نوستوس حكاية شارع في بغداد مهداة للكراند أرشتيكت( المعماري الكبير ) الاستاذ معاذ الالوسي
بقلم - إيمان البستاني
وصول الكتاب
نوستوس....حكاية شارع في بغداد) .... كتاب كنتُ قد أنتظرته طويلاً وما أن وصل حتى حط الطرد كالحمام) الزاجل في مكتب عميد كليات الهندسة بجامعتنا في يوم من ايام العطلة الصيفية حين تخلو ممرات الجامعة من امواج الطلبة , وكان عليّ ان اتفوق على المشائين الاغريق للوصول اليه مشياً مسافة تكفي لتآليف رواية كرواية (الحرب والسلام) للكونت ( ليف نيكولايافيتش تولستوي ) فلاحظت لأول مرة سكون المكان بعد ان خلا من عجقة ( زحمة ) رواده ان بناياته مكسوة بطابوق احمر رزين مشابه لممرات كلية الهندسة ببغداد وكأنه اتفاق ضمني خبيث بينهما على تعميم اجواء التعذيب النفسي
ألتقطتُ الطرد وكأن الكتاب اختار بغنج ودلال هوية المكان الذي يناسبه كمهبط تماشياً مع مهنة مؤلفه ومضمون محتواه , فكان للكتاب ماأراد , وكان لي ماأردت , الا هو الحصول على نوستوس اخيراً
الغلاف
معاذ الالوسي ليس بإنسان عادي , عُرف عنه التميز , قامة معمارية , سعة ثقافية, رسام , مصور , عاشق للموسيقى , مهووس بالتفاصيل , لا يرضيه شئ حتى يبلغ الكمال وبهذا استحق لقب (النقناق الاول ) بلا منازع
لنرى كيف اختار غلاف كتابه العزيز , اللون هو لون نبيذ دليل ثراء مقدس يجعله كتاباً ذو كيان مستقل لايقبل الاختلاط اذا ما حشرته مع أقرانه
صورة الغلاف لوحة لواجهة مقهى في منطقة الكرخ , لعازفين في فرقة شعبية تذكّرني جلستهم بفرقة العميان المصاحبة لأبي الاغنية العراقية (صالح الكويتي) بملهى الهلال في منطقة الميدان , نفس البساطة والاصالة , توقيع صغير بأسم ( جواد ) يوشي بأسم رسام اللوحة
الغلاف الاخير لبورتريه المؤلف رسمه فنان الحروف ( رافع الناصري ) وإن وجدت البورتريه بعيداً عما عُرف عنه معاذ من جمال تقاطيع وسحنة يشع منها الذكاء مالم تستطع سنواته السبعون ان تخفيه , أظهر تميزه بأضافته لنص مقتبس من الكتاب يحكي فيها عن بغداد , وبمجرد قراءتك لهذه الاسطر تعرف جيداً محتوى الكتاب وشخصية المؤلف
كتب على الغلاف الخلفي للكتاب: من يحب بغداد الخالدة، يعرف ان لها وجوها حضارية عدة، فهناك الفنون والادب والابداع في النمط المعيشي، لتفاجئك بعبث مقلق او حلو، والحال ان اهلها عابثون بامتياز، لكن من دون مجون او فحش، لقد كانت هذه المدينة نواسية بامتياز قبل ان تغتصب وتخصى وتصاب بالجهل والتخلف والخوف
الاهداء
اهدى معاذ الالوسي كتابه نوستوس لرفيقة دربه ( سوزانه ) كما يحلو له تسميتها ولأبنه ( بكر) وحيده , وللاستاذ فيصل الجبوري زميل مهنته , وللاستاذ سهيل سامي نادر الكاتب والصحفي والناقد الفني العراقي
وبما أن الكتاب مرسل لي من ( دار منشورات الرمال ) في قبرص بإيعاز من مؤلفه لذا خلا الكتاب من اهداء خاص لا يعوضه الدليل الانيق المرفق معه لمطبوعات الدار وسأتمنى على مؤلفه ان يرسل اهداءً خاصاً بي لتتم نعمته عليّ
محتوى الكتاب
الكتاب هو مسيرة خمسين عاما من الابداع بثلاثمئة و خمسين صفحة من الحجم الصغير , وما أن تباشر بقراءته حتى يتحول هذا الصغير الى ماموث في كم معلوماته واسماء شخوصه ووقائع احداثه من قلب الحدث , في نوستوس أضاء المعماري الكبير معاذ الالوسي ومضات استرجاع كبريتية للذاكرة وأنتخب واختار مايريده من ذاكرته كصرخة بنبرة عالية ( نوستوس ) فيها كثير من الاشتياق والتوجع على غرار صرخة اصحاب ( هومير ) في ملحمته الاوديسية والمأخوذة من نوستالجي الكلمة اليونانية التي تعني الحنين للوطن
أنها تجربته الاولى في كتابة نص طويل حافظ فيها على ايقاعية السرد وكأنه كتب كتابه بجلسة واحدة واستخدم اسلوباً راقياً بتعابير هو صانعها وكأنها مسمياته للاشياء بنظره وبمفهومه لا يتشابه معه احد فنال صفة التميز بالكتابة كما هي شخصيته
اختار تسمية ( درب ) كلمة يحبها لمسالك الحياة التي مشاها وفيها من التعرجات الكثير بالاضافة الى ماتعني الكلمة من مدلول عراقي يشير الى مجرى ضيق لا مناورة فيه دون مخاطرة والتقييم الذاتي والجمعي لهذا الدرب قاسٍ لا يرحم , لأن المجتمع العراقي خازن لأفكار توارثها خلال عمر زمني واسع لعمارته الحضرية والريفية , غنية , ثرية , يعتز ويفتخر بها , ولايتقبل التجديد الرخيص حتى ولا الجيد منه ويرفض النشاز ولا يغفر له
هو متطرف بعدم الانتماء السياسي , لم يستسغ السياسة يوماً على عكس التصاقه بقيم اخلاقية توارثها معتزاً بها , قيم ليست متعالية ولا مستحيلة بل قيم منزلية سهلة لاتقبل المماحكة كالجيرة والعائلة واحترام الكبير والعطف على الصغير , قيم قديمة لكنها جميلة تعطي للحياة معنى
هو ايضاَ من اوائل من فضّل الغربة القاسية والهجرة أيامها كانت اشد قسوة من هجرة هذه الايام , ايامها بغداد لم تكن طاردة لمجموع أهلها كما هي الان
أحدى المسكنات في الغربة أجترار الذاكرة , محطاته بيروت كما يحلو له تسميتها ( الخالة الحنون ) وحروبها العبثية وأثينا وأهلها , جعل منهم جميعاَ أوطان مع توجع خاص ولكن تبقى هناك الأم ( بغداد ) التي لا تعوض
الكتاب بأحد عشر فصلاً أوله فصل (البداية ) وآخره فصل (التغريب الابدي ) فتعالوا معي بسياحة لقراءة مضمون كل فصل حتى لا نبخس المؤلف ثمن وقيمة مسيرته وذكرياته
الفصل الاول (البداية)
يبدأ معاذ الفصل بعبارة ( البئر الأولى ) استعارة لفظية من جبرا ابراهيم جبرا تفيد معنى المكان الاول او البيت الاول وذكريات اولئك من لازالت ذكراهم مصدراً للالهام والانتماء
يروي تفاصيل نشأته الاولى بتفاصيل مكانية ولاعجب كونه معمارياً حتى النخاع , يصف بيوتات بغداد , شوارعها , مناطقها , محلاتها
ويقول ايضاً ان مشروع لتطوير صوب الكرخ بالتحديد تلك المنطقة التي أزيلت في منتصف الخمسينات وليس كما يعتقد البعض في الثمانينات , تسببت في هدر نسيج مديني متميز وابنية ذات خصوصية فريدة من جوامع وحمامات واسواق وواجهات وفعاليات نهرية فريدة في صوبي بغداد , رصافتها وكرخها , لقد فُقد الى الابد نمط معيشي اصيل ومتميز من دون توثيق جاد
يروي ايضاً ذكريات طفولته من الطارمة الخشبية المطلة على الشط وعلى مآذن وقباب ضريح الامام موسى الكاظم الذهبية , وكيف رافق الوالد في جلسات الرسم مع صديقه ( محمد صالح زكي ) الضابط في الجيش العثماني واوائل رسامي العراق , كان يجلس متأملاَ بصمت وبخشوع متعبد منتظراً ما يجودا به عليه من بقايا الوان وقماش لتنمو عنده منذ تلك الجلسات موهبة الرسم
في العطلة الصيفية كانت السباحة اليومية في النهر طقس اضاف له طقس القراءة التي لازمتهُ الى يومنا هذا
أجواء عديدة واصدقاء كُثر حدوا به الى اتخاذ قرارٍ قطعيٍ ضد الاهل , إما العمارة او لا دراسة
تمت الموافقة وتلبية طلبه فألتحق بجامعة الشرق الاوسط ( ام تي يو ) في تركيا , فشد الرحال بواسطة قطار الشرق السريع , وابتدأ التدخين حيث لا مراقبة ابوية صارمة وبدأ حياة التجريب والتعلم والخوشنة وكان بعمر ١٨ عاماً
الفصل الثاني (المنهل)
في فندق تعيس في أنقرة يشاركه السكن عدد من شباب عراقيين طالبي علم وغارقين بالمرح ولعبة البوكر وبنات بملابسهن المنفوشة وزينتهن المبهرجة واسنانهن الذهبية ابتدأ مشوار حياته بدراسة العمارة , ترك ذاك الجو سريعاَ ليختار سكناً خاصاً شقة في منطقة محترمة , كانت الدراسة صعبة جداَ زملاؤه يتقدمونه في اللغة والدروس التطبيقية , معظم اساتذته اميركان او اتراك اميركان اقحاح
في العطلة الصيفية وصل فرانكفورت برفقته كاميرا وعمل في مكتب هندسي يديره معماري متمدن وكما هو معروف عن الالمان حرصهم النظامي القريب لحد الاضطهاد لم تجعل ايامه سهلة
بعد التخرج من الجامعة شد الرحال صوب اوربا مع زميل سكن بأنقرة ( غسان رؤوف ) , واثناء توقفهم في روما وجد له عملاً في مكتب هندسي مسؤول عن تجهيز تفاصيل مبنى جامعة بغداد المصممة اصلاً من (والتر كروبيوس) قبل الاستاذ
صيف ١٩٦١ تسلم رسالة من الوطن تخطره بالعودة للالتحاق بدورة ضباط الاحتياط , عاد والوالد هو من دفع أُجرة التاكسي
باشر معاملة تعادل الشهادة ومراجعة دائرة البعثات وكان عليه الالتحاق بعد ثلاثة اشهر والسَوق في مديرية التجنيد قرب وزارة الدفاع
الفصل الثالث (اولى الممارسات المهنية)
التقى برفعة الجادرجي في مكتبه وكان يشغل منصب وكيل وزارة الاسكان فأقترح عليه ان يباشر العمل صباحاَ في الوزارة والمكتب الاستشاري العراقي مساءً لحين التحاقه بكلية الاحتياط في الرستمية التي بدأ المواظبة بالدوام فيها مع تكليفه بإعادة تجميل وتطوير مرافق الكلية مقابل نزوله يومياً الى بغداد , اضافة الى التشجير والتزيين وبناء مسرح مفتو ح , بسببه تم تكريمه من قبل الزعيم ( عبدالكريم قاسم ) بدرع من فضة
تكريم عبد الكريم قاسم يوم التخرج١٩٦٢
بعد اكماله الخدمة الالزامية نُسب الى وزارة الاسكان كمهندس معماري وأُنتسب الى نقابة المهندسين فكان المعماري رقم ( ٣٥ ) في النقابة
بعدها أصدر مع صديقه ( ياسر حكمت عبدالمجيد ) مجلة معمارية ( الننار) بعدد يتيم
من المشاريع المنفذة للمكتب الاستشاري العراقي ( بناية التأمين في شارع الجمهورية ) وعمارة هديب الحاج حمود في السعدون ومدينة الرشاد ودور متعددة في الصليخ والمنصور وعرصات الهندية
بدأ اسمه يظهر على لوحات المواقع , مثل بناية الطب البيطري , مراكز أيتام أربيل ودهوك , ودواجن ومعمل علف أربيل ومشاريع اخرى
في نيسان ١٩٦٢ التحق بالعمل على مشاريع الاسكان منها تخطيط مديني للثورة والشعلة بعد اتباع خطى وأسس مخططات مؤسسة ( دوكسيادس ) وتسلسلها في تخطيط وتوزيع الاراضي , الدار والبلوك ثم القطاع نموذج صممته في نهاية الخمسينات لإسكان اصحاب الصرائف في غربي بغداد
كما طُلب منه القيام بتصميم مركز مدني , سوق وجامع مع مستوصف في منطقة الفضيلية , وكان ذلك الملازم العسكري المثقل بالديون لزواجه من رفيقته الالمانية الجنسية بعد عام التحق بكلية رابطة المعماريين في ( بيدرفورد سكوير) بلندن ورزق في بغداد بوحيده ( بكر ) وهو خارج العراق , بعد عودته من لندن التحق بقسم التصاميم في مديرية الاسكان العامة كمهندس بأجور يومية ليحافظ على حريته من قيود وظيفة دائمية
تّملك داره الاولى من ارض سكنية تعود لجمعية اسكان موظفي وزارة الاشغال والاسكان في الحي العربي المجاور لرأس ابو جعفر المنصور الذي أُزيل مؤخراً , لم يتمكن من بناء سوى ثلث ال ( ٦٠٠ ) متر مربع لضيق ذات اليد
صمم مدارس ابتدائية جرى تنفيذ العديد منها واختار موقع جامعة البصرة بالتنومة وما يحن اليه ويثمنه هو عمله في صيانة العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وتشييده نوادٍ رياضية نموذجية في جميع انحاء القطر كما شيد نوادٍ رياضية في الكويت ومشروع مجلس الامة الكويتي
خسارة كبيرة يتحدث عنها وهي فقدان الكثير من الرسومات لمشاريع كبرى نتيجة الاهمال او الجهالة كتصاميم دار الاوبرا وجامعة في جزيرة ام الخنازير وبناية البريد المركزي وتصاميم جامعة أهل البيت في الاعظمية والميناء الجوي في البصرة ومطار المثنى
في ( برازافيل ) بالكونغو دُعي من قبل البروفسور ( باسكان لوسوبا) رئيس الجمهورية لترميم وتوسيع قصر الشعب الذي كان مقراً للمندوب السامي الفرنسي ايام الاستعمار , يبدأ حديثه عن المدينة ومعمارها وناسها لينتقل بعدها الى ( يرفان ) آرمينيا للقيام بالتصميم والاشراف الدوري على مجمع لسيارات المرسيدس
وهناك مشاريع تتعامل مع المجموع , مع الانسان كمشروع تطوير منطقة كلي علي بك ومشروع اسكان في قضاء ( جومان ) لاسكان العائلة البرزانية الكريمة وتخطيط منطقة ( مكرن ) وحديقة حيوان في الخرطوم وتخطيط مدينة ( العينت ) في سلطنة عُمان وتخطيط الكرخ وشارع حيفا وتطوير مدينة الثورة
الفصل الرابع (الهجرة الأولى)
تبدأ منغصات الوطن المرتدي بدلة الخاكي والسفاري , رمز السلطة والمُساء استعمالها مع ارهاب فكري وصغائر امور متراكمة أنتهت بقيام السلطة بفتح مراكز هندسية يمتلكها القطاع العام راحت تُخل بالمستوى المهني الرفيع , عندها قرر معاذ ترك كل شئ قبل الاختناق والاخفاق وشد الرحال لرحلة الهجولة الابدية
غادر الوطن في نيسان ١٩٧٤ متوجهاً الى قبرص , أنه الهروب الى امام , بعدها بشهر انتقل الى بيروت , كان سقف العمل فيها بحجم كاف هو مكتب في شارع ليون المتفرع من الحمرا مع سكرتيرة تعشعش في المدخل بلباس يصلح لحضور توزيع جوائز اوسكار مع شلة زملاء عمل كانوا مجموعة مخلصة وكفوءة ساعدته على التأقلم والغربة
بعد شهر أشتاق الى بغداد فشد الرحال اليها , استقبال بلا بشاشة معهودة والسبب مرض والدته , بقي معها ساعتين أستخلصت منه وعداً بعدم السفر ثانية " رجلي برجلك " دخلت غيبوبة الموت فنكثت هي بوعدها
بعد شهر الحداد في بغداد توجه الى دبي , وهي سفرته الاولى اليها وكانت ليست كدبي اليوم , كُلف بتقديم الاستشارة لمبنى البنك العربي الافريقي ومبنى لمقر البنك مع مكاتب وشقق للتآجير
البنك المركزي في صلالة
أمتلك يومها كاميرته التي لازمته عمراً ولو تكلمت لسجلت ما مر عليها من ملاحم ومشاريع , وجوه وأزياء , رقصات باليه , مدناً وأبنية , رسوم وفنانين , منحوتات وتماثيل , أنها كاميرا تتجوهر مع الزمن
قضى سنة حافلة بمشاريع في سلطنة عُمان مشروع مبنى وزارة معارف وملعب نٌفذ المدرج منه فقط , وفندق مطرح وتخطيط مدينة لصيادي السمك وجامع لآل السلطان باسم الحاج عبدالامير
في دبي العمل كان جيداً لبداية الثورة العمرانية فيها , بناية للفطيم , وأخرى لجمعة الماجد وثانية في الشارقة وإسكان قرب (سفن آب المطار لآل المكتوم ومعمل للمياه الغازية )
في أحدى سفراته الى بغداد عام ١٩٧٥ كُلف بأبنية لمقرات مجمع نقابات العمال لكل محافظات القطر وبعدد ( ١٤ ) مقراً
في بداية ١٩٧٦ ساءت الاحوال الامنية في بيروت وأضحت غير سالكة وغير آمنة , قنصه قناص مصري نصف أعمى فتوقفت الطلقة في مقود السيارة , كان محظوظاَ اكثر من زميله ( مصطفى الجاف ) فقناصه كان كفأً ومبصراً, صيّر من جسم مصطفى النحيل منخلاً
أنها " بيروت حريق والشقة غريق " وسمك حوض الاسماك ينطنط مفرفحاً من شظايا اصابت الحوض
سنتان غنيتان أنقضتا في بيروت , كانتا مثالية بالرغم من عبثية وقباحة الحرب , أخذ قراره بالاستقرار في آثينا الاغريقية , قد تكون للمستقبل هي المدينة الفاضلة
الفصل الخامس (آثينا)
حزيران ١٩٨٠ كان القرار نحو آثينا التي بدت مختلفة حديثة من حيث المدينة والناس عن آثينا التي زارها ايام التصعلك
أستحدث مكتباً مع كادر عمل متنوع الجنسيات وكانت اهم الاعمال مبنى سفارة دولة الامارات في مسقط وسفارتي دولة الكويت في البحرين والخرطوم
آثينا اكثر مدن العالم تلوثاً , فضلاً عن تلوث ضوضائي هناك تلوث جميل غير مزعج هو الكتابات ( الغرافيتي ) على الجدران , تلوث جديد لمن جاء من ديار يختفي فيها كل من يكتب او يقرأ او يقف عند غرافيتي سياسي
سنوات آثينا كانت ابداعاً مع عبث وإنتاج فريدين , تنوعت المشاريع وكثرت وأُضيف اليها مشروع كبير ومهم هو ورش وزارة الكهرباء في الكويت
ومشاريع اخرى يستحق التوقف عندها لما لها تعبيرات عن معتقد مهني واضح مثل بناية المصرف المركزي في صلالة , ومركز الدراسات المصرفية في الكويت , ومسابقة بلدية الدمام , وبلدية ابوظبي , وجامع عائلة السلطان في سلطنة عٌمان , وابنية جمعة الماجد في الشارقة ومعارض الفطيم
من اوائل المشاريع المناطة بمكتبهم في بيروت كان ملعب للشرطة في مسقط بعد نوادي الكويت , كان هوس الملاعب الرياضية قد ازداد , وهذا الملعب أنموذج على هذا الهوس
بعدها بدأ مكتب آثينا ينهار بالرغم من اجواء العمل الحميمية والانتاج المميز الا أن الجميع كان يتذمر , الاضطرابات في اليونان وصلت حداً مزعجاً من قبل النقابات ولكن خيبة الامل كانت كبيرة , لا فائدة من الاصدقاء والزملاء , الكل رحلوا
أذن هو الدوران وليس السير فهي حلقة مفرغة وعليه تكرار الاستكشاف لينتهي ليبدأ من جديد دورة تشبه غيرها ....استكشاف جديد للبدايات
الفصل السادس ( شارع حيفا - بغداد)
تشرين الثاني ١٩٨٠ عاد للعراق مجبراً مهدود الحيل , لا بأس من اجل بغداد الحبيبة , حرب الخليج الاولى كانت قد شّغلت رحاها وماكنة الخراب تسفك دماء خيرة شباب الوطن وشباب الجار اللدود الازلي , حرب ثمان سنوات عايشها بصواريخها وجنائزها وقصصها المأساوية
دُعي مكتبه للاشتراك بمسابقة معمارية مغلقة بين مكاتب عراقية مختارة وهي لايجاد الحلول والافكار المعمارية لشارع في مركز بغداد الكرخ وهو امتداد لمشروع تقوم آمانة العاصمة بتشييده من قبل قسم التصاميم لتسعة ابنية شاهقة مكونة من (١٥) طابقاً في الشارع نفسه , نتيجة المسابقة كانت جيدة , عرفها بطريقة غير رسمية وإن كانت البشارة لم تدغدغ الحواس
شارع حيفا
رفعة الجادرجي يلتقيه بعد ست سنوات وقد اصبح مستشاراُ لأمين بغداد , في اول مقابلة معه في غرفة مهلهلة بالية , من هذه الغرفة ستدار مشاريع جبارة ويكلف بها معماريون مشهورون
ابلغه رفعة بأنه مكلف بتجميل وتنظيم بغداد خلال السنتين القادمتين لاستقبال زعماء الدول غير المنحازة ( ايجابياً ) في مؤتمر قمتهم المزمع عقده في بغداد, شارع حيفا كان أحد هذه المشاريع الواجب إعمارها
كان هذا سبب استدعائه الى بغداد دون تأخير او مماطلة وعند التلكؤ فعلى بغداد والاهل والذكريات السلام
كان يسمي اعلى هرم السلطة ( الاخ الكبير ) الذي عيونه ساهرة على كل شئ , وإذا ما تكرر الاسم فواضح معناه
كانت القناعات هي انه من دون معرفة بمنهاج واضح ومعرفة بالنتائج المترتبة على تلك القرارات السريعة سوف لن يطوروا كرخاً ولن يعالجوا مشاكل ولن يعوضوا عن صوب أزيلت موروثاته نهائياً , صوب تراثي يندر تشخيص مثيلٍ له في المنطقة سيجعل عظام اجداده تتحرك في لحودها والتي لا تبعد عن موقع المشروع الا قليلاً , ومع هذا سيتم التشييد في جميع الاحوال , الكبير اعطى اوامره ومشى
اذن ستكون البنايا ت ذات (١٥) طابقاً كخوازيق غريبة في سماء بغداد , تسعة منها قبالة جامع الشيخ صندل ومجاورة لمحلتي الفلاحات والفحامة ذات الاصالة في نمط التخطيط , هكذا اذن نسيج جديد مديني غريب جداً عما يحيطها , لنقل ان الشامخات النواطح التسع احسن بكثير من ثمانين بعبعاَ شامخاً على امتداد الشارع فيما لو نٌفذ شارع حيفا
في صوب بغداد الرصافة كان تشويه مديني آخر بعد تشييد بناية الدفتردار الملامسة لشاطئ دجلة , وبناية غرفة تجارة بغداد , والبريد المركزي , ومصرف الرافدين الزجاجي الذي تناثر زجاجه في سماء بغداد بعد أصابته بصاروخ طائش من الجار
ابراج المياه اصبحت مشكلة عويصة لا يمكن التخلص منها بعد تحول خزان ماء الشرب منها الى احواض ارضية كما حصل للخزان الجاثم في كمب الارمن قرب ساحة الطيران , اضافة قبيحة تعارض تموقع نصب الحرية في ساحة التحرير
عدا الابراج العديدة للمخابرات والاستخبارات والامن العام والحماية الخاصة وأحد هذه الابراج في متنزه الزوراء الذي أُلبس عمامة مشابهة لعمامة أبي جعفر المنصور , ووظف كمطعم دوّار , دار ولف لأيام معدودة وداخ وأنسطل ولم يتمكنوا من إدامته , هذه الابراج لا تشوه بيئة المدينة فحسب بل سمعتها
لنتغاضى عن التشويه الذي أحدثته بناية ( جيو بونتي ) وزارة التخطيط وفندق منصور ميليا المتعدد الطوابق , لقد عّد ( باك منستر فولر ) بناية وزارة التخطيط جريمة بحق نهر دجلة
لا دراسة تخطيط حضري ولا هم يحزنون , على الابنية ان تكون جاهزة خلال سنتين لا غير , بدأ جدل مهني لا يخلو من عناد في محاولة ايجاد حلول تقلل التبذير والخطأ
بعد الانتهاء من تنفيذ القسم الجنوبي من الشارع سيتم تخصيص ابنية حكومية , مبنى وزارة العدل وآخر للحكم المحلي حسب متطلبات التصميم الحضري
كان المهم دراسة المنطقة ومعرفة متطلباتها , المحنة كانت في علاقة المشروع بالجانب الانساني اي البشر اللابدين في الكرخ المنتظرين التعويض والهجرة الى منطقة اقل كثافة واكثر خدمات
سؤال اخر : من سيسكن هذا الشارع المركزي مستقبلاَ ؟ انهم الكرخيون الجدد , اساتذة جامعة , حاملي شهادات ومن لايملك داراً منهم
كان الاكاديميون بحاجة لسكن والموقع جيد يتوسط الجامعات الثلاث , كان هذا الطرف الايجابي الوحيد
بدأ المسح الموقعي مشياً على الاقدام مع عدة تصوير أثارت شكوك الجميع والكل يسأل عن هوية صاحب الكاميرا وهدفه ليأتي الجواب دائماً " حجي ممنوع " او " استاذ ممنوع " متبرعين الجميع للحفاظ على أمن الوطن , في قبرص لم يحدث طوال خمسة وعشرين عاماً ان سأل احدهم عن هوية او عن كاميرا
بعد أشهر اعتاد الجميع وتصالحوا مع الكاميرا وحاملها وزادو الامر ليصبحوا أدلاء بالمجان ثم جاءت ديناصورات الهدم الآكلة لسنين غنية تحول الابنية الى انقاض
حط في بغداد الالماني المنتظر ( مانفرد موللر ) مع ماورثه من اجداده في علم البرمجة والادارة اللوجستية , لنظامه كثير من الاختصارات والتداخلات في المراحل والفعاليات التحضيرية , أي انه يجمع عمل جميع الفرقاء في آن واحد دون تسلسل الواجبات و دون انتظار فريق لحين أنتهاء الاخر من واجبه , وكان الواجب الالتزام بشبكة الفعاليات من الناحية الزمنية وتجاوز الروتين العثماني والكولنيالي المتوطن
في السنة الاولى من العمل كان الجزء الاكبر من المشروع تصميم ( ٧٥٠ ) شقة سكنية مع متابعة مشاريع الخليج بسفرات مكوكية الى عمان وبيروت والعودة عن طريق الكويت , سفرات أباحها جواز سفر مفتوح الذي لم يلبث بعد عام ان تنتهي صلاحيته فكانت سنة مثمرة بسفر دائم وسنين اخرى من دون سفر
أحيل قسم من التعهدات لمقاولين كوريين والمان ويوغسلاف , عدم الحصول على موافقة السفر وإنشاء الشارع كانا يسيران حسب الجدول والاسلوب المخطط له
تدوير الابنية هو الحفاظ على النسيج والعمارة وقيمها الجمالية وأٌتبع هذا الاسلوب في مدن المانيا ولندن بالحفاظ على ابنية تراثية وتقديمها بعد عملية بث روح جديدة في نمطها , في الكرخ ( الشواكة ) والكاظمية عدد من هذه الدور تمت صيانتها بأسلوب جيد وآخاذ ودُورت في استعمالات جديدة واحدة منها تحول الى ناد للمعماريين والاخر شغلته دار المخطوطات وأعتذر النحات محمد غني حكمت والفنان شاكر حسن آل سعيد والعلامة الوردي من استلام دور اثارية خصصت لهم
لم تخلُ تلك الايام من منغصات كالزيارات المفاجئة للاخ الكبير ومايرافقها من تشديدات وقلق , واحيانا استدعاء رسمي للقصر الجمهوري , في المرة الثانية كان استدعاء مهني مع شلة زملاء , عند حضور الاخ الكبير يتهيب الجميع , يصمتون وعندما يهم بالسلام يبدو هو أقل شراسة من حاشيته , كان الهدف هو توجيه المعماريين الذين يقومون بإعمار البلاد والتوجيه بحد ذاته فن من فنون اللامعقول
الاستدعاء الثالث كان لابداء الرأي بتصميم جامع يقع ضمن مجمع رئاسي , المعماريون الشباب ذوو القيافة العسكرية بدت عليهم الرهبة وكأن الطير على رؤوسهم , والعروض مغالاة في تصاميم لجوامع مستوحاة من معدات القتل مآذن على هيئة رشاشات وقباب على هيئة خوذة مقاتلين ,هذه التصاميم دفعت معاذ الالوسي للاعتراض بحدة مؤكداً على رمزية الصلاة لا الحرب
كان لمشروع حيفا نقائص عديدة : خلوه من المساحات السالبة التي توازن الكثافة السكانية , فقدان مواقف للسيارات , نقصان في الحدائق وساحات التفسح , لذا قام مسؤول الانشاءات بأدخال تصاميم لحدائق وتأثيث الشوارع من خارج شروط التعاقد , أعمدة قصيرة لمنع وقوف السيارات على الارضية , وحواجز مزنجرة لمنع المارة من العبور عشوائياً , وسلات مهملات , ومظلات لشرطة المرور ومصاطب للجلوس
عدا النصب والتماثيل والجداريات وكانت من نصيب النحات محمد غني حكمت وجدارية لشبكة صيادي الاسماك لنهى الراضي ونحت لاسماعيل فتاح الترك ونافورة كبيرة نصيب فالنتيوس لم ينفذها لأنشغاله بعمل جدارية نادي الضباط
تم الاحتفال بتدشين الشارع , احتفالات , ولائم , دعوات سخيفة والكوادر الجامعية التعليمية التي خُصصت لها الشقق كانت بأنتظار مرعب
الفصل السابع (صوب الكرخ)
حداثة دار المعمار فهمي دولت من شرفة مارنكوز
يحكي معاذ في هذا الفصل عن دور سكن بمستوى معماري مميز , تقرر الحفاظ عليها , دار السويدي , العائلة المعروفة في بغداد , و دور الظاهر وهي مجمع بعمارة جميلة جداً , وهناك داران الاول يدعى ( مارنكوز ) وتعني باليونانية والتركية (نجار) كانت الدار غريبة الطراز لاعلاقة لها بالمنطقة بسقف مزخرف مائل لتلافي تجمع غبار بغداد عليه
نهى الراضي ونصب السماكة ودعبول ازيل مؤخرا
هناك كذلك دار سعدون الشاوي الذي هو تحفة معمارية أنيقة , يقع على النهر جوار السفارة البريطانية , انه معلق فوق النهر حيث الشريعة التي تستعمل , فضلاً عن عبور النهر , مرفأ لصيادي السمك , وكان بينهم ( دعبول السّماك ) الذي خلدته (نهى الراضي) بجدارية من السيراميك , فُقدت نهى الراضي في الغربة وهي في عز عطائها , أكلها المرض الخبيث الذي لا يُسمى حسب قول عجائز بغداد , الان هي في سبات أبدي في بيروت
بعدها يروي تجربة تطوير منطقة الثورة التي اصطبغت واتشحت باللون الاسود سنين الحرب , تتجاوز الكثافة السكانية في مدينة الثورة / صدام / الصدر ال ( ١٠٠٠ ) شخص بالهكتار ضعف عدد مامخطط له في شارع حيفا
قطاع النقل معقد جداً , الكرخ تقع ضمن المنطقة المركزية للمرور , فهي ممر صاخب , ما زاد في حجم المشكلة هو ادخال مايزيد عن ( ٢٠٠٠) عربة جديدة للمنطقة من جراء تشييد شارع حيفا
ثم يستغرق في تجربة دراسة أقتصرت على مفهوم المحافظة على منطقتين منفصلتين من المناطق السكنية في الكرخ وهي الكريمات والشواكة في خطة تطوير الكرخ بأجمعها وإسباغ الطابع الخاص المميز عليها
الفصل الثامن (ضمن الدرب خارج الكرخ)
هنا يروي ثلاث محاور , الاول تأهيل بعض قطاعات مدينة الثورة والثاني تصميم جامع بغداد الكبير , جامع الدولة الرسمي والثالث ( داره ) دار الصليخ المكعب , دار سكن المعمار بلحمهِ ودمهِ في منطقة المنهل الاول بالقرب من مدرسته الابتدائية
مدينة الثورة بعد ان باتت عشوائية وسباقاً محموماً على التسمية , كثافة سكان غير عادية , رقم قياسي في سوء الخدمات ,اذن هي مدينة (مفخخة ) وحبلى بخطاب فوضوي , تقوّيه جماعات سياسية دينية
يستعرض نشأتها على يد الزعيم ( عبدالكريم قاسم ) وتبني مؤسسة ( دوكسيادس ) اليونانية الاستشارية ذات التخصص المتميز في مجال الاسكان , اعتمدت المؤسسة المذكورة على نمط تخطيطي متكون من قطاعات رئيسية , وكل قطاع متكون من بلوكات , والبلوك عبارة عن مجموعة دور متراصة وجميعها متصلة ومقسمة بشبكة طرق , عدد قطاعاتها ( ٥-٦ ) قطاعات , نمت بصورة مخيفة لتصل الى مايزيد عن ( ٨٠ ) قطاعا , تحتوي البلوكات على مدارس ابتدائية ومحلات مكشوفة للتجمع , أٌسقطت مواقف السيارات خارج البلوك , أما الحدائق والتشجير المديني فلا ذكر له في التخطيط الاصلي للمدينة , تشترك القطاعات بالاسواق , كما تضم جامعاً ومستوصفاً ومدارس ثانوية
هذه الكثافة السكنية التي تجاوزت المليوني نسمة ضاعفت الاحتياجات والخدمات الضرورية اليومية , زيادة في استهلاك الماء والكهرباء , تكدس النفايات والصرف الصحي , أنتهت بغرق المدينة بها , تكدس الازبال على هيئة تلال , انتشار الاسواق عشوائياً أينما وجدت فسحة خالية , اسماك متعفنة حوض من الماء الآسن لسباحة البط والوز , أقمشة , أثاث , ثم اعجوبة الاسواق كسوق ( مريدي ) الذي يبيع المسروقات والاسلحة الخفيفة والثقيلة وتجارة الممنوعات وتصريف العملة , لعله سوق لتآليف النكتة وبيعها وهي بضاعة رائجة في مدينة البكاء الدائم
في منتصف الثمانينات قامت امانة عاصمة بغداد بمحاولة تأسيس مجاري للصرف الصحي وتوفير حد أدنى من الطرق المكسية , نتجت من هذه الحملة مناطق مفرغة , الغرض منها خلق اماكن للتجمع واللعب تساعد على خلخلة الكثافة السكانية داخل الدور وخارجها , ظهرت الحاجة الماسة لتأهيل هذه المساحات بدلاً من تركها لتغدو مكباً للأزبال ومستنقعات زاكمة للأنوف
الطريق الاصوب لتطويرها هو اعتماد عدد من المحّكات واختبارها بالتجربة دون الاعتماد كلياً على ألة اليابانيين المختارين لتأهيل المساحات المفتوحة , لا بد من تقييم مستمر ومعايشة دائمة واخذ وعطاء مع الاطفال والكبار , النساء والرجال
في تأهيل مدينة الثورة كان الهدف الاساس هو توفير الاجواء الملازمة للتمدن ورفع صفة الترييف السائد فيها , كان تبليط الشوارع عملية معقدة , إذ كان يتطلب الوصول الى الطبقة الصالحة من الارض نظراً لتراكم الطين الآسن , كان الحفر يصل الى اكثر من مترين والارض لا زالت سوداء آسنة بعد
من يريد صيانة داره ؟ المعمار موجود للمساعدة والتوجيه , والمواد متوفرة , فليتفضل هذه فرصة العمر . مجرد وصول هذه الدعوة المجانية للسكان حتى توافد الجميع , فتأهل القطاع وتلّون الجو بآصالة وجمال وبأذواق بالرغم من بساطتها جذابة ممتعة
تعاون ساكني القطاع في الثورة
مديرية المشاتل اسهمت بنشر الخضرة والزهور, لم تحدث سرقة لها ابداً كما حصل في شارع حيفا , بالعكس أُديمت الاشجار من قبل الساكنين ,الانابيب الكبيرة الحجم تحولت الى ألعاب تُمتطى وتركب من قبل الاطفال
كان مردوده المادي صفراً , بيد أن التجربة كانت كبيرة جداً , المكتب لم يتقاض اي اجور عن هذه الاعمال كان القصد هو المشاركة في اسعاد الغير وان لم تكن التجربة بمجموعها خالية من المرارة
عملية التأهيل نجحت الى حد ما , الا انها لم تستمر , أذ توالت الاحداث , حروب وحصار ونهب وسلب وجيوش متقاتلة في هذه المدينة , عادت سرادقات التعزية وعمّ القطاعات اللون الاسود , ثم الفلتان في التصرف اليومي , مما أعادها الى حالتها المتهرئة باحثة عن حلول جذرية
الفصل التاسع ( جامع الدولة الكبير)
صيف ١٩٨٢ تم تشكيل لجنة لتشييد جامع الدولة الكبير برئاسة مستشار أمين العاصمة ( رفعة الجادرجي ) وعضوية ممثلين لوزارة الاوقاف و وزارة التعمير , مع تعيين مستشار أجنبي للتنسيق والتحضير لمسابقة دولية , جرت دعوة ( ٢٣ ) مكتباً للمسابقة نصفهم من العراق والنصف الاخر من دول العالم , تأهلت في النهاية سبعة مكاتب , مكتب معاذ كان أحدها
أمتاز المشروع بالضخامة , فالجامع يستوعب ( ٣٠,٠٠٠ ) مُصلي في وقت واحد مع وجود مصلى أخر للنساء يستوعب ( ٣٠٠٠ ) مُصلية , بكلمة كان مدينة لممارسة كل الطقوس الدينية , بالاضافة الى ساحة خارجية , صحن , مكتبات , صالات اجتماعية , سكن للقائمين على المؤسسة وللعاملين بها
مسابقة مشروع مسجد الدولة الكبير 1982 بغداد
الجوامع في بغداد لها نمط هندسي مميز , تختلف عن جوامع العالم أجمع , فهي نحتية فريدة وبمقياس انساني قبل ان يجري الاستيراد الخاطئ لأساليب غير معروفة في العراق , كجامع أم الطبول , المستوردة عمارته الغريبة عن بغداد لينتهي بجامع أم القرى والرحمن وأخرها تسقيف الحضرة الحسينية في كربلاء , كل هذه الامثلة كانت خروجاً عن التواصل والتسلسل الفكري الطبيعي
فريق مسابقة الجامع بأجمعه شّد الرحال الى مدينة ( مونستر ) في ( ويستفاليا ) الشمالية بألمانيا , نظراً لأجوائها الاكاديمية , ولوجود جامعة محترمة تساعد في اعداد وثائق المسابقة , طلاب قسم العمارة كانوا خير عون في إنتاج الوثائق المطلوبة
ليست مدينة صغيرة , و لا هي مدينة كبيرة , مدينة باروكية المنشأ , دائرية , يحيطها حزام اخضر , مثالية للتأمل (مونستر) والشطح في الابداع , إنها المدينة الأمثل للأختلاء ولإنتاج تصاميم الجامع ,فضلا عن كون اللهو الالماني محدود جداً فيها, تم تأجير مكتب بسيط وأثاث رخيص والتحق به فريق عمله
لقد أُختيرت ثلاثة حلول من أجل دمج معالمها في حل جديد واحد , الهيكل الرئيس من مكتب راسم بدران , والصرحية ل ( بوفيل ) الاسباني , والانتماء البغدادي لمكتب معاذ الالوسي
كانت الاجتماعات والندوات كثيرة , قليل منها مفيد وكثير منها فج ومتخلف , الأخ الكبير يقترح تصاميم وأفكار معمارية تصنف في قاموس العمارة الحديثة ب ( ما بعد الجهل ) بتدخلاته بات فعل التصميم المعماري عملاً شعبياً مشاعاً , يمكن لأي كان ممارسته وحسب الأذواق
في أجواء كهذه ينمو جدل غير مهذب يأخذ ساعات , فقد جاهر البعض وتساءل , فيما أذا يحق لغير المسلم تصميم مرافق اسلامية ؟ إن الطاهر عندهم هو المسلم فقط , والباقون غير مطهرين ولن يدخلوها آمنين
بعد جدل مفتوح تقرر إعادة المسابقة , أعتذر مكتبهم بحجة أنه لم يتمكنوا من تقديم أحسن مما قدموه في حينه , وفي النهاية حصلت بغداد على حملة رحمانية ومساجد مستنسخة من افلام الف ليلة وليلة الهوليودية , جٌرب فيها انواع جديدة من الايمان والتعبد , صلاة داخل بحيرات , وأطباق طائرة , ومآذن تشبه صواريخ موجهة , وساعات مرفوعة دقّاقة , وزخرفة دخيلة بنهج عشوائي , جامع على هيئة رخ يهم بالإقلاع منسوخ وممسوخ حرفياً من مبنى شركة طيران ( تي دبليو اي ) في مطار كندي للمعمار ( سارانين ) في نيويورك , جوامع كأنها مدن ألعاب , لقد طنش الجميع وأبتهجوا وسعدوا بالأسلام الجديد في العراق الجديد
الفصل العاشر (في عموم الدرب)
البيت المكعب: اطلالة على دجلة
شّكل بيت الصليخ ( المكعب ) الذي رُشح لأحد جوائز الاغا خان للعمارة , مجموعة شطحات نتجت من تراكم مسترجعات سكن الطفولة المطل على الشط , مقابل منائر وقباب موسى الكاظم الذهبية
هذا المشهد والمكان ظل يلح في الذاكرة شوقاً مضطرماً , فمن أين له أن يحقق حُلمه ؟ ( لقيتها ) كما قال أحدهم قديماً, قالها ابن عمه ( خليل ) القريب جداً من احلامه , جاره في المنطقة نفسها مستعد للتنازل عن جزء من حديقة داره المطلة على النهر وتكفل بالتفاوض المضني مع صاحب القطعة للحصول عليها بثمن ليس بخساً
تلك هي قصة داره ( دار العمر ) مواده محلية صرف , الطابوق والخشب وسكك حديد , لا مرمر ولا المنيوم , تجارب جديدة في التسقيف والعقد بالطابوق
لم يبق من هذا المكان ألاّ الذكرى , أستمتع به مدة ستة اشهر فقط وهو مغلق منذ مايس ١٩٨٩ , لا ضير , المتعة الكبرى هي عملية الخلق والممارسة التصميمية نفسها
تم القضاء على بيئة المكعب وطوباوية وجوده , فالأخ الكبير معتمداً على اقتراحات مجموعة من الجهلة والمنافقين من الحاشية أكسى جرف دجلة بالحجر , لم تعرف بغداد في تاريخها المعماري على مادة انشائية اسمها الحجر , عجبا أين ستلوذ حمائم الجواهري ؟
الرؤساء الجدد ودباباتهم ( ابرامز ) سلبوا هوية المنطقة , فقد هُجّر من هجّر , وسجل المكعب اول احتكاك بالمحتلين , دقوا الباب للتفتيش , لم يجبهم احد لأن ساكن البيت يعيش في قبرص , كسروا الباب بكل ما حمل من تصميم وزخرفة من عمل المعمار ( عصام السعيد ) حفيد نوري السعيد , تُرى ياعصام أي مقبرة سيقوم بواجب زيارتها تكريماً لأهله ؟ عظام والده وجده سٌحقت في شوارع بغداد , بغداد بكرخها ورصافتها
في المرة الثانية دخلوا الدار , الجندي الامريكي غير الحائز على الجنسية الامريكية بعد لم يستوعب معنى الفناء الداخلي والحديقة الوسطية , بينما كانت ماكنته الطنانة كاشفة الاسلحة والتفخيخ تعمل , ظل في حيرة من أمره , لم يدرك ان سبب الطنين والرنين هو الانبوب الحديدي المدفون في الحديقة الداخلية , فهاجم بعنف وحطّم صخرة سيراميكية كبيرة في مركز ارتكاز الفناء الداخلي وهي هدية من صنع صديقة عمره الفنانة ( نهى الراضي ) ناعلاً الفن وأصحابه
الدار معروض للبيع الان , سيغتصبه من يدفع اكثر , من حواسم وقفاصّة أو علاسّة ...بيد ان ذكراه ستبقى
الفصل الحادي عشر (التغرب الابدي)
الكرخ وحيفا وبغداد ومشاريعها المناطة انتهت تسلمها اصحابها , شقق حيفا وّزعت على مُستحقيها وغير مُستحقيها , البيت المكعب اصبح واقعاً , الجميع ممتن مثلما يحدث في نهاية حكاية مريحة , علّيه ان يشد الرحال أذن , المكان لم يعد يرحب به , لعله ينتظر فرصة لكي يلدغه
أُختير مكتبه مع مجموعة اخرى لتحضير تصميم قصر الأخ الكبير ( صرح القادسية ) نصف قلعة , معقل , يقع على تلة اصطناعية بأتربة متكونة من حفر بحيرة اصطناعية وفي بيئة متوترة دخيلة ومصطنعة لسلطة متّصنعة , قصر بثماني بوابات , كل بوابة بأسم من اسماء الحواضر العربية , وهو على شكل نجمة ثمانية عربية اسلامية
لم تكن مسابقة صرح القادسية مسابقة معمارية فحسب , وإنما مهرجان اعلامي ترفيهي , يتوخى تسلية المهندسين , فقد سُمح للمعماريين ان يزوروا قلاعا وقصورا لملوك ورؤساء في اوربا بناءعلى مكرمة من القائد
على الرغم من المعاناة في تصميم صرح القادسية فقد كانت له بعض المنافع الجانبية , هو التحفيز على الكتابة والتدوين بل كان أحد اسباب كتابة نوستوس
في بيئة عمل لا روح فيها ولا تواصل و لا حوار فإن النتيجة المتوقعة هو عمل بلا روح , بدون عبث ولهو مفرح , كيف العبث وانت لا تعرف على وجه الدقة سلوك صاحب العمل , ليس في الرضا والقبول العاديين , بل في الغضب والمعاقبة
بعد صرح القادسية والتغرب الاخير , اصبح الفن المنقذ والشاغل الاول في الممارسة الابداعية
لم يكن صرح القادسية بالعملية المنشطة أو المهيجة , بل مجرد عمل روتيني ميكانيكي , تسلّم الموافقة المشروطة على اشتغاله في الخارج , ومن ثم السماح بالتردد على بغداد , ذهب الى المطار وليس هناك من يسكب الماءخلفه , كعادة العراقيين متمنين عودته السريعة , فيما بعد عرف ان البعض رمى خلفه اكثر من حجر متمنياً له عدم العودة , كانت غصة في القلب , أذن بيت آخر في ارض وسماء آخرى
اوائل مايس ١٩٨٩ هبط متغرباً خافض الجناحين في جزيرة الحب حيث سكنت ( افروديت ) ألهة الهيام والغرام وبالتحديد في ليماسول , مدينة العنب والخمر , كان يفكر ببلد بحجم طاولة العمل والقراءة يمكن ان يكفي , وبغداد ستكون معه حتماً
نوستوس .....أنتهى وإن لم ينته ....تاركين معاذ الالوسي بجلسته اليومية برفقة كتاب وبحر وذكريات تأخذه لصوت والدته وهي تنهره وهو ابن عشرة اعوام أن لا يقفز على سطور القرآن مستعجلاً طفولته ويتوجع لذكر بغداد كيف هَرمِت وشاختْ وتقطعتْ ثم ُسرقِتْ ودول الخليج كيف تورمت كسرطان من ناطحات سلختها هوية اللؤلؤ
ويعزي نفسه لرحيل أبدي لاصدقاء بدؤا يتساقطون كأوراق الخريف واحداً تلو الآخر ...ويبقى معاذ هو الجمال حيثما يكون
أما رأيي بالكتاب فهو من يحب بغداد الخالدة عليه بنوستوس , وياليتني ملكت الكتاب قبل لقائي معه على الاقل كنتُ عرفتُ أكثر من أحاور , ولكن أن تأتي متأخراً يانوستوس خير من أن لا تأتي أبداً
1338 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع