الدكتور عبدالعزيز المفتي
الاطماع الاستعمارية بكوردستان(الجزء الثاني)
• بريطانيا نغدر الكورد وحقوقهم القومية الكوردية
• الاحتلال البريطاني لكوردستان العراق (كوردستان الجنوبي)
أ- بريطانيا تغدر الكورد وحقوقهم القومية الكوردية
لقد استأثر العراق وكوردستان بفضل موقعهما الاستراتيجي وثرواتهما الطبيعية باهتمام متزايد من جانب بريطانيا منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ولقد كانت ميزوبوتاميا أي بلاد ما بين النهرين وكانت تشمل (ولايتي بغداد والبصرة) وهي منطقة مصالح هامة بالنسبة لبريطانيا، ويبدو ذلك في تصريح اللورد (كيرزن) وزير خارجية ثم رئيس وزراء بريطانيا الشهير والذي قال فيه: "إن حدود الهند تمتد حتى نهر الفرات"( ).
وبناء على ذلك وفي الخامس نوفمبر / تشرين الثاني عام 1914م أعلنت بريطانيا رسمياً الحرب على الامبراطرية العثمانية (تركيا) وفي اليوم التالي 6 تشرين الثاني 1914م نزلت القوات البريطانية بنجاح في الفاو (جنوب العراق) بعد مقاومة عثمانية /تركية ضعيفة، ومنها تقدمت القوات البريطانية حيث احتلت ولاية البصرة في 22 نوفمبر / تشرين الثاني عام 1914م( ).
لقد كان جوهر الفكر والسياسة البريطانية إزاء بلاد ما بين النهرين بوجه عام هو سياسة السيطرة على هذه المنطقة من العالم. وكان الخلاف بين الساسة البريطانيين يدور حول السبيل لتنفيذ هذه السياسة والوصول إلى هذا الهدف( ). وأول من حاول أن يشكل سياسة رسمية لبريطانيا في بلاد ما بين النهرين هو السير (آرثرهرتزل) نائب الملك البريطاني في حكومة الهند البريطانية حيث كتب مذكرة مفصلة عن هذا الموضوع مؤرخة في 14 مارس / آذار عام 1914م وتدور حول مستقبل بلاد ما بين النهرين وقد تضمنت مذكرة المستر ارثر هرتزل تأسيس ثلاثة كيانات (مع استثناء الجزء الكردستاني من ولاية الموصل) ذات الاغلبية الكوردية( ) هي البصرة وبغداد ومدينة الموصل، والتي تشكل وحدة جغرافية وعرقية.
ولكن السلطات الهندية وحكومة الهند البريطانيىة وفي وقت مبكر منذ عام 1915م طالبوا بالسيطرة الكاملة على كل هذه المنطقة المحتلة من بلاد ما بين النهرين، الرغم أنها لم تحدد سياسة واضحة لمستقبل الإدارة في العراق الجديد مستقبلا. واستمر هذا الوضع حتى احتل البريطانيون بغداد في 19 اذارعام 1917 م بقيادة الجنرال مود فشكلوا في لندن مجلس حرب ولجنة سيميت لجنة إدارة ما بين النهرين، يناط بها رسم المستقبل السياسي للعراق، وكان على رأسها اللورد كيرزون وزير الدولة لشؤون الهند،ووزير الخارجية آرثر هرتزل، والسير مارك سايكس كأعضاء( ). وفي مارس / آذار عام 1917م عقدت اللجنة أول اجتماعاتها، ثم أصدرت قراراتها في 29 مارس / آذار عام 1917م وكان من أهم هذه القرارات:
1. أن المناطق المحتلة كانت ولايتي (البصرة وبغداد) فقط تكون إدارتها من قبل حكومة جلالة ملك بريطانيا وليس من قبل حكومة الهند البريطانية.
2. تبقى البصرة مباشرة تحت الإدارة البريطانية.
3. تصبح بغداد ولاية عربية يحكمها حاكم محلي أو حكومة تحت الحماية البريطانية في كل شيء أي تكون واجهتها عربية.
ولقد صممت بريطانيا على عدم تشجيع تهنيد الإدارة الجديدة في العراق الجديد، وتشجيع الاحتفاظ بالقوانين المحلية والمؤسسات العثمانية وبتغيير بسيط حسبما تقتضيه المصلحة البريطانية الضرورية وقد ظلت بريطانيا حتى إبريل/نيسان عام1918م متأثرة في رسم سياستها لما بين النهرين بموقف السلطات البريطانية بالقاهرة وسياسة (مارك سايكس).
ولكن بعد ذلك ومع تولي السير (أرنولد ويلسون) مسؤولية الإدارة السياسية لبلاد ما بين النهرين ولايتي (يصرة وبغداد) فقط، (المندوب السامي البريطاني في العراق) بعد ذهاب (نقل) برسي كوكس الى ايران وأعطت أهمية أكبر ووزنا وأثقل إلى نصائح السلطات المحلية في العراق( ). لقد خلف (أرنولد ويلسون)( ) السير برسي كوكس في أبريل / نيسان عام 1918م كمندوب سامي بريطاني مدني في العراق وبقي في مركزه حتى أكتوبر / تشرين الأول عام 1920م، وعودة برسي كوكس الى العراق مرة ثانية بسبب احداث ثورة العشرين في العراق وكان لشخصيته أثر كبر في تطور الأحداث السياسية في تاريخ العراق.
ب- الاحتلال البريطاني لكوردستان العراق (كوردستان الجنوبي)
لقد بذل الكورد جهوداً كبيرة في الحروب إلى جانب الدولة العثمانية ضد القوات البريطانية في العراق، حيث قام فرسان القبائل الكوردية والعربية بمواجهة القوات البريطانية قبل أن تصل القوات البريطانية إلى حدود لواء الكوت، حيث تصدت القوات الكوردية للقوات البريطانية في الشعيبة عام 1915م. وكان يقود القوات الكوردية على رأس ألفين فارس كوردي وقد قتل في معركة الشعيبة كثير من الكورد المشهورين منهم (رشيد باشا) من أهالي السليمانية والذي كان فيما سبق متصرفاً للواء المنتفك (الناصرية) وبعد أن سقطت بغداد بيد الإنجليز19 آذار عام 1917 وبدءوا الزحف نحو الشمال في 19 مارس / آذار عام 1917م أرسل البريطانيون الميجور (سون) الخبير بالشؤون الكوردية إلى خانقين لإجراء اتصالات مع زعماء الكورد.
لقد بدأت مقدمات هزيمة الدولة العثمانية تلوح في الأفق مما أدى إلى الاضطراب في صفوف الكورد وزيادة قلق الشيخ محمود الحفيد خاصة وأن العلاقات بدأت تسوء بينه وبين العثمانيين. فقد أخذ العسكريون العثمانيون يتهمون زعماء العشائر الكوردية بالسلب والنهب، مما دفع الشيخ محمود الحفيد إلى أن يترك ميدان القتال والانسحاب بقواته إلى حدود لواء السليمانية. ولقد أرتاب الأتراك في أمره ولكن ظروفهم العسكرية السيئة لم تساعدهم على فتح باب يؤدي إلى إثارة المشاكل مع الاكراد( ).
وفي السابع من أبريل / نيسان عام 1918 وصلت قوة إنجليزية إلى كركوك فقرر الشيخ محمود الحفيد أن يتصل بالإنجليز القادمين إليها (كوكوك)( )، في محاولة للتوصل إلى نوع من الاتفاق معهم يضمن تمتع الشعب الكوردي بحقوقه القومية قبل وصولهم (الانكليز) إلى السليمانية.
ولقد تداول الشيخ محمود الحفيد الأمر مع رجاله المقربين وكتب الشيخ محمود الحفيد رسالة سرية إلى (أرنولد ويلسن) المندوب السامي البريطاني في العراق (بغداد) طلب فيها أن يقرر الإنجليز تشكيل حكومة كوردية في السليمانية ويكون هو على رأسها وتكون خاضعة لحمايتهم. وقد أجاب ارنولد ويلسون الشيخ محمود الحفيد بأنه يزمع إصدار بيان في هذا الشأن( )، كما كتب رؤساء عشائر الهماوند الكوردية للإنجليز رسائل يعربون فيها عن استعدادهم لتقديم الأغذية والذخائر( ).
ولكن سرعان ما انسحب الجيش البريطاني من كركوك وعاد إليها الجيش التركي. وقد علم الأتراك بمراسلات الشيخ محمود الحفيد مع الإنجليز، ولذلك أوعز خليل باشا قائد الفيلق الثالث العثماني في العراق إلى مصطفى باشا قائد المنطقة بأن يرسل إلى الشيخ محمود الحفيد بحجة التشاور معه في مواضيع هامة وعندما حضر الشيخ محمود الحفيد ألقي القبض عليه وزج به في السجن بعد محاكمة صورية، حيث حكم عليه بالإعدام، إلا أن الحظ حالفه عندما تولي إحسان باشا قيادة الفيلق الثالث العثماني في العراق والذي فكر في الاستفادة من الشيخ محمود الحفيد في تلك الظروف الصعبة ولذلك طلب أن يحضر إليه في الموصل فلما وصل الشيخ محمود الحفيد لاطفه واتفق معه على الصلح على أساس أن يقف إلى جوار العثمانيين في مواجهة الإنجليز ليحمي الجانب الأيسر (الشرقي) للقوات العثمانية في السليمانية وأن يساعد القوات التركية مدعوماً بقوات العشائر الكوردية الموالية له. ولقد عاد الشيخ محمود الحفيد في نوفمبر/تشرين الثاني 1918م لتنفيذ هذا الاتفاق( ).
لقد كان الإنجليز على علم بما حدث بين العثمانيين الأتراك والشيخ محمود الحفيد ولم يكونوا ليطمعوا (الانكليز) في العودة إلى كركوك أو التقدم إلى السليمانية ما لم تسمح لهم الظروف المناسبة، وكانوا يدركون أن انسحابهم من كركوك قد أضعف من مركزهم بين الكورد، فقد انقلب عليهم عشائر الهماوند الكوردية كما بدأت مشاعر العديد من الكورد تتحول عنهم، ولذلك قرر الإنجليز العمل على إعادة نفوذهم باحتلال كركوك مهما كلفهم الثمن.
ولقد انتهز الإنجليز توقيع هدنة مودروس Mudros بين العراق وتركيا في 30/10/1918م ليواصلوا من جديد احتلالهم لكوردستان ولكن هل كان من حق الإنجليز بعد هدنة مودروس أن يواصلوا عملياتهم العسكرية؟لاحتلال مدينة الموصل واجزاء اخرى من العراق الحالي(كوردستان).
لقد فسر القادة الإنجليز المادتين السابعة والسادسة عشرة( ) بصفتهما أساساً قانونياً لاستمرار العمليات العسكرية الهجومية وعارض عدد كبير من المؤرخين السوفييت والأتراك والفرنسيين مثل هذا التفسير لهاتين المادتين مؤكدين على أن الإنجليز قد خرقوا وبشكل فظ شروط هدنة مودروس في30/10/1918م مع تركيا المهزومة في الحرب.
ولكن في حقيقة الأمر فإن المادة السابعة من هدنة مودروس سمحت للحلفاء باحتلال أي مركز استراتيجي في تركيا (فيما إذا شكلت الأوضاع خطراً على الحلفاء) بينما نصت المادة السادسة عشرة على إعطاء الحلفاء جميع الحاميات التركية الباقية في البلدان العربية بما فيها الحاميات في ميزوبوتاميا / بلاد ما بين النهرين (العراق) العربي ولايتي بغداد والبصرة فقط وبهذا الشكل تضمن نص هدنة مودروس دوافع واضحة تماماً للتدخل ومست بصورة مباشرة في كوردستان. وبطبيعة الحال كانت الذرائع من وجهة نظر الإنجليز كافية للتدخل في كوردستان، وبالتالي كان الخلاف حول خرق الإنجليز لهذه الهدنة (هدنة مودوس) لا أهمية له بوجه عام، فلم تكن هذه الهدنة (مودوس) إجراءً قانونياً دولياً بين فريقين متعاقدين، بل هو من جانب واحد، فرضته بريطانيا على الدولة العثمانية (تركيا) المهزومة، وكان بوسع بريطانيا خرقه شكلياً وهذا ما فعلته.
لقد بدأ هجوم الفيلق العسكري البريطاني بقيادة الجنرال (أ. مارشال) على الموصل الواقعة تحت سيطرة الأتراك في 23 أكتوبر / تشرين الأول عام 1918م، وانسحبت القوات العثمانية التركية بصورة عاجلة وكان الهدف الاستراتيجي للبريطانيين لهذا الهجوم هو احتلال شمال ميزوبوتاميا (بلاد ما بين النهرين) اي ولايتي بغداد والبصرة كلها ثم ولاية الموصل ذات الاغلبية الكوردية (كوردستان العراق) بما في ذلك كردستان الجنوبي كوردستان العراق. وفي 31 أكتوبر / تشرين الأول عام 1918 كانت القوات البريطانية على مسافة 24 كيلومتر من مدينة الموصل ولم يؤثر عقد هدنة مودروس في 30/10/1918على مخططات القيادة البريطانية العسكرية. وفي اليوم التالي 31/10/1918م شنت القوات البريطانية هجوماً على مدينة الموصل بأمر من وزير الحربية البريطاني الذي تذرع بالمادتين المذكورتين (السابعة والسادسة عشرة) مع أن الظروف في حينها لم تبرر استخدام هاتين المادتين.
لقد سقطت مدينة الموصل في غضون عدة أيام واحتلت القوات البريطانية ولاية الموصل بالكامل في العاشر من نوفمبر / تشرين الثاني عام 1918 وهو ما أعطى بريطانيا اليد العليا لفرض سياسة الأمر الواقع على كوردستان الجنوبي (شمال العراق اي كوردستان العراق)( ). وبدأت بريطانيا في فرض سياسة الأمر الواقع على المناطق التي احتلها من العراق الحالي.
الدكتور
عبد العزيز المفتي
2018 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع