عادل شهاب الأسدي
الراحل مهدي البدوي مبدعٌ فوق الرفوف العالية !
الفن جمال قبل أن يكون أي شيء آخر وبواسطته يمكن للفنان أن يوصل المضمون الإنساني والفكري والإبداعي إلى المتلقي لتأكيد القيم الجمالية لهذا الفن أو ذاك . وذلك من خلال مهارته الفنية التي ترسخ قواعد مسيرته الإبداعية . استطاع فن الخط كأحد الفنون التي عرفها الإنسان منذ القدم أن يأخذ حيزا كبيرا من الريادة مكملا لبقية الفنون كالنحت والرسم وفن الريازة والعمارة وغيرها من الفنون .
البدوي فناناً شاملاً
ويعد الصحفي الرائد مهدي البدوي واحدا من أبرز الأسماء الذين تركوا بصماتهم في عالم الخط طيلة خمسة عقود ونيف حيث احترف الخط بصنوفه المتنوعة , ولم تقتصر موهبته على ممارسةِ فن الخط وحسب بل تعداه ليصبح فنانا شاملا مارس صنوف أخرى من الفنون , وقد امتازت أعماله بالدقة والمهنية والحرفية العالية وقدرته على تطويعِ الحرفِ بسلاسةٍ منصهرا معها بوعي وذهنية متفتحة من خلال آلة لا تتعدى سوى أصابع يده وعبقريتها ولشد ما أنهكتها سنين عجاف لم تمنحه سوى النزر القليل وعيش كفاف وسط زوبعة عبثية أطاحت بأحلام المثقف العراقي المبدع الخلاق .
هكذا بقي مهدي بدوي أواخر حياته أسير دكانه في أحد أزقة محلة البجاري الضيقة في منطقة العشار الذي لا تتجاوز أبعاده المترين أو أقل , هو كل ما استطاع الحصول عليه والذي لا يمنحه المساحة الكافية والطبيعية لممارسة عمله بحرية , ما يجبره اللجوء للفناء الخارجي للدكان , فتراه جالسا إلى طاولةٍ عتيقةٍ وكرسيٍ متهالكٍ متحملاً الحرارة صيفا وقسوة البرد شتاءً أو تراه يجلس أحيانا مستظلا بفيء البناية المقابلة لدكانه , ولفرط انشغاله فهو لا يكترث للمارةِ من أمامه وحينما تُسَلم عليه يطالعك بسحنتهِ السمراء وقسمات وجهه المكدود التي تشي بحزن دفين اكتنزتهُ عقود خلت ترسم ألف علامة استفهام وسؤال وعتب كبير ولكن عتب على من وممن ولمن سوى الرضوخ والتسليم والاعتكاف داخل صومعته المتواضعة ليهَبَ الآخرين ما تجود به أنامله من إبداع متفرد كراهب متوحد !
ما قاله الراحل مهدي البدوي
في الحقيقة أن البدوي أسم تداولته عائلتنا لمواليدها الجدد وليس لقبا كما يعتقد بعض الأخوة .
الاسم : مهدي كنش بدوي من مواليد البصرة 1943 ، أكملت دراستي الابتدائية في البصرة . ثم انتقلت إلى بغداد وأكملت دراستي المتوسطة والثانوية تخرجت بعدها من أكاديمية الفنون الجميلة .
عضو نقابة الفنانين العراقيين / عضو نقابة الصحفيين العراقيين والإتحاد العام للصحفيين العرب ، عضو جمعية الخطاطين العراقيين ، لي من الأولاد ولد وخمس بنات.
تجلت موهبة الخط عند مهدي بدوي منذ الصغر وهو بعد في المرحلة الابتدائية , وكان يحلم لأن يصبح فنانا كبيرا في يوم من الأيام .
درس في مدرسة الملك فيصل الأول الابتدائية ( الجمهورية النموذجية فيما بعد ) و التي كانت تقع خلف الإعدادية المركزية .
كان الفضل في دفعه لهذه الموهبة هو شغفه بها أولا ومساندة ومساعدة والدته في ذلك رحمها الله ثانيا فهي التي علمته وشجعته لتطوير موهبته في ممارسة الخط والرسم فقد كانت رحمها الله من الأمهات المثقفات فهي تحفظ القرآن الكريم وتفسيراته عن ظهر قلب كما ذكر الراحل, والتي يعدها مدرسته الأولى التي زرعت بداخله تلك البذرة وعلمته فن الخط والرسم حتى نمت وترعرعت موهبته تحت إشرافها, وقد مثلها الراحل بالدوحة الغناء التي يتنفس من عبقها أريج الفن نقيا صافيا كما يصفها ناهيك عن انه ولِدَ في كَنفِ عائلةٍ مُحافِظةٍ تعرف كيف ترعى أبناءها وهو السبب الرئيس في صقل مواهبه .
في مجلة المتفرج
في عام 1958وبعد إنهائه المرحلة الابتدائية انتقلت عائلته إلى بغداد العاصمة وكانت بمثابة الخطوة الأولى نحو الاحتراف .وفي عام 1960 تطورت قدراته الحرفية ليكون بذلك خطاطاً محترفاً لجميع أنواع الخط الحديث المسمى بحروف الصياد وهو أول من عمل عليه ويصنع في الكومبيوتر .
ومن خلال عملهِ في بغداد تعرف بـرسام الكاريكاتير المعروف آنذاك الأستاذ جاسم محمد احمد والذي عَرَّفَهُ بدورهِ بالأستاذ مجيب حنون صاحب مجلة المتفرج وذلك في عام 1961 وقد دعاه الأخير للعمل معه كمصممٍ وخطاطٍ للعناوين والمانشيتات في المجلة وكانت طريقة العمل شاقة وهي الحفر على مادة الليناليوم وتكون بشكل معكوس , كما قام بعدها برسم بعض صور الكاريكاتير لمجلة الفكاهة..
استمر بدوي بممارسة عمله في بغداد , وفي عام 1965أقام معرضاً شاملًا مُشتَركاً مع أخيه الفنان خليل بدوي ولقي نجاحا كبيرا فاز على إثرها في كولديان الرسم , وفي ذات الوقت حصل على هوية للعمل كمراسلٍ في مجلةِ المتفرج.
في عام 1968 عاد مهدي بدوي إلى مدينته الأم البصرة حيث عِشقُه الدائم ليحترف عالم الفن والخط بصورةٍ خاصة ويدخله من أوسع أبوابه . واستمر بعملهِ كمراسلٍ في مجلة المتفرج مع زميلهِ الصحفي الرائد والشاعر عبد الأمير الديراوي . انتقل بعدها للعمل في جريدة النهار التي يرأسها السيد عبود شُبر ومن ثم إلى جريدة البريد وصاحبها رجب بركات , كما عَمِلَ الراحل مهدي بدوي في العديد من الصحفِ والمجلات منها جريدة الثغر ,البريد , الجنوب , والخبر وكان مختصا بكتابة الكلائش التي تستخدمها المطابع وقت ذاك كما نال الكثير من الجوائز ومنها شهادة تقديرية منحتها له جامعة لاهاي الهولندية .
سيل من المنجزات
قام البدوي بخط أسماء البواخر العراقية الكبيرة من خلال الحفر على قطع النحاس الضخمة وخصوصا بواخر صيد الأسماك وغيرها وبعد إكمال عملية خط القوالب يتم إرسالها إلى اسبانيا بغية صبها في معامل خاصة وبحروف كبيرة وبارزة كي تُثَبت بعدها على أبدان البواخر التي تمخر عُباب البحر وهي تمر ببلدان العالم حاملةً اسمَ وتوقيعَ (البدوي) حتى طارت شهرته وعُرِفَ البدوي كأشهر خطاطي البصرة والعراق فلا احدٌ يضاهيه في هذا المضمار حتى انك لَتَجِدَ اسمه على الكثير من اللافتات واللوحات وواجهات المحال والبنوك وحتى شواهد القبور. كانت له بصمةٌ حاضرة وشهرة فهو من خطّ وحفر على المرمر شاهدة قبر المرحوم الشاعر بدر شاكر السياب والفراهيدي وواجهة البنك المركزي العراقي وقدم أعمالا لا تعد ولا تحصى كل ذلك الإبداع صنعته أنامل رقيقة لهذا الرجل الذي كان يعمل بصمت بعيدا عن الأضواء.
عمل البدوي في المسرح مع جماعة المسرح الشعبي واشترك في مسرحية ( عرضحالجي) من إخراج الفنان خليل بدوي ومسرحية (كوم دور لك شغل ) إضافة لكتابته بعض النصوص المسرحية . وعمل أيضا كماكير مسرحي وديكور وإكسسوار وذلك في سبعينات القرن الماضي عندما كان المرحوم محمد خلف الزبيدي رئيسا لنقابة الفنانين .
وضع بدوي تصاميم لأغلفة العديد من الكتب لكتاب وشعراء كبار منها كتاب عربستان للمسرحي عبد الله السلمي وتصميم للشاعر داود الغنام ( قَتَلَة المسيح يتكلمون ) وكذلك لأوبريت بيادر خير . كما وضع تصميم غلاف ديوان الشاعر شاكر العاشور ( أحببت الجارة يا أمي ) وتصميما لكتاب تاريخي للكاتب والباحث حامد البازي . فضلا عن قيامه برسم التصاميم للعديد من أغلفة المجلات مثل مجلة التاجر التابعة لغرفة تجارة البصرة التي يرئسها وقت ذاك السيد جعفر البدر, وتصميم لمجلة القوة البحرية ومجلة القوة الجوية . ومن أبرز الخطاطين الذين عاصرهم البدوي في تلك الفترة هم الخطاط محمد فريد وسيد حيدر النشوان ويوسف يعقوب بُني وكان البدوي أصغرهم سناً .
كان مهدي البدوي وشقيقه الفنان خليل بدوي من الأعضاء المؤسسين لفرع نقابة الصحفيين في البصرة وذلك في عام 1971 مع نخبةٍ خيرةٍ من الصحفيين في البصرة وصفها بأنها نقابة نموذجية وضعت الكثير من الفقرات والقواعد تصب كلها في خدمة الأسرة الصحفية .
آخر المحطات ٍ
يجيب الصحفي والفنان والخطاط الكبير الراحل مهدي البدوي بمرارةٍ قاسيةٍ حينما تسأله ما الذي قدمته الدولة لمهدي البدوي في كلا العهدين الماضي القديم والحاضر الجديد زمن التحرر.
يرفع رأسه الذي اشتعل شيباً ويطالعك بأسى كبير ثم يطلق حسرة تكاد تتفجر في صدره ويغدو ساهما !! : " كان حلمي أن أحصل على فرصةٍ للسفرِ خارج البلاد من اجل تطوير قابليتي ومهارتي وأطَلِعَ على فنون العالم المتحضر ولكن لم يتحقق لي مثل ذلك, وبقيت أسير هواجسي وحبيس أحلامي وها أنا ذا في خريف العمر وقد وهن العظم مني ولم اعد قادرا على التحكم بأصابع يدي التي أنهكها العمل لسنين طوال من دونِ قطاف !"
شد مهدي البدوي الرحال إلى بغداد مرة أخرى بعد أن ضاقتْ به السبل وأعياه التعب وشُحْ العمل وتقدم به العمر وهو لا يعلم قد تكون هذه المرة الأخيرة وذلك في بداية 2020 تاركاً على مضضٍ محبوبته البصرة مُحَملاً بالخيبةِ والوجعِ ليتوقف كلياً عن العمل إذ لم يعد قادرا على المواصلة , ضَعُفَ بَدَنهُ وذَبُلتْ أصابعه التي طالما صالت وجالت وأدهشت الجميع حتى أمسى وحيدا ليتملك المرض منه . وصار يتنقل من عيادةٍ طبيب إلى أخرى لمعالجة عينيه الكليلتين.
ومن الأحلام التي حملها مهدي البدوي معه هي أن يحصل على حقوق ابنته الطبيبة كما يقول والتي طالتها يد الإرهاب الغادر لِتُفَجرَ أحلامها وأحلامه معاً وهي عند باب الكلية وبات يتجرع مرارة فقده لأبنته العروس مناشدا المعنيين في دوائر الدولة لمنحِها حقوقِها كشهيدةٍ بيد انه لم يلق إذناً صاغيةً في دوائرٍ يكادُ غير معنية بالمواهب .. ولا جدوى!
وهكذا مضى مهدي بدوي سنواتهِ الأخيرة مطعوناً بخناجرِ المرض والإهمال والتهميش في بلدٍ هو الأغنى ومبدعٌ يحيى فيه حاسرا فقيرا معوزا ليلاقي ربا رحيما .. الرحمة والخلود للراحل مهدي البدوي !!
1216 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع