نزار السامرائي
تلفزيون بغداد أول تلفزيون في الوطن العربي والشرق الأوسط
لا يتعلق الأمر بسحب الحديث إلى موضوعات لا قيمة لها في هذا الوقت بالذات، حيث تتكدس المآسي على العرب من أول شبر على بوابته الشرقية حيث تطلع الشمس على ميزوبيتاميا، إلى فلسطين حيث ما تزال غزة تدفع أكبر الأثمان من ضريبة الدم العربي المستباح، إلى أقاصي جنوب جزيرة العرب المكبلين بأغلال بعضها اختاروه بأنفسهم، وأكثرها فرضته عليهم قوى الاستكبار العالمي للتضييق على الإنسان كي يفاضل بين موتين لا حياة بينهما، إلى سوريا الشام التي فقدت طعمها ورائحتها حتى جف برداها وعاصيها، ولبنان الذي كان ذات يوم مضرب مثل لكل من يريد ضرب الأمثال في الازدهار ورقي الثقافة والطباعة، والتعامل مع الغرباء والمارين عبره إلى العلياء والذوق الرفيع، وما زالت العجلة تدور بلا توقف.
بل هو مسعى لإعادة التذكير بأحداث تاريخ قريب جدا، ليس فيه مصلحة لأحد أن يُزوَر صفحاته، فلا سياسة فيه ولا عقد عرقية أو دينية أو مذهبية، تستدرج كثيرا من التنابز بالألقاب، بل هو حدث ثقافي أو فني يرتبط بتاريخ افتتاح أول محطة تلفزيون في الوطن العربي، الأمر ليس مباراة في سوق عكاظ يتبارى فيه أصحاب المعلقات، ومن أجل ذلك يلجؤون إلى الخنساء أو زهير بن أبي سلمان، لا ليس من ذلك ما يستدعي تحضير أرواح رحلت منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، الأمر ببساطة يحتاج إلى تقليب بعض صفحات الأرشيف، وإن كان العرب للأسف الشديد لا يحبون التوثيق ولا يميلون إليه إلا في مجال الشعر، لأن كل واحد منهم مشروع شاعر يسعى أن يتناطح مع تمثال المتنبي ببغداد أو تمثال أبي العلاء في إدلب، أو يزور قبر كبار الشعراء المعاصرين مثل أحمد شوقي والجواهري وعبد الرزاق عبد الواحد أو السياب، عسى أن ينهض واحد منهم من رقدته الأبدية فيضع في جيبه ظرفا مختوما يجد فيه مطلع قصيدة تكون بشارة بميلاد شاعر جديد.
المهم نقلت قناة (العربية الحدث)، في نشرات أخبارها يوم الجمعة 6 أيلول الجاري، تقريرا كان حافلا بمغالطات من معده المستقل أو المعد في فضائية العربية، ركز فيه على أن تلفزيون لبنان الرسمي كان أول تلفزيون في الوطن العربي، وهذه كذبة تحسب على بلد مثل لبنان كنا نظنه أكثر الأقطار العربية شغفا بالتوثيق الورقي، ثم انتقل قبل غيره من العرب، إلى التوثيق الإلكتروني حتى قبل أن تضع الحرب الأهلية فيه أوزارها، والتي لم تؤثر رغم مآسيها والدماء العزيزة التي سفكت فيها والأموال التي احترقت أوراقها في نيران معاركها القاسية، حديثي هذا ليس من نعرة قُطرية ضيقة، فأنا والحمد لله من بين أبعد الناس عنها وأرجو الله التثبيت على هذه النظرة القومية العابرة لحدود سايكس بيكو، إنما لتثبيت حقيقة لا أعرف كيف غابت عن معد البرنامج المذكور وهو يريد توثيق حدث في زمن التوثيق الورقي ثم انتقل إلى التوثيق الإلكتروني، ولا ادري من أين حصل على هذه المعلومة؟
نعم وطننا وامتنا يجتازان محناً متتالية ومتداخلة تعجن اللحم بالدم لتقدم للجياع خبزا مسموما، فمن يُخطئ في التوثيق القريب لا بد أن يرتكب أخطاء في الحديث عن التاريخ والتأريخ معا، وهل يجوز لنا أن نركن إلى أحداث حصلت قبل أربعة عشر قرنا أو تاريخ أمم أخرى ونحن نلمس أن كل شيء يحرّف، وشواهده بالصوت والصورة؟
تبدأ قصة التلفزيون العراقي بعد أن أقيم في بغداد في منطقة كرادة مريم معرض تجاري صناعي عام 1954، في الأرض التي كانت خالية، وهي المنطقة التي أقيم فيها مبنى وزارة الاعلام، ومن بين الاستحضارات الواسعة التي قامت بها أمانة العاصمة حينذاك، أن أحالت عقد تبليط (تعبيد) الشارع الممتد من ساحة الملك فيصل الأول المقابلة للجسر الذي كان العراقيون يطلقون عليه اسم جسر مود وهو جسر الأحرار الآن، وحتى جامع الحاج مظهر أحمد الشاوي الذي لم يكن قد اكتمل بناؤه بعد حينذاك، والذي افتتح من قبل الملك فيصل الثاني رحمه الله أيضا يوم 2 أيار 1958.
المهم أن تعبيد هذا الجزء من الشارع أحيل إلى شركة ومبي البريطانية للمقاولات الإنشائية وكان بممرين، ويوم الافتتاح تم تشغيل خط باصات من طابقين من نوع AEC البريطانية الصنع وتم استيراد عدد محدود منها في تلك السنة لنقل زوار المعرض من باب المعظم إلى منطقة المعرض، هذا النوع من الحافلات التي تدخل لأول مرة الى العراق، بعد أن كانت الحافلات من النوع نفسه تعمل على مختلف الخطوط في مدينة بغداد ويُطلق عليها البغداديون اسم (أمانة)، ولكن من طابق واحد، وكانت بغداد ثاني مدينة في العالم بعد لندن تنتشر فيها خدمة حافلات نقل الركاب من طابقين.
ومن بين الشركات التي شاركت في المعرض شركة (باي)، البريطانية التي كانت قد جلبت معها محطة صغيرة للبث التلفزيوني وهي محطة صغيرة وشغلتها طيلة أيام المعرض الذي استمر شهرا، ومن أجل تعريف المواطن البغدادي بخدمة البث التلفزيوني، قامت بتوزيع عدد من أجهزة تلفزيون باي على بعض المقاهي المزدحمة في بغداد، وكنا في ذلك الوقت نشاهد بدهشة ما تعرضه تلك المحطة من أفلام وبرامج متنوعة.
وبعد انتهاء المعرض أجرت الشركة مقارنة في حساب الكلفة بين أن تقوم بتفكيك المحطة ثم نقلها إلى البصرة لغرض إعادة شحنها إلى الموانئ البريطانية، مع خضوعها لقانون ضريبة التأخر في إخلاء مواقع العمل التي كان القانون العراقي يفرضها حينذاك بعد انتهاء الغرض من إقامتها، فتوصلت الشركة أن تقديم عرض للحكومة العراقية بتمليك المحطة لها هو أفضل الخيارات المتاحة، فقررت اهداء المحطة للحكومة العراقية أو بيعها بسعر تفضيلي، تجنبا لتكاليف النقل..
وتم نصب المحطة في مبنى الإذاعة في الصالحية على شكل جملون، وافتتحت من قبل الملك فيصل الثاني رحمه الله يوم الثاني من أيار عام 1956 وصادف ذلك اليوم الذكرى الثالثة لتتويج الملك وعيد ميلاده الواحد والعشرين، بعد أن تكلفت الشركة المذكورة بتدريب عدد من الكوادر الهندسية والفنية على إدارة المحطة.
كانت منفعة شركة باي مزدوجة فقد تعرّف العراقيون على تلفزيون من نوع (باي) فبدأ المواطنون المتمكنون ماديا باقتنائه هذا النوع من الأجهزة تباعا، حتى دخلت على الخط الشركات الالمانية وخاصة جهاز كرونديك، والأمريكي والهولندي من مختلف النوعيات.
1214 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع