خالد الدوري
مفهوم الإمامة في النظرية السياسية:ج٥: عند العلّامة البجيرمي:
كنّا قد القينا الضوء على جُملة تعريفات ذهَبَ اليها طائفة من علماء الأمّة، ممن تحدثوا في مفهوم (الإمامة أو الخلافة) ضمن إطار النظرية السياسية في الإسلام. وقد فكّكنا الفاظ تعريفاتهم، وقَيّمناها، وبيّنا نقاط الخلل والقوة فيها. والواقع أنّ تعدد التعريفات والصياغات يعطينا إنطباعًا واضحًا عن أبعاد الجدل والمناظرات العقلية والكلامية التي كانت سائدة بين التيارات الإسلامية يومذاك. وإلّا ما كان العلماء لِيُقيموا للتعريفات كل هذا الإعتبار. ومن المعلوم أننا اقتصرنا في هذه السلسلة على إستقصاء رؤية مجملة لعموم علماء أهل السنة، على أن يأتي لاحقًا بيان رؤية لمُجمل علماء الشيعة،عن ذات الموضوع. بإعتبار ان طروحاتهم في المسألة، مختلفة عن طروحات أهل السنة. ولا ننسى أن ننوه الى أنّ الموضوع دراسة علمية تاريخية مُجرّدة لا علاقة لها بالتوجهات الطائفية والمذهبية.
ذلك أنّ مسار النظرية السياسية في الفكر الإسلامي، حريّ ان يحظى بالدراسة والإهتمام، شأن النظريات السياسية السائدة اليوم، كالليبرالية، والإشتراكية، والواقعية المحافظة، والقطبية ألاُحادية، وغيرها مما بُنيَ على طروحات إجتماعية وفلسفية وتاريخية وحتى دينية. وتبقى النظرية السياسية في الإسلام، لها خصوصيتها وتميزها، كونها مبنية على أسس من القيم الراسخة، والأخلاق، والإيمان، ومسورة بقوانين وتشريعات تستوعب الزمن. وبها صيغت حضارة إنسانية واسعة.
على أي حال، وقبل ان نُعَرّج على التعريف الأخير للإمامة في هذه السلسلة ولأغراض المقارنة والموازنة، ولأُوفر على القارئ الكريم جهد التنقل في البحث، أجد من المناسب ان أدرج هنا كل التعريفات التي سِيقَت سابقا في الأجزاء السالفة، منسوبة الى قائليها، وأما المصادر فيمكن الرجوع اليها في مَضانّها في الأجزاء ألأربعة المتقدمة.
1- الماوردي قال: (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا).
2- الكتّاني قال: (الرئاسة العظمى، والولاية العامة الجامعة، القائمة بحراسة الدين والدنيا).
3- الجويني قال: (رئاسة تامة، وزعامة عامّة، تتعلق بالخاصة والعامّة في مهمات الدين والدنيا).
4- القلقشندي قال: (الولاية العامة على كافة الأمّة، والقيام بإمورها، والنهوض بأعبائها).
5- الأصفهاني قال: (خلافة شخص من الأشخاص للرسول "عليه الصلاة والسلام"، في اقامة القوانين الشرعية وحفظ حوزة المِلّة على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة).
6- الطحطاوي قال: (حقيقتها رئاسة عامة في حفظ مصالح الناس دينًا ودنيا، وزجرهم عمّا يضرّهم).
7- الحصكفي قال: (استحقاق تصرف عام على الانام) وهو ما قال به كذلك العلامة ابو السعود المصري.
8- الرملي قال: (خلافة الرسول في اقامة الدين وحفظ حوزة الملّة، بحيث يجب اتباعه على كافه الأمّة).
وفي ثنايا البحث أوردنا تعريفات رديفة مثل تعريف:
أ- إبن الأزرق الأندلسي قال: (نيابة عن الشارع في حفظ الدين وسياسة الدنيا).
ب- ابن خلدون قال: (بانها خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا).
ج- الدكتور محمد سليم العوا (مفكر معاصر) قال: (بانها تنظيم رئاسة الدولة الاسلامية تنظيما يشمل اختيار الرئيس وتقرير حقوقه وواجباته).
ونختم تعريفاتنا بما ذهب اليه العلّامة سليمان بن محمد البجيرمي:
9- البجيرمي: عالم، فقيه، ومحدث مدقق، وشافعي مصري (ت 1221هـ).
عرّف البجيرمي الإمامة في حاشيته على المنهج – بكلام مختصر- بأنّها: (خلافة الرّسول في اقامة الدين).(1) فلفظ الخليفة مطلقا، يطلق ولا يراد به الا الرئيس الأعلى للدولة. والواقع ان هذا التعريف على إختصاره الشديد يؤكد جملة حقائق في إيضاح مسألة (الإمامة أو الخلافة)، فهي:
أولًا: (خلافة للرسول)، فَمَنَعَ بذلك من دخول النبوة فيه.
وهي ثانيًا: (خلافة للرسول)، بمعنى انها ليست ملكًا شخصيًا، وحقًا لفئةٍ تحصل بموجبها على امتيازات خاصة.
وهي ثالثًا: (اقامة للدين) بنشره، والدعوة اليه، وتعليمه، وتطبيقه، وحمل الناس عليه. وإلّا اُعتُبِر إضافة له. وإنّ سياسة الدنيا والإدارة والإعلام ، وحفظ حوزة المِلّة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الامن، وحماية الحدود، والعلاقات الدولية. كل ذلك جزء من مسؤولياتها وواجباتها الدينية. فهي كلمة تشمل هذا كله وغيره.
عند العودة الى إستذكار ومراجعة التعاريف التي مرّت معنا آنفا وأثبتناها بِعاليه، نلاحظ: أنّ تعريف البجيرمي قد إستقطب فعلاً كل المعاني السليمة التي في تعاريف الاخرين. وبالمقابل فقد استبعد كل الزيادات، او ما يسمى بالحشو، مما لا فائدة فيه، ولا حاجة اليه في ثنايا التعريف. كما وأنّه تلافى كلّ ما يُمكن ان يَشكُل فهمه من القيود والموانع والعموم المبهم. ونستطيع بعد كل هذا الذي عرضناه ان نقول: ان تعريف البجيرمي من أجود التعاريف في بيان ماهيّة الإمامة ، كونه بعيدا عن اللبس والغموض. وأنّه وُفِّق لِاختيار العبارة الموجزة المُعَبّرة عن المعنى الدقيق، المتوافق مع القِيم الإسلامية، وهو اختيارنا في ان يتصَدّر باقي التعريفات... والله اعلم بالصواب.
المصادر والمراجع:
(1) حاشية البجيرمي على المنهج المسماة التجريد لنفع العبيد، لسليمان بن محمد بن عمر البجيرمي، ج4/ 204 شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده بمصر1369هـ - 1950م.
920 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع