د.عبدالقادر القيسي
يمثل تعدد الصفحات القضائية احد المنافذ الاساسية لتحقيق العدل وضمان الانصاف في تطبيق وصيانة القانون والحق العام وبقدر تعدد هذه الصفحات وحوارها القانوني من خلال الدعاوى والقضايا المنظورة امام المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها واختصاصها تعدد الضمانات التي تكفل تحقيق العدل في عمل المؤسسات القضائية على مختلف توجيهاتها وفي ضوء ما يمليه القانون .
ومع تعدد الاختصاصات القضائية التي تمثل محكمة التمييز الاتحادية المنبر القضائي الاول في العراق في تطبيق القانون؛ فهي الحساب القانوني الدقيق والمصفاة القضائية التي تأخذ بالحسبان كل مفاصل القضايا وما يؤكد النص القضائي، ومن هنا فان القرارات التي تتخذها محكمة التمييز الاتحادية تحقق عددا من الاهداف القانونية والاعتبارية مثلما تعزز خبرة القضاء في قنواته التي تحول الى محكمة التمييز القضايا للفصل في القرار المتخذ .
ان ما تحققه محكمة التمييز الاتحادية، هو التأكد من ان القانون قد اخذ فرصته الكاملة في التطبيق في ضوء الحدث المعني، ام ان هناك قصور في التطبيق مع قياس هذا المبدأ يكون العنصر القانوني هو الرابح ولهذا الاجراء دلالته القانونية الكبيرة لان النص القانوني هو المعبر الحقيقي عن توجيهات المجتمع ومتطلبات حصانته الاجتماعية والأخلاقية، أي انه بقدر الالتزام الذي تؤشره محكمة التمييز الاتحادية في الضبط الاجرائي للنص القانوني يكون اجراؤها قد حقق عددا من الاهداف التربوية والقانونية والأخلاقية .
وهناك نقطة اخرى من المهم التذكير بها في دور محكمة التمييز الاتحادية، ان تكون مصدر خبرة وتصحيح فضلا عن قناعات القضاة الذين يبتون بالقضايا المرفوعة اليها .
ويكون ذلك مثلا من خلال تأييد محكمة التمييز قرارا قضائيا؛ فأنها بهذا التأييد كأنما تكرم القاضي الذي اتخذ هذا القرار في أي قضية قد بت بها، وبذلك تزداد ثقة القاضي بقراراته، بل ان ذلك يحمله مسؤولية اكبر في الالتزام الدقيق بالقوانين المرعية وفي مواصلة وظيفته القضائية على احسن ما يرام وكم كانت التصديقات التي تتخذها محكمة التمييز الاتحادية مصدر قوة للقضاء في البت بقضايا لاحقة مستندا الى ارثه من القرارات الصحيحة التي اتخذها .
والواقع ايضا ان ذلك يجعل القاضي يشعر بالمسؤولية القضائية التي يتحملها مما يزيد من خبرته والتزامه الدقيق بنصوص القانون اما في حالة رد القضية ونقضها، أي نقض الحكم فيها وما يترتب عليه من موجبات فان هذا النقض يدفع القضاة المعنيين الى ان يعيدوا النظر بقراراتهم في ضوء ما قررته محكمة التمييز الاتحادية؛ التي هي بالضرورة اكثر خبرة ودراية بالنص وفهمه واستيعابه الامر الذي لابد من ان يدفع هؤلاء القضاة الى اعادة النظر في مكوناتهم القانونية والإجرائية، وهذا التصحيح قناة اساسية في تكوين الحصانة القضائية للقاضي خصوصا اذا اخذ بدراسة اجتهادات محكمة التمييز في القرار المتخذ .
إن الكادر الإداري الذي ينظم عمل محكمة التمييز وخصوصا كادر الهيئة العامة التمييزية متمرس، ويعمل وفق سياقات واطر أداريه تنظيمية كفؤة، ولا يمكن تخطيها أو استخدامها لتحقيق مصالح شخصية من قبل أي رئيس هيئة او عضو، لرصانته.
وهناك قضايا يكتنفها الغموض ومن الصعب البت بها والرسو على شاطئ حقيقتها، وفي بعض الأحيان، خبرة القضاة ودرايتهم وعلمهم لا تمكنهم البت فيها على وفق الصورة المطلوبة في الإجراء العدلي المتخذ، لا سيما إن براعة القاضي في انتزاع الحق وتأشير الموقف العدلي الدقيق يسهم بصورة وبأخرى في دعم سلامة المجتمع0
لا ريب إن شموخ القضاء وهيبته وكرامته، إنما يقوم على نقاء سيرة رجاله، كما إن اهتزاز صورة رجال القضاء وسوء سيرتهم يعني اهتزاز ميزان العدالة في نظر المتقاضين، وإن معرفة القانون والفقه إلى جانب معرفة القاضي بما تحويه اضبارة الدعوى المعروضة عليه، لها تأثير كبير على فهم وقائع وأدلة الدعوى، التي تعتبر واجب وظيفي لا بد منه لاتخاذ الحكم بصورة جيدة، والدعاوى المعروضة على الهيئات التمييزية وبخاصة الهيئة العامة لها طبيعة خاصة تحتاج إلى مداولات ومناقشات قد تطول فترة حسمها كثيرا، بسبب طبيعة القضية وغموض أدلتها ووقائعها.
إن السجل الوظيفي لقضاة المحكمة التمييزية الاتحادية في ممارسة واجباتهم، يشير الى مهنية عالية، على توخي التقدير الملائم لكافة الأشخاص سواء أكانوا اطرافاً أو شهوداً أو محامين أو موظفي محكمة أو زملاء مهنه دون تمييز وبنظرة ومعاملة واحدة، وخصص رئيس محكمة التمييز الاتحادية ونوابه نشاطهم المهني في أداء واجبات مناصبهم ومسؤولياتهم القضائية، ويتعاملون مع أطراف أي قضية على أساس المساواة والابتعاد عن محاباة احد الخصوم على حساب الأخر، وينظرون في كافة الدعاوى المعروضة عليهم وفق القانون، ولا يمتنعوا عن نظر اي دعوى دون سبب مشروع قانوني حتى لا يعدوا ناكرين العدالة .
قضاة التمييز كانوا ولا يزالون بمنأى عن اي مساومات سياسية، لأنهم ليسوا ممن يعتمدون على الدول بل هم الدولة واحد هيئاتها الدستورية الرصينة، وهم الرمز الحي ليس لموظف الدولة (المعتمد على الدولة)، بل للسيادة وممارسة الحقوق الفردية وبهذا السبب ينبغي أن يعيشوا حياتهم على أساس السيادة بكل ما الكلمة من معنى، لا أن تنال السهام صدور العدالة، كم حدث لاحد اعمدة واركان محكمة التمييز الاتحادية في سنة 2011، عندما تدخل نائب برلماني بعمل محكمة التمييز الاتحادية وحرك شكوى جزائية بحق نائب رئيس محكمة التمييز الاتحادية، بذريعة تأخير حسم دعوى في الهيئة التمييزية العامة، والمؤسف والمحزن ان التحقيق الاداري الذي اجري في الموضوع وبأمرة قضاة تمييز قديرين متمرسين، اثبت بان ليس هناك اي تقصير اداري، ورغم ذلك يتم احالة نائب رئيس محكمة التمييز الاتحادية، القاضي الذي لديه خدمة اكثر من (35) سنة في القضاء الى محكمة مختصة بقضايا الارهاب، وكنت وكيل للقاضي نائب رئيس محكمة التمييز الاتحادية، وشاهدت في هذه القضية منسوب الاستهداف بأشكاله المتعددة واضح وكان للموقف المشرف الذي قدمه رئيس محكمة التحقيق المركزية والقاضي المختص في وقتها، له الاثر الكبير في تخفيف وقع الضرر المعنوي، ولا اريد ان ادخل في تفاصيلها، لأنها لحد الان تدور في اروقة القضاء العراقي بدون حسم بالرغم من ضعف الاتهام.
ولا نعرف ما علاقة برلماني بعمل محكمة التمييز الاتحادية وبخاصة الهيئة التمييزية العامة؟
التي تتمتع بسمو وعلو، ولا يجوز النيل منها باي شكل من الاشكال، حتى لو كان هناك تلكؤا أو تأخير، فان التحقيقات الإدارية السرية، هي الكفيلة بتجاوز ذلك، لا أن يتم معالجة الأمر من خلال النيل من القضاء ورجاله، عبر القنوات الفضائية، التي لا يجوز أن يكون القاضي تحت سهامها، بأي شكل من الأشكال، وقانون العقوبات بالمواد (236،433) منع ذلك واعتبره فعل يعاقب عليه القانون0
ولا بد من الاشارة الى موضوع النشرات القضائية القيمة التي ينشرها موقع السلطة القضائية حول نسب الانجاز، ومنها حول نسبة الحسم للدعاوى المنظورة امام محكمة التمييز الاتحادية بكافة هيئاتها التمييزية خصوصا منها الجزائية، نجد ان هذه الارقام لا تتناسب مع عدد القضاة الموجودين في الخدمة، خصوصا الارقام تصل الى ثلاثة الاف او اربعة الاف دعوى قد تم حسمها، ومع اعتزازنا وثقتنا بدقة الارقام المطروحة؛ فإننا نعتقد ان هذه الارقام تحتاج الى خمسة اضعاف عدد قضاة محكمة التمييز الموجودين حاليا، فهناك ضرورة لزيادة العدد ليتناسب مع الاعداد المذكورة بالنشرات؛ حفاظا على صحة الاحكام ودقتها بخاصة منها القضايا التي تصدر فيها احكام قاسية تصل للإعدام والمؤبد.
وعودة على بداية ما اشرنا إليه، وما دمنا قد اكدنا ان محكمة التمييز الاتحادية هي المنبر القضائي الاول في اطار سلسلة المؤسسات القضائية المسؤولة عن تطبيق القانون فان هذه الاولوية ليست في التسلسل فحسب وانما في القراءة القانونية الدقيقة وإزاء هذا يصبح التثقيف بقرارات محكمة التمييز الاتحادية بخاصة قرارات الهيئة التمييزية العامة والموسعة؛ احد المصادر الاساسية لزيادة العمق القانوني للقضاء وكذلك شخوص المهمة القضائية الاخرى كالمحامي والمدعي العام وغيرهم، ومن هنا فان من الضروري؛ ان نستمد العديد من المعارف القانونية الاجرائية والموضوعية من قرارات محكمة التمييز الاتحادية بكافة هيئاته(المدنية والجزائية والاحوال الشخصية)، التي تمثل خزين القضاء في تحقيق العدل الى جانب عوامل اخرى، وهناك ضرورة ان يقوم مجلس القضاء الاعلى الموقر بزيادة اعداد المجلات والدوريات التي ينشرها المجلس خصوصا منها المتعلق بالأحكام والقرارات، وجعلها متاحة للجميع وبأسعار مدعومة، وارسال كميات كبيرة منها الى نقابة المحامين لتوزيعها على المحامين المجددين لهوياتهم والمنتمين حديثا وبكميات تتناسب مع المحامين من الصنفين.
كل الاحترام والاجلال لرجال القضاء الاجلاء والشرفاء الذين ذادوا عن العراق.
الدكتور
عبدالقادر محمد القيسي
15/9/2013
1083 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع