد فَتْح السُّلْطان مُرَاد الرَّابع لِبغْدَاد. ثُمَّ اَلْباب الرَّابع وَالذِي يقع فِي الجنوب اَلشرْقِي ويسمَّى اَلْباب اَلمظْلِم والْبَاب الخامس يُسمَّى باب اَلشَّط وَالذِي يُؤدِّي إِلى الجسْر اَلذِي يَربُط بَيْن الرَّصافة والْكَرخ، وَكَان هذَا السُّور مُتَّصلا ويحيط بِجانب الرَّصافة وَلقَد كان يَكتنِفه خَندَق يُحيط بِه مِن ثَلَاث جِهَات يَتصِل بِنَهر دِجْلَة. وأَمَّا السُّور فِي الجانب اَلغرْبِي وَالذِي قد أُقيم فِي عَهْد الوالي سُليْمَان بَاشَا اَلكبِير فَهُو الآخر لَم يُكِن بِأفْضل حالا مِن سُور الجانب اَلشرْقِي، إِذ كانت تتخلَّله أَربَعة أَبوَاب الأوَّل مِنْه يقع في الطَّرف الشَّماليُّ لِلْصوب ويسمَّى باب الكاظمين لِأنَّ الخارج مِنْه يَتجِه إِلى الأمَام الكاظم والثَّاني مِنْه يقع مُقَابِلا لِضريح الشَّيْخ مَعرُوف اَلكرْخِي ويسمَّى باب الشَّيْخ، والثَّالث يُسمَّى باب اَلحِلة كَونُ الخارج مِنْه يَتجِه صَوْب اَلحِلة والرَّابع يُسمَّى باب الكريْعات وَهُو يقع على ضَفَّة نَهْر دِجْلَة فِي نِهاية السُّور مِن اَلجِهة الجنوبيَّة . وَيُوجَد فِي دَاخِل بَغْداد بشطْريْهَا عدد كبير مِن الأحْياء السكنية (المحلَّات)، الحلزونيَّة الشَّكْل، وتتكَوَّن خُطَط المحَلَّة الواحدة مِنهَا مِن؛ جادّة عريضة وَأَزقَّة مُلتويَة وَضيقَة وبعضها مغلق يعرِف بـ (العقْد)، وَالذِي هُو أَشبَه بِالنَّفق، وَيرجِع السَّبب فِي تَصمِيم هَذِه اَلأزِقة بِشكْلِهَا الضِّيق هو لِكيْ تُوفِّر لَهُم السَّيْطرة على المتغلْغلين أَثنَاء الغزْو فضْلا على كوْنهَا تَوفُّر الحماية مِن أَشعَّة الشَّمْس فِي الصَّيْف ورشقَات الأمْطار فِي الشِّتَاء. حَيْث المارَّة يسيرون فِي ظِلِّال جُدْران بُيوتِاتهَا المتقاربة. وَتضُم المحَلَّة أو اَلحَي فِي الغالب جامعًا او مسجدا وحمَّامًا وسوقًا ومقْهى فضْلا على أَصنَاف مُختلفَة مِن أَهْل الحرف، فيخْتصُّ كُلٌّ (عَقْد حِرَفي) مِنهَا بِصنْف مُعيَّن مِن الحرف مِمَّا يُولِّد فِيهَا حَالُة مِن الاكْتفاء الذَّاتيِّ. وَلذَلِك نُلَاحِظ طُغْيان أَسمَاء الصِّنْوف على أَسمَاء بَعْض المحلَّات، فعرفْتُ اَلكثِير مِن اَلعُقود فِيهَا بِأسْمَاء الأصْناف اَلتِي اِخْتصَّتْ بِهَا، كمِثْل عَقْد الصَّابونْجيَّة، وَعقَد الحائكين، وعقْد الخبَّازين، وعقْد النَّجَّارين وعقْد الشُّوّاكة وَغيرِها. فضْلا على طُغْيان اِسْم اَلأُصول السُّكَّانيَّة على البعْض الآخر مِثْل مَحلَّة التَّكارْتة أو محلِّه الدَّوْريَّيْنِ أو محلِّه السَّوامْرة ومحلة الهيتاويين وَغَيرهَا. كمَا وَتُوجَد عِنْد شَاطِئ كِلَا الصُّوبين مَرافَيء نَهرِية يُطْلِق عليْها تَسمِية شَرِائع مفردها شريعة، فَكَان الشَّاطئ اَلشرْقِي يَضُم مَرفَأ شريعة لِلْقفف ولْـ(الابْلام) الزوارق تحْديدًا. بيْنمَا الشَّاطئ اَلغرْبِي (الكرخي) قد كان يَمْتاز بِامْتلاكه لِمرافئ (شرائع) نفهة معدة لاستقبال َورسوَا وتفريغ قوافل (الاكْلاك) والاطواف التكريتية القادمة مِن اقاصي الشَّمَال، والْمحمَّلة بِالْبضائع والْأحْمال والْمؤن والْغلال كمثل؛ شَرِيعَة القمريَّة وشَرِيعَة خِضْر إِليَاس، فضْلا على مَرْسى خاص لَـ(لْأبْلام- اي الزوارق) أو للقُفف المتنقِّلة ما بَيْن (الصُّوبين).
847 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع