د. علي محمد فخرو
أكاذيب الخطاب الأميركي الرسمي
كتابه المعنون الأزمنة الجديدة المظلمة يشير المؤلف، جيمز بردِل، إلى ظاهرتين حدثتا إبان القرن الماضي بالغَتَي الدّلالة والتفسير لبعض ما يجري في أرضنا العربية.
الظاهرة الأولى تتعلق بالتعامل الكاذب الاستعماري لما كان يجري من مذابح مرعبة في دولة رواندا الأفريقية في منتصف عام 1994. فالبرغم من وجود سفارات دول أوروبية عدة، ومندوبي منظمات غير حكومية، ومراقبين لهيئة الأمم المتحدة في رواندا، وبالرغم من تصريحات جنونية على راديو الحكومة الرسمي وهي تهدّد وتطالب بسحق وإنهاء وجود الخصوم، وجميعهم يؤكدون بوجود مذابح مرعبة ودمار شامل يجريان يومياً، إلا أن نظام الحكم الأميركي ظل يؤكد يوماً بعد يوم، طيلة مائة يوم من المذابح، بأن وسائل المراقبة الجوية الأميركية لا تسجل وجود مذابح أو دمار كبير.
وظلت حكومات الولايات المتحدة الأميركية تنكر أن لديها إثباتات بحدوث مذابح في رواندا إلى أن جرت في عام 2012 محاكمة أحد المجرمين الروانديين، من الذين شاركوا في عمليات القتل والإبادة، عندما عرضت صور واضحة تفصيلية لكل الدمار والمذابح، صور أخذتها أقمار اصطناعية أميركية إبان المذابح وأنكرت وجودها السلطات الأميركية سنة بعد سنة وبضمير بارد لا تهمّه القيم والأخلاق وآلام الضحايا المساكين.
الظاهرة الثانية حدثت في البلقان عام 1995. هناك شاهدت الاستخبارات الأميركية، السي آي إي، المذبحة التي ذهب ضحيتها ثمانية آلاف مسلم، والتي جرت في مدينة سربرنيكا، شاهدوها من مقرّهم في فينّا عبر الأقمار الأميركية الاصطناعية. بعد أيام عدة ظهرت بواسطة قمر تجسّسي صور القبور الجماعية كشاهد على حدوث تلك المذابح لكن تلك الصور لم تعرض على الرئيس الأميركي كلنتون إلا بعد مرور شهور عدة.
في كلتا الحالتين لم يكن الغائب قصور في تكنولوجيا التواصل المتقدمة للكشف عن مثل تلك الجرائم. الأمر المفقود كان الإرادة السياسية النزيهة والضمير السياسي المرتبط بالقيم الإنسانية والأخلاقية.
نذكر تلك الظاهرتين المرتكبتين من قبل جهات أميركية رسمية من أجل أهداف سياسية انتهازية بالغة السّوء، وذلك من أجل طرح هذا السؤال البديهي: ألا تجعلنا تلك الألاعيب الأميركية نشكّ في الإصرار الأميركي المستمر على عدم وجود دلائل لديهم حتى الآن بارتكاب الجيوش الصهيونية مذابح حربية وإنسانية خلال الثمانية أشهر الماضية،
وذلك بالرغم مما تقوله منظمات الحقوق الدولية والعديد من جهات وشخصيات الأمم المتحدة وما تظهره شبكات التواصل الاجتماعي من فظائع ومجازر ترتكبها القوى العسكرية والأمنية الصهيونية وميليشيات المستوطنين الصهاينة يومياً بحق أطفال ونساء وشعب فلسطين في غزة وفي سائر مدن وقرى الضفّة الغربية؟ ألا تمارس الولايات المتحدة الأميركية الأكاذيب نفسها وتخبئ الحقائق من أجل التغطية على جرائم حلفائها الصهاينة في فلسطين المحتلة؟
والاستنتاج البالغ الأهمية أيضاً هو تبيّن عدم دقّة تنبّؤ أساطين وشركات التواصل الاجتماعي بأن انتشار المعلومات وجهات مراقبتها سيقلّل من ارتكاب فظائع الصراعات والحروب. فأميركا ومعها كثيرون كانوا على علم بما يجري في رواندا والبلقان وما يجري حالياً في غزة وكل أرجاء فلسطين، ومع ذلك فان ألاعيب السياسة والاقتصاد وهي التي تحكم ردود الفعل تجاه ما جرى وما يجري وليس توفر وكثرة المعلومات عند مختلف الجهات المراقبة.
فالغرب الاستعماري الذي يتعامل مع الكثير من القضايا بوجهين لن يهمّه توفر أو عدم توفر المعلومات وإنما مصالحه وانحيازاته ومكاسبه.
نسترجع كل ذلك ونؤكد على أهمية استيعاب ذلك في مسيرة الحياة السياسية العربية المشتركة بعد أن لاحظنا بداية تحول متواضع في خطاب مؤتمر القمة العربي الأخير وبعض توجهاته نحو التعامل الأكثر توازناً مع قوى العالم ونحو محاولة التصرف السياسي والاقتصادي خارج الهيمنة الأميركية وإملاءاتها السابقة. وبالطبع فان الأيام القادمة ستظهر إن كان هذا الانطباع صحيحاً وإن كان العرب قد بدأوا بالفعل يتعرفون بعمق وصدق على الأوجه القبيحة المخادعة المدمرة في التعامل الأميركي مع المصالح والحقوق العربية في شتّى بقاع الوطن العربي.
723 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع