قصة: (التشريقة التكريتية صوب بغداد المحمية) أو تاريخ: قيام الحي التكريتي في جانب الكرخ البغدادي

المؤرخ إبراهيم فاضل الناصري*

قصة: (التشريقة التكريتية صوب بغداد المحمية) أو تاريخ: قيام الحي التكريتي في جانب الكرخ البغدادي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لِلَّه ثُمَّ لِلتَّاريخ، وكنِصْفة مني لإحدى الْمجْريات الحاصلة في تاريخنا الحديث، اُضع هذَا المقال كردٍّ داحض لمَا ذكره، اَلوزِير في العهد الملكي، المرحوم عَبْد اَلكرِيم اَلازْرِي في كتابه (مشكلة الحكم في العراق) بحقِّ التِّكْريتيِّين المهاجرين صوب بغداد فِي مَطلَع القرْن العشرين. إِذ كان قد ورد في كِتابه المذكور وُصفا غَيْر دَقِيقَ وغير صَحِيحَ لدافع ولزمان تَكوُّن جَالِية تِكْريتيَّة فِي كرْخ بغداد، ناسفا ولاغيا بذلك الوصف كل ما سبق لهم من وجود قبل ذلك.
اذ إننِي سأَروي قصَّة (التشريقة التكريتية) صوب الربوع الكرخية في الأيام الخوالي المقضيّة، أي قصة قِيَام (حيٍّ تِكْريتيٍّ النجار) بَيْن ضُلُوع ضَاحِية مِن ضَواحِي الشَّطْر اَلغرْبِي لِبَغْداد المحْميَّة الذمار. وَإِنّ كلامي إِن هُو إِلَّا عَمَليَّة تَوثِيق لقِصَّة تَبلوَر مكوّن مجتمعي ضِمْن مَرْحَلة قلقة مِن مَراحِل تَّاريخ بغْدَاد الحديث، سَوْف أَجتَرح بهَا الماضي اَلقرِيب لِاسْتظْهار مَشاهِد مَطمُورة قد كَانَت، بَيْد أَنهَا مَا عَادَت. وَإِن كِتابَتي لَيسَت سِوى اِسْتنْطاق ماضي رَّاحل لِمجْتَمع قد قام على الشَّاطئ اَلغرْبِي مِن بَغْداد. وَأنَّى لِلْحجْر مِن أن يَتَكلَّم لَو قَدْر لِلْجمادات أن تَتَكلَّم. إِنَّه التِّذْكار لِتلْك اَلبُقعة الكرخية الدَّافقة بِالنَّكهات الأسْطوريَّة. وَأنَّه التَّاريخ لِذَلك اَلحَي اَلذِي أَزدهَر حِينًا مِن الدَّهْر. وَإنَّه اَلارتجاع لداثرات الأيَّام اَلتِي أَودَى بِهَا الزَّمَان لِلْأفول. وَأنَّه النُّزوع إِلى اَلأُصول، إذ انني بِهذا انما أُؤرِّخ لِتشْريقة جماعة قد كان أَصلِها تِكْريت فاِحْتضنتْهَا بَغْداد وهيّئت لها الظروف لأن تُقيم حيًّا بِاسْمِهَا بطرف مِنْها. فكانتْ لَهَا أَخبَار وأدْوَار وَأَثار، بعد ظُّهورها على مَسرَح أحْداثهَا كـجَالِية مَحَليَّة عند شَرِيعَة نهرية.
فلقد آل لِبلدة تكريت العتيقة التي دمر التتار مدنيتها وشرد أهلها، بان تعاود النهوض كمركز سنجق خلال مبتدأ الحكم العثماني ثم ان تبتدئ حالها الحضري كقصبة صغيرة بمن حل فيها من الاسر الجديدة التي ارتأت السكن فيها او بمن عاد اليها من بيوتات أهلها الاصليين، ثم ان يتراجع مستواها الإداري في مرحلة لاحقة من العهد العثماني فتمسي بِمسْتَوى نَاحِية وذلك بسبب صيرورتها جراء الظروف والاحوال الى قَلِيلَة النُّفوس، محدودة وسائل العيش، مُعدَمَة الإنْتاج، يَعْتاش أَهلُها على زِراعة أنواع من البطِّيخ والرُّقيِّ فضلا على زراعة بقلة اللوبياء (الكواز) وخيار القثاء (التعروزي) على امتداد حافات شاطئها النهري، مثلما يمْتهنون تجارة الحبوب والخيول والماشية فضلا على امتهانهم للنَّقْل اَلنهْرِي بِواسِطة (الاكْلاك) تلك الوسيلة َالتِي اِمْتلكوا مقْدراتهَا واحْتكروا قيادتهَا عَبر أعالي دِجْلَة برمته.
ففِي خضم تلك الاحوال، وحيث باتت بِلَاد العرَاق بِبلداتهَا ومنها بلدة تكريت تَحْت حُكْم فئة عُثْمانيَّة شِبْه مُسْتقِلّة وَأعني فِئة (المماليك)، ومرحلتها قد صارت تعرف بمرحلة حكم المماليك، وبَينمَا كَانَت الحيَاة تسير على هَوَّن وَهِي تَنأَى بِحالِهَا اَلمضْنِي بَيْن رزايَا الايَّام الصِّعَاب لتلك المرحلة، نزلت في وِلايَات العرَاق وبالْأخصِّ وِلاية بَغْداد أَدهى النَوازل الطبيعية الكارثية واقسى ويلات الصراعات والغزوات، وكان أمرّها هو حصار الإيرانيين الشديد بقيادة نادر شاه قلي خان سنة 1145ه/ 1732م، وكان أدهاها هو وَبَاء الطَّاعون المهول الذي حل سنة 1185ه/ 1771م وسمي بِطاعون أَبُو خَنجَر أو الطَّاعون اَلعظِيم، وَالذِي اِمْتدَّ فِي دَوام أذاه إِلى أواخر المحرم لسنة 1187ه/ 1773م. وَأنَّه على حسب مَا جاء عَنْ هذين الحدثين فِي مُدونَات المعاصرين، انما قد كانا بَلَاءان مهولان، فلقد انهك الحصار الغاشم مقدرات بغداد وانزل فيها المجاعة المهلكة وكان وقعه بلاءا عظيما خسائره جسيمة. اما الطاعون فكان مصيبة لم يرى اهل بغداد مثلها من المصائب فيما مر عليهم من محن اذ انه فتك فتْكًا ذريعًا بِالنَّاس حَتَّى هلك به خَلْق من البغداديين لَا يُحصَى عَددُهم، وقوّض مَصالح وَقضَى على بُيُوت وأهْلك مِنهَا عُلَماء أعْلَام وأفاضل فَخَام، فعادتْ بَغْداد مِن جَرَّاء هاتين المحنتين خرابًا لَه صدى وَنَالهَا مِنْهما أشرِّ النوازل، فقد مات من جَرائِهما خَلْق كثير مِن سُكَّانِهَا ولم يَنْج إِلَّا اَلنزر اَلقلِيل مِمَّن كتب اَللَّه لَهم البقَاء أو مِمَّن فرَّ إِلى الأنْحاء اَلتِي لَم تطُلهَا مخالبهما. ثم انه وبعْد أن اِنجلَى هذَان البلَاءان الملْعونان، كل في اوانه وزمانه، وَرجَع إِليْهَا مِن نَجَّى بِالْفرار مِن اهلها، اِنبرَى وُلَاة الأمْر فِي إدارة حُكومتهَا المحلية بِإعادة تَرتِيب الإدارة فيها وَتفعيل حُسن النِّظَام او إعادة تأسيسه من جديد، سِيَّما وقد صارت تواجههم مُشْكِلة النَّقْص فِي كَوادِر إِدارة المصالح وَتسيِير اَلأُمور بسبب ان الناس الَّذين يعول عليهم من اهل القدرات وأصحاب الكفاءات وارباب المصالح قد فتكت بِهم النازلتين، اذ قد حدا الامر بولاة الأمور فيها وكانوا من الباشوات كالوزير احمد باشا والوزير عمر باشا، تلافيا لِانْحلال أُمُور دِيوان حُكومَتهم في بغداد ثم حصول الانهيار لَان يَسعَون فِي البحْث عن البدلاء او العوض مِن أَهْل الكفاءة واهل القدرة مِمَّن يُعوَّل عَليهِم فِي الدعم والاسناد في البلدات العراقية المحيطة ببغداد ثم يقوموا بترغيبهم للقدوم صوب بغداد.
وهكذَا قد تَهيأَت اَلفُرصة وواتت لِأبْنَاء مُدُن أَعالِي دِجْلَة والْفرات، وفي مقدمتهم أَبنَاء بلدة تِكْريت، خَاصَّة مِنْهم من كَانُوا يتردَّدون إِليها لِنَهل اَلعُلوم الدِّينيَّة فِي مدارس جوامعهَا او تكاياها أو ممن كَانُوا يتردَّدون إِليْهَا لِلْمتاجرة او لإدارة النَّقْل النهري بِواسِطة الاكْلاك او النقل البري بواسطة الكروان او المكاري لِأن يكونوا نُصْب أَعيُن ولاة بغداد في الحقبتين المنوهتين في أن يتقلَّدوا مَهَام إِدارِيَّة فِي دِيوان وِلايتهَا وَفِي دَوائِر المُهمَّات والمصالح بها.
وَمِن هُنَا تَبتَدِئ حِكاية توطن او سُكْنًى (التَّكارْتة) فِي مِنطَقة كَرُخ بَغْداد. إِذ إِنَّ مبتدأ تُوطِّن التكارتة انما كَانَ من جَرَّاء وفي اعقاب تلكما النازلين المذكورتين، وَهذَا هُو مَا أَطلَقت عليْه تسمية ((باكورة النُّزوح التكريتي او مبتدأ التشريقة التكريتية)) نَحْو بَغْداد. حيث كان (النزوح الأول للتكارتة) صوب بغداد هو في أعقاب انجلاء حصار نادر شاه قلي خان العصيب لبغداد في عام 1733م. أمَّا ((النُّزوح الثَّاني لَلْتكارْتة)) نحو بَغْداد وَهُو اللَّاحق لِلنُّزوح الاول، فَهُو انما كان بأعقاب انجلاء طاعون أبو خنجر او الطاعون العظيم عن بغداد. بينما ان (النزوح الثالث للتكارتة) نحو بغداد قد كان مِن جَرَّاء حُصُول دَاهِية طَبيعِية جَدِيدَة لاحقة وَشَديدَة فِي بَغْداد كَانَت قد جرتْ بِهَا المقادير فِي مُستَهَل سُنِّي القرْن الثَّالث عشر اَلهجْرِي، ومَهدَت أَمَام تِكْريت الضُّوع بِدفْقة ثَانِية نَحْو بَغْداد، فَفِي اَلسنَة 1200ه/ 1786م نزل القحْط اَلشدِيد فِي بَغْداد وَفِي عُمُوم البلَاد وعمٍّ مِن جَرائِه الغلَاء الفاحش فالْجوع القاتل اَلذِي أكل الأخْضر والْيابس حَتَّى أَكلَت النَّاس الْفطائس. وَلقَد دام هذَا اَلْحال بِحدود السَّنتيْنِ والنِّصْف ثُمَّ أَعقَبه طَاعُون مُميت، فَهَاجت النَّاس مِن جَرائِه وماجتْ وحصلتْ قَلاقِل فِي مَركَز وِلاية بَغْداد مَا حدَا بِالْحكَّام المعاصرين لِهَذا الحال وَعلَى رَأسهِم الوالي سُليْمَان بَاشَا اَلكبِير(أبو ليلى) للقيَام بِإجْراءات تنهض بنظام الإدارة لِديوَان الولاية وتصلحه وغايتهَا تَمشيَة الأحْوال ، مَا تَرتَّب على ذَلِك اِسْتقْدام مَّن هُم أَكثَر مُوالَاة لَلعثمانيين وأعْلى كَفاءَة في الاعمال فيسْندون إِليْهم إِدارة وتصريف تِلْكم الْمهامِّ مِن اَلتِي تَصُب فِي تَعزِيز الاسْتقْرار وضبط النِّظَام الإداريِّ والْحكوميِّ. فَحصل من جراء ذلك أن جَاءَت الدَّفْقة الثَّانية إِلى أَرْض بَغْداد مِن أَبنَاء تِكْريت من ضِمْن مَوجَة المسْتقْدمين مِن مُدُن أَعالِي دِجْلَة والْفرات، لِتتوَطَّن مع او بجَوار بقايا اَلْمَوجة اَلتِي سَبَقتهَا، وَالتِي كَانَت قد حَلَّت فِيهَا كمَا أسْلفْنَا فِي عَهْد الوالي أَحمَد بَاشَا. حَيْث أَوكَل الوالي سُليْمَان بَاشَا إِلى المسْتقْدمين مِن تْكارْتة وعانيين وسْوامْرة ودوْرَيْنِ ومواصلة وُو... الوَظائِف إِلادارِيَّة وَالخدمِية فِي الاسْتحْداثات الإصْلاحيَّة فِي الدِّيوان والْإدارة بِبغْدَاد وَهُو كَجُزء مِن إِجْراءات إِشاعة الاسْتقْرار وَتوطِيد دَعائِم اَلحُكم وتمشية الأحوال. أمَّا مَوجَة ((النُّزوح الرابعة لَلْتكارْتة)) نَحْو بَغْداد فقد كَانَت فِي أَعقَاب طَاعُون 1831م، وجاءت لِتعْزِيز مجْتمع بغداد وادامته، إِذ بَعْد أن حلَّ فِي العرَاق عَامَّة وَفِي بَغْداد خَاصَّة الطَّاعون جديد فِي هَذِه اَلسنَة. وَكَان أَفظَع دَاهِية تَنزِل أو وأشْنع، وَبَاء فتَّاكً كان قد حلَّ عَبْر تَارِيخ العرَاق. حَيْث ظلَّ المعمِّرون لِسنين يتحدَّثون عن مآسيه المريرة حَتَّى عَهْد مُتَأخر كَيْف أنَّ الجنائز صَارَت تَبلُغ بِالْيَوْم لِواحد تَقرِيب الثَّلاثة آلاف جِنازة بحسب مَا ضَبْط فِي سِجلَّات ذَلِك العهْد وكيْف كان فِي بَغْداد سُوق بات يُسمَّى ب (سُوق الجائف) مِن كَثرَة مَا اِمتلَأ بِجثث اَلْمَوتى جَرَّاء هذَا الطَّاعون واشْتداد النَّتونة فِيه إِلى دَرجَة لَا تُطَاق. وَأمَّا مَوجة ((النزوح الخامسة لِلتكارتة)) نَحْو بَغْداد فَلقَد كَانَت خلال السنة التي عرفت بـ سنة لُوفًا وَالتِي صادفتْ فِي سنة 1925 م وكانتْ سنة قحْط وَمحَل، أعْقبتْهَا سنة نُزُول الجرَاد أكْلا الأخْضر والْيابس مَّا جعل اَلكثِير مِن اَسر بلدة تكريت تَشُد رِحالَهَا بواسطة الاكْلاك نَحْو بَغْداد بَاحِثة عن فُرَص عمل وعن كسْب عَيْش. بيْنمَا اَلْمَوجة ((السادسة لِلنُّزوح التِّكْريتي)) نَحْو بَغْداد قد كانت في عقدي الثلاثينات والاربعينات من القرن المنصرم. وَلقَد كان الدَّافع لَهَذه الموجة هُو الطموح الى الارتفاع بالمستوى الاجْتماعيِّ والى تحسين الحال الاقتصادي، من خلال السَّعْي لِارْتقاء سدة مَراكِز الْحكومة وتبوء دفتها في مجالين مهمين وهما العسكري والتعليمي، وَلقَد أَسَّس لَهَا وَهيَّأ فُرصَهَا تَبُوء عددًا مِن الشَّخْصيَّات التِّكْريتيَّة لِمراكز إدارية وسياديَّة فِي الحكومة، وَهذِه اَلْمَوجة انما هِي اَلتِي كان قد أَشَار إِليْهَا الوزير عَبْد اَلكرِيم اَلأزْرِي بَيْد أَنَّه أَخطَأ بتسلسلها، إذ عدّهَا اَلأُولى بينما قد سبقتها موجات.
وهكذَا أَقامت الموْجات التِّكْريتيَّة النَّازحة صوب كرخ بغداد، على التعاقب بشكل افراد او مجموعات جَالِية تِكْريتيَّة في الكرخ، تَوزعَت مَناطِق سكناهَا على عِدة مَحَلّات او احياء سَكَنيَّة، ذات صِلَات قَرابِية وَهِي: مَحلَّة السِّتِّ نَفِيسَة، مَحلَّة خِضْر إِليَاس، مَحلَّة التَّكارْتة، مَحلَّة سُوق حَمادَة، مَحلَّة السُّوق اَلجدِيد، ومَحلَّة رأس الجسر.
وللتاريخ: اقول ان اولئك التكريتيين المهاجرين صوب بغداد، ما كانوا عليها عالة ولا كانوا بها ثمالة، انما كانوا فاعلين ومتفضلين ومتصدرين، فلقد كان منهم الرؤساء والاعضاء للمجالس البلدية في الحقبتين العثمانية والملكية، لا بل ان اول رئيس مجلس بلدي لبغداد المحمية انما هو تكريتي الهوية. وكان منهم اصحاب الاسهم في شركة كاري بغداد الاهلية. مثلما كانت شريعة القمرية برمتها حكرا لهم، ترسوا عندها اكلاكهم، كذلك كانت دواوين الولاة العثمانيين تفضّل عنصرهم كملاكات ادارية وبدرجات بيكات وافندية. وكذا الحال ينطبق على بعض المؤسسات المهمة في الحقبة الملكية، فكان الحرس الملكي وكذا وزارة المعارف من نصيبهم، كما وكانت رئاسة مجلس النواب حصتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*عضو الاتحاد الدولي للمؤرخين

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1242 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع