الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
الباميا وحكايتها .. الجزء الثالث
من السوالف المصلاوية العتيقة عن الباميا أن الحجي رجع على بيتو ومغتو كن حضغت السفغه، قللا يامغا ما اتغدا كن تغديتو عند أمي باميا، قلتلو البيحا عمتولك باميا!! فتت من غاس وطلعت من غاس!! قللا تمام.. بس باميا امي غيغ شكل!!
رحم الله أمهاتنا وحفظ زوجاتنا جميعا.
بيت باميا:
في شارع نينوى بالموصل وبجوار عمارة محمد نجيب الجادر، كان هناك محل للكهربائيات يديره (أ. ح. ق) وهو شقيق أحد أساتذة جامعة الموصل المعروفين جيدا في كلية العلوم.
لقد كانت الفترة التي أعقبت ثورة الشواف في الموصل سنة 1959 فترة فوضى عارمة إنهار فيها الجانب الأمني وكثرت فيها الاغتيالات، مما تسبب بهجرة العديد من العوائل من الموصل، وخاصة من الإخوة المسيحيين.
في أحد تلك الأيام الصعبة جاءت سيدة مسيحية إلى محل صاحبنا (أ. ح. ق) لشراء بعض المواد الكهربائية. وبعد أن أكملت عملية الشراء وعلم أنها مسيحية سألها: من أي عائلة أنتم؟ فأجابت: من بيت باميا. عندها رد عليها صاحبنا ممازحا: إذن غدا نأكل تمن وباميا إن شاء الله.
وفي اليوم التالي صادف أن أخ تلك المرأة تم اغتياله، فذهبت تلك السيدة إلى الشرطة وأبلغت عن صاحبنا الذي قال لها بالأمس: غدا نأكل تمن وباميا.
جاءت الشرطة وأخذوا صاحبنا واقتادوه وحققوا معه.. وبعد جهد جهيد وسماع العديد من الشهود الذين أكدوا أن صاحبنا إنسان مسكين ومسالم ومن طبيعته أن يُمازح زبائنه، فكانت ممازحة منه انقلبت إلى كابوس عليه.
حمدية أم الباميا ( ام الصبر):
من الشخصيات النسائية الشعبية، ومن رموز منطقة باب الطوب (حمدية أم الباميا) التي كانت معروفة في منطقة باب الطوب الشعبية، وكان مكانها ثابت أمام باب جامع باب الطوب نهاية شارع الصوّافة مجاور بائعي (المناخل) وبجوار سوق اللحم القديم (سوق اليابسات حاليا)، ولا أزال أتذكرها وكانت في متوسط العمر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
لقد كانت حمدية أم الباميا امرأة متوسطة الطول جثيثة، لها أنف مميز (افنص) ولا يجرؤ أحدا على ايذائها. وكانت مستورة بملبسها ومظهرها المحتشم وتضع ملفعا أسودا على رأسها، وملابسها على الأغلب كانت باللون الأسود.
وحمدية أم الباميا هي امرأة فقيرة نشطة كانت تجمع الباميا الخشنة والطماطة التي لا يشتريها الناس وتأخذها من محلات الخضراوات شبه مجاننا، كما كانت تجمع قطع اللحم في سوق اللحم، وتقوم بطبخها وبيعها على شكل (تشريب مال باميا بالخبز) للناس من أهل الخارج والنجبريه وبأسعار زهيدة.
وعند انتهاء موسم الباميا في الشتاء كانت حمدية تعمل (دست دولمة) من السلق والبصل فقط وبعشرة فلوس للماعون الفافون.
ولم يكن لحمدية مطعم أو محل لبيع أكلها، بل كانت تفترش الأرض بقدرها الأسود الكبير لتبيع للمارة وعابري السبيل، وكان سعر الماعون الواحد هو عشرة فلوس، حيث كانت تجلس مع أولادها وبناتها الذين كانوا يساعدونها في عملها.
لقد كان محل عمل حمدية أم الباميا بين باب الطوب ومنطقة الفنادق قبل رأس الجسر القديم ( الحديدي)، وكان يقع في الجهة المقابلة مطعم شعبي مشهور أيضاً لصاحبه (إسماعيل بن سيد جگومي) ويقع قرب الباب الثاني لجامع باب الطوب ويبعد عن حمدية تقريباً عشرة أمتار، وكان سعر نفر الكباب 40 فلسا. وكان سيد جگومي عنده بنت اسمها (آسيا)، كانت تساعد والدها في المحل وتمسك المهفة وتهف للفشافيش (التكة). وقد انتقل سيد جگومي إلى بداية السرجخانة حيث كانت هناك خربه وبعدها تحولت إلى محلات ومسجد طابق ثاني ( زينب خاتون).
لقد كان زبائن حمدية أم الباميا أكثرهم من المسافرين الذين يسكنون الفنادق البسيطة المتواجدة في المنطقة من الذين هم خارج المدينة وأيضاً من المارة وعابري السبيل.
الغريب في قصة هذه المرأة الشعبية البسيطة هي أنها كانت من عشاق السينما ومشاهدة الأفلام العربية التي كانت سائدة أيام زمان، فكانت تقضي يومها ببيع الباميا حتى بعد الظهر ثم تأخذ أولادها لمشاهدة تلك الأفلام في السينمات التي كانت موجودة في تلك المنطقة: سينما الفردوس قرب المركز العام وسينما الحدباء بجوار سوق الهرج وسينما كامل ساره وسينما الحمراء في شارع العدالة.
والغريب أكثر أن حمدية أم الباميا كانت من عشاق فن الموسيقار فريد الاطرش، فكان لا يفوتها فيلم للموسيقار إلاّ وتشاهده، حيث كانت مولعة بحب الأغاني الشجية لأبو وحيد التي تملأ القلب سعادة وتنسيها همومها التي كانت تعيشها في تلك الفترة.
لقد نشر الكاتب الموصلي (أنور عبد العزيز) في (الأنطولوجيا) سنة 2018 قصة لطيفة عنوانها (رائحة الباميا)، يدور فلكها حول شخصية (حمدية أم الباميا) ومما ذكره في هذه القصة:
(الصحون المعدنية الصدئة بحجومها المتساوية والقدر الأسود الكبير بمرقته الفائرة وحبات الباميا المتقافزة المتراقصة والمغرفة الخشبية الطويلة وأقراص الخبز هي ما كانت عينا حمدية تتتابعان عليه... مغرفتان من مرق وحبات معدودة مفردة من الباميا، حتى زبانها من أهل باب الطوب الدائمين المقربين لها ما زادت حصتهم عن المقسوم لهم، أما العابرون في ملامح وأسماء ولغات مختلفة فالقسمة عندها عادلة تقررها المغرفة دون تحيز ...).
ويصف الكاتب حمدية أم الباميا بالقول: (وهي عطوفة وحنونة، كثيرا ما سمحت لشيخ عجوز أو معوّق متعب بعد أن انتفخت بطنه من سيل المرقة وحرائق الشمس وغلبه اجهاد مضن وتعب وجمود أن سقته ماء مثلجا من قنينة كبيرة خاصة بها، وإن رأت أن حالته قد اثقلت، سمحت له أن يضطجع على فرشة مهترئة في ظل وفيء شجرة التوت الحامية لموقعها وقدرها.. يستريح وقد تغلبه نومة تطول فلا تنزعج منها (أم الصبر)، وهي الحنونة الساكنة كنقطة ماء صافية، ما عرفت الغضب في حياتها وما هاجت حتى لو انقلب قدرها وضاعت المرقة ممرغة في التراب وتاهت حبيبات الباميا في ثنايا الرمل وماء الساقية النتنة!!
وكانت حمدية تنحاز لجنسها في مزيد من الثريد مستمتعة بلألاء ألوان ملابسهن الصارخة البهيجة وبما يتجملن به من حلي كثيرة متنوعة وان كانت رخيصة، وهي ما رأت يوما ذهبية تلمع على عنق أو ساعد من كل أمثالهن إلا في حالات نادرة ..
ما كانت حمدية تخشى أبدا مزاحمة باعة الطعام في محميتها، فهي بسعر العشرين فلسا قد ضمنت قدوم الأرجل والوجوه والأفواه وشهوة العيون والروائح والبطون اليها .. فقط هو ( سيد جگومي ) .. وهي كانت مرة واحدة عندما أجتاحها شيء من غضب وهي تسمع صوته صارخا بوجه بدوي ( غالي .. غالي )! أهي الثلاثون فلسا غالية من كل هذا الزقنبوت من الكباب مع كاسة شربت وطرشي وبصل وخبز مسمسم وطماطه .. أكلك ليس عندي .. أسرع وأركض برجليك لقدرها، وأملا كرشك من ماء زبالة حمدية، فزبالتها أرخص وهي بعشرين فلسا ولن تلامس منخريك ابدا رائحة لحم .. محلي ليس لأمثالك..).
ثم ينتقل الكاتب ليصف حال حمدية أم الباميا بعد الظهر وتعلقها بمشاهدة السينمات: (حمدية النظيفة عصرا ومساء بعد أن استحمت وبملبس وقور غالبا ما يميل للسواد تجلس في مدرج الأربعين فلسا في أدوار العصر والمغرب فقط تنتظر بترقب وشغف ما سيؤنس روحها وقلبها من قصص وحكايات مثيرة وإن كانت ساذجة في غالبيتها ولكن المؤنسة لكثير من الناس لمعالجاتها الاجتماعية وفكاهاتها ولطائف مقالبها المسلية لجمهور ذلك الزمان .. أميّة كانت لا تعرف ما سيفاجئها من أفلام الأسبوع القادمة).
رحم الله حمدية أم الباميا ونساء ذلك الجيل الطيب
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
1260 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع