نزار السامرائي
هل حان وقت إعادة النظر بالمُسَلّمات التقليدية؟
ابتداء أريد أن أقول بأنني لست عسكريا كي أخوض في مثل هذه القضايا التي لا يسمح العسكريون لغيرهم الخوض فيها، لا سيما أن العلوم العسكرية صارت مثل علم الرياضيات أي خطأ في حل المسألة سيُؤدي إلى أخطاء أكبر وقد يؤدي إلى خسارة المعركة، ولأن تجربتي في الأسر سمحت لي بالالتقاء بقادة عسكريين أفذاذ وعلى مستوى عالٍ من الخبرة العسكرية في الجيش العراقي، مثل اللواء الركن دخيل علي الهلالي واللواء الركن نريمان بكر سامي واللواء الركن سردار بهاء الدين بابان، وغيرهم كثير من آمري الألوية والأفواج الذين أكن لهم تقديرا عاليا لأنهم حافظوا على شرف الجندية العراقية، رحم الله من توفاه الله وحفظ من ما زال على قيد الحياة منهم، وقد سمعت منهم الكثير من المصطلحات العسكرية مثل تقدير الموقف ومبادئ الحرب والتعبئة والسَوْق، وسمعت كيف تتحرك الفيالق والفرق، وهكذا سمحت لنفسي أن أعرض وجهة نظري وأن أطرح قراءة سياسية من مدني هزته الأحداث التي توشك أن تعصف بأمتنا العربية، أكتب هذه الأفكار وأنا أقدم سطرا وأؤخر آخر، فليسمح لي الأخوة العسكريون بأن اطرح هذه القراءة السياسية التي ألبستها الملابس الخاكية، فعالم الفيسبوك والواتساب والتويتر، جعل الجميع أطباء يُصدرون الوصفات الطبية، وجعل الجميع علماء دين يتدخلون في ما يجوز ولا يجوز والمحرم والواجب، فإن أخطأت في القراءة فلا يتحمل أي من الأسماء المذكورة وزر الخطأ، ربما لأن الطالب لم يستوعب الدرس كما ينبغي، وأنتظر منهم التصويب وإبداء الرأي ولكن أرجو الالتزام بقواعد الاشتباك الودي بيننا.
تسعى كل الدول المهددة في سلامة أراضيها وأمنها القومي بأي تهديد خارجي، إلى التعرف على مصادر الخطر المحدق بها، ودراسة إمكانات العدو العسكرية والاقتصادية وعلاقاته السياسية الخارجية، وحجم تأثيرها على مسارات الحرب إن نشبت، فكل طرف يسعى لتوسيع دائرة علاقاته الخارجية وتعزيز القائم منها، وتقليص حالة العداء مع أطراف لم تَرقَ العلاقات معها إلى درجة العداء، وإزالة التوتر بالطرق الدبلوماسية ما أمكن ذلك.
منذ إقامة الكيان الإسرائيلي في فلسطين عام 1948، تشكلت في العقل الجمعي العربي، مسَلّمات كثيرة وكانت لدى النظام الرسمي العربي أكثر وضوحا، وكأنها حقائق ثابتة لا تخضع للمتغيرات التي يتركها الزمن في الأفراد والمؤسسات والدول على حد سواء، ولعل من أبرز تلك المسلّمات، أن العدو لا يستطيع خوض حرب طويلة، قد تؤدي إلى تآكل في معنويات المستوطنين، وراهن كثير من الباحثين الاستراتيجيين العرب على أن الكيان الصهيوني قد يتعرض إلى موجات متتالية من الهجرة العكسية، لجماعات ظلت تراهن على العيش بدِعةٍ وسلام في أرض العسل واللبن، وها هي تستقر فيها بعد طول انتظار، فهي ليست على استعداد للتفريط بهذه الفرصة التاريخية، وأضافوا أن إسرائيل لا تستطيع تأمين الجهد البشري لمؤسستها العسكرية بسب محدودية عدد السكان، مقارنة بعدد السكان الكبير في الوطن العربي، كما أن الشلل الذي قد يتعرض له الاقتصاد "الإسرائيلي" سيترك بصمات مدمرة على هذا الاقتصاد، نتيجة سحب قوات الاحتياط.
أما المُسَلّمة الثانية التي كادت أن تصل إلى حد اليقين القاطع في المعاهد العسكرية وفي مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية، والمؤسسات العسكرية العربية، فهي أن كل حروب إسرائيل السابقة خاضتها خارج أرضها، وأن هذه المُسلّمة ستحتفظ بها إسرائيل ولن تغيرها التطورات اللاحقة، حتى أوشك هذا اليقين أن يتحول إلى عقيدة عسكرية راسخة ضمن المناهج والخطط، ثم انتقلت هذه الفكرة إلى القيادات السياسية، فتم إعداد الخطط لحروب المستقبل على أساسها، وساد اعتقاد أن إسرائيل ومن الساعات الأولى لأية مواجهة عسكرية، ستلجأ إلى نقل الحرب إلى خارج ساحتها، لأن جغرافيا فلسطين المحتلة بلا عمق استراتيجي، وبالتالي فإن الخيار الأمثل أمام الزعامة الإسرائيلية السياسية والعسكرية، سيكون نقل المعركة إلى الأراضي العربية الأخرى، وهذا ما حصل في الحروب السابقة.
وهناك مُسلّمة أخرى لا ينفرد بها الجانب العربي، بل هي مُسلّمة حربية سادت لحقبة زمنية طويلة في كثير من دول العالم وربما ما تزال، وهي أن سلاح الطيران ومهما أوتي من قوة نارية ومن قدرة على التدمير، وبصرف النظر عن نوعية الطائرات التي يمتلكها أي بلد في العالم، لن يحسم الحرب لصالحه.
وهنا علينا أن نتوقف عند تعريف النصر والهزيمة، فماذا يمكن أن نسمي النصر؟ تعددت التعريفات الخاصة بالنصر، فمن الباحثين العسكريين من يعرّفه، بأنه نزع إرادة القتال لدى العدو وإيصاله إلى حافة اليأس، أو تحطيم قوات الخصم وشل قدرتها عن مواصلة القتال، أو إجبار العدو على رسم خططه اللاحقة على وفق ما يخطط له الطرف المنتصر، هنا يبرز سؤال جوهري، هل ينجح السلاح الجوي بتحقيق هذه الأهداف؟ وخاصة أن بعض العسكريين وكذلك السياسيين، لا يعتقدون بقدرة الطيران الحربي على حسم المعركة، بل يذهب هؤلاء إلى أن النصر لا يتحقق ما لم يصل جندي المشاة إلى آخر نقطة في أرض العدو ثم يرفع فوقها علم بلاده، فهل يمكن التسليم بمثل هذه الفرضية مع التطور الهائل بطائرات الجيل الخامس، ومع دخول الطائرات المسيّرة رخيصة الكلفة والقادرة على تضليل الدفاعات الجوية، مع ضآلة قيمتها مع ارتفاع ثمن المقذوفات المطلوب منها إسقاطها، مع أن الواقع يستدعي عدم المقارنة بين ثمن الطائرة المسيّرة وبين قيمة المقذوف المعالج لها، بل تجب المقارنة بين تلك الطائرة وقيمة الهدف المتجهة لتدميره، شخصا أو أفرادا، أو أهدافا ومنشآت مدنية أو عسكرية، صحيح أن القصف الجوي الأمريكي بالغ الشدة على فيتنام في عقد السبعينيات عجز عن تغيير مسار الحرب، إلا أن علينا ألا نهمل أن فيتنام الشمالية حصلت على أسلحة الدفاع الجوي بما فيها صاروخ سام 1 السوفيتي والذي كان استخدامه لأول مرة، مفاجئة مذهلة للقوات الأمريكية، إذ أسقط في يوم واحد ثماني طائرات منها المقاتلة ومنها القاصفة، فهل هناك وجه للمقارنة بين غزة ولبنان من جهة وإسرائيل من جهة أخرى؟.
كما أن كون إسرائيل دولة نووية لا تعترف بهذه الحقيقة، فقد كان أحد المسلمات التي سادت في الوطن العربي، لأن أيا من الدول العربية لم تكن تمتلك هذا الرادع الاستراتيجي، وكان الاعتقاد السائد، أن نظرية "عليّ وعلى أعدائي" هي التي تسيطر على العقلية اليهودية، فإذا ما شعرت إسرائيل أنها مهددة بمصيرها فقد تذهب إلى خيار الانتقام المقتبس من تجربة الانتقام الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، عندما أقدمت الولايات المتحدة على قصف هيروشيما والتي أحدثت دمارا هائلا، لم تكن أمريكا بعدها بحاجة إلى توجيه الضربة الثانية على نكازاكي، ولكن يبدو أن نزعة الانتقام الأمريكية سيطرت على العقل الأمريكي، ثأرا لما حصل في بيرل هاربر.
ولو تابعنا تاريخ إسرائيل منذ نشأتها عام 1948 وحتى اليوم، فسنجد أنها تقلبت بين أحضان مربيتين أساسيتين في غاية الحنان، هما الولايات المتحدة وقبلها كانت فرنسا التي كانت المُوَرِد الرئيس للطائرات، ففي حرب حزيران 1967 كانت الطائرات الفرنسية من نوع المستير والميراج عماد القوة الجوية التي دمرت الطائرات المصرية الجاثمة في قواعدها، وأدت إلى نكسة حزيران، وبعد أن قرر الجنرال ديغول وقف تجهيز إسرائيل بالأسلحة، ففُتحت مخازن السلاح الأمريكية على مصاريعها أمام إسرائيل، وكأن واشنطن كانت تتنظر هذه الفرصة، فعقدت معها صفقة طائرات سكاي هوك، التي دشنت عصر التسليح الأمريكي لإسرائيل الذي كان في أحيان كثيرة أولوية على حاجات الجيش الأمريكي، وشمل التسليح الطائرات الحديثة حينذاك من طراز F4 الفانتوم وتوالت صفقات التسليح من البندقية إلى الدبابة إلى صواريخ هوك المضادة للجو، ثم وصل إلى ما يسمى بشبكة حماية الأجواء الإسرائيلية من أي هجوم جوي، فحصلت على منظومة باتريوت، وساعدت في إقامة القبة الحديدية ومنظومة مقلاع داوود، وأخيرا نقلت لها منظومة ثاد وهي أحدث ما أنتجته مصانع السلاح في الولايات المتحدة، ومن باب تسريع تشغيل المنظومة أرسلت الولايات المتحدة فريقا من الخبراء لتدريب الإسرائيليين على تشغليها.
من خلال متابعة مجريات الحرب التي عاشتها المنطقة منذ السابع من تشرين الأول 2023 وحتى الآن، تأكد أن سلاح الجو الإسرائيلي نجح في إحداث دمار واسع النطاق بحيث حوَل غزة إلى مدينة أشباح وركام، ما كان لفرق مشاة أو مدرعة أن تحقق جزءً منه في غزة ومن ثم في لبنان، ثم إن الخسائر في الأفراد لدى إسرائيل لا يمكن مقارنتها بأعداد الضحايا الذين سقطوا جراء سياسة الأرض المحروقة التي اعتمدتها إسرائيل في الحرب، ويبدو أن الخسائر الهائلة في الجانب الفلسطيني واللبناني، أدت إلى إثارة نقمة آخذة بالتصاعد على الوحشية الإسرائيلية، ولم تستثنِ الجهات المحلية التي تظن أنها السبب في تحريك نزعة التعطش للقتل التي تتأجج في أوساط الحكومة الإسرائيلية.
بالمقابل ترسخت لدى العدو مجموعة من المُسلمات المضادة، من أهمها أن الجيوش العربية أُسست لحماية نظم الحكم القائمة، وبالتالي لم تُبذل جهود جدية لإعداد هذه الجيوش على أسس حديثة للدفاع عن حياض الوطن، فلم تُبذل جهود حقيقية للتدريب أو إعداد القيادات الميدانية ذات الخبرة العلمية لتطورات علوم الحرب الحديثة، وكانت وجهة نظر الزعامة الصهيونية تتلخص في أن القيادات العسكرية العليا يتم اختيارها بقرارات سياسية مبنية على أساس الولاء وليس الكفاءة والخبرة وكثير منها لا تمتلك الخبرة اللازمة في اشغال مواقعها.
صحيح أن هناك شيئا من الصحة في هذا التصور، إلا أن الحروب التي خاضتها الجيوش العربية في العراق وسوريا ومصر والأردن ضد العدو، أكدت أن هناك استثناءات من تلك المسلمة الإسرائيلية المُضللة، ثم إن الحرب دفعت إلى الواجهة قيادات تمتلك من الخبرة العسكرية ميدانيا وعلميا أغنتها المعارك التي شاركت في قيادتها، وهذا ما بات يشغل بال الزعامة "الإسرائيلية" السياسية والعسكرية على حد سواء، ومع ذلك فلم تتراجع عن موقفها المعلن بهذا الشأن، وإن كانت قد أخضعت هذه المتغيرات للبحث المعمق والدراسة المستفيضة من قبل كل الجهات المعنية داخل الكيان الصهيوني، سواء في مجال الخطط الحربية أو في مجال تحرك الجهات الأمنية المتعددة، ولعل كتاب التقصير الذي صدر بعد حرب تشرين الأول عام 1973، ما يجسد هذه المراجعات.
وربما يرجع إصرار الزعامة الإسرائيلية على تقديم هذه الفرضية، أن إسرائيل حريصة على تقديم أفضل صورة لجيشها، مع أسوأ صورة للجيوش العربية كي لا تهتز قناعات مجتمع المستوطنين، كي تؤثر سلبا على المعنويات العربية، وتترك العربي أسيرَ وهمِ التفوق الإسرائيلي على العرب، وهو تفوق غير قابل للتغيير.
لقد ركزت العقيدة العسكرية "الإسرائيلية" على أن "إسرائيل" تمتلك جيشا قادرا على حسم أية معركة إذا شُنت عليه بعد امتصاص زخمها الأول، إذ أن هذا الجيش وحسبما صورت أجهزة الدعاية الصهيونية المحلية والعالمية، هو الجيش الأقوى والأقدر على خوض الحروب الحديثة بكل صفحاتها على مستوى المنطقة، وأنه الجيش الذي لا يقهر، ولم يخسر معركة عسكرية في كل تاريخه، وأن الجيش الإسرائيلي بُني على عقيدة واحدة وهي تفوقه على الجيوش العربية مجتمعة، وأن الدعم الأمريكي المتعدد الأوجه، لا سيما الحربي كفيل بمعالجة أي خلل قد يصيب المؤسسة العسكرية في واحدة من مراحل الحرب.
ومع ما في هذه الأطروحة من خلل إذا ما أخذنا تجربة العبور في حرب أكتوبر 1973، التي أذهلت العدو وشلت فكر قياداته ولم يتمكن من استعادة توازنه إلا بعد عدة أيام من نشوب الحرب وبدعم تسليحي أمريكي عبر جسر جوي، صحيح أن ثغرة الدفرسوار أخذت كثيرا من بريق عبور القوات المصرية وتدمير خط بارليف المنيع، إلا أن عبور حاجز مائي مثل قناة السويس وارتقاء الساتر الترابي الذي أقامته إسرائيل على ضفة القناة الشرقية، كان أحد الدروس المستخلصة من تلك الحرب، كما أن صولة أحد الألوية المدرعة العراقية في حرب تشرين والذي أوقف هجوم عدة ألوية مدرعة وآلية، على جبهة دمشق واللواء العراقي هو الذي صد الهجوم الذي كاد أن يُسقط العاصمة السورية دمشق.
فماذا حصل في منطقتنا منذ أكثر من عام؟ وهل سقطت تلك المُسلمات؟ وحري بالباحثين المتخصصين إجراء مراجعة دقيقة لإعطاء تفسيرات مستلة من تجربة الحرب التي تشهدها المنطقة منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم؟
لقد عجزت إسرائيل عن حسم معركة غزة بعد أكثر من سنة كاملة أزالت فيها كل معالم الحياة الإنسانية، في قصف لم تشهده كل الحروب السابقة، بوحشيته وتقصَدّ استهداف المجمعات السكنية والمؤسسات التعليمية والصحية، ومارست إسرائيل سياسة التجويع ومنع تقديم الخدمات الطبية، تعدت ذلك إلى استهداف الأونروا وغير ذلك من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
1285 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع