بقلم: صفوة فاهم كامل
المجالس الثقافية العراقية في الأردن نهضة أدبية في عالم متحضّر
بعد أن يأسَ غالبيتهم من عودة الحياة الطبيعية لبلدهم عقب كل ما جرى بعد عام 2003 وما تلتها من سنوات عجاف، اتخذ العراقيون المقيمون في الأردن، منه بلداً ثانياً لهم ومستقرّاً دائماً فيه بحثاً عن حياة جديدة أكثر أمناً واستقراراً لعوائلهم وأولادهم. ومن بين هؤلاء المقيمين؛ نخب واسعة من وزراء وسفراء ومدراء عامين وعلماء أجلّاء ورجال أعمال كبار وطبقات أدبية رفيعة وفنّية مثقّفة، بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم وألوانهم، يسير كل من هؤلاء إلى ما يلائمه من تجمّعات ولقاءات حسب التماسه وانتمائه الفكري وليقضي ما تبقى من عمرہ بهدوء وسكينة.
بعضاً من هذه النخب بدأت وبالتدريج ونتيجة حرية الفكر والرأي والتجمّع العلني المتاحة لهم، بِلم شملهم من جديد وتكوين (تجمّعات) صغيرة في حلقات نقاشية اجتماعية مفيدة، يتبادلون فيما بينهم أطراف الحديث ويستذكرون أيامهم الخوالي، لتنتهي تلك الحكايا بالتطرّق لجراحات الوطن ومتابعة واقعه السياسي المتأزّم وآلام شعبه والتطورات اليومية غير المُسرّة الجارية فيه وما إذا كان هناك ضوء في نهاية النفق يُنبئ بعودتهم للوطن الأم. ما لبثت هذه الحلقات الصغيرة أن تطوّرت وتوسّعت إلى مجالس ومنتديات وملتقيات ثقافية تحت عناوين شتّى تجمعهم في يوم ما في الأسبوع، ناهيك عن المقاهي المنتشرة في عمان و(المولات) التي غزاها العراقيون بحسب أهوائهم وميولهم وأطيافهم، فهناك مقهى يلتقي فيه كبار ضباط الجيش ومقهى للسفراء وآخر للدبلوماسيين ومثلها لكبار الموظفين المتقاعدين وآخر لما تبقى من رجالات البعث السابقين ومقاهي عراقية متفرقة للشباب اليافعين وغيرهم من أطياف الشعب العراقي، فيما آخرون فضّلوا الانزواء في بيوتهم وأَغلقوا الأبواب وابتعدوا عن أي لقاء...!
• أولى تلك التجمعات الصغيرة التأمت عام 2006، في مقهى بيل موندو (BelMondo Cafe) أشهر مقاهي عمان الحديثة وتقع في شارع مكّة، بدأها السفير السابق طه القيسي مع عدد من زملائه في الخدمة وأصدقائه في الحياة، ما لبث هذا التجمع الصغير أن توسّع وكبرت حلقته تدريجياً لينتقل إلى صالون دارہ الكائن في ضاحية دير غبار، ومن ثمَّ بدأ تدويرہ أسبوعياً بشكل منتظم على بقية الأصدقاء. واستمرَّ هذا التجمع لحين وفاة السفير القيسي عام 2019 وآخرين قبله وبعدہ أو من غادر منهم الأردن.
• بعد تقاعدہ عن عمله كسفير للعراق في الأردن عام 2006، وملئ الفراغ الذي تولّد لديه، تبصّر السيد عطا عبد الوهاب بتأسيس مجلس ثقافي في صالون دارہ في ضاحية الحسين، يضم نخباً معروفة بين أوساطها ومقتدرة ثقافياً. فبدأت أولى جلساته يوم 9/4/2009 وسمّي بـ (مجلس الثلاثاء الثقافي) ويُعقد صباح يوم الثلاثاء من كل أسبوع، بحضور جمع من الأصدقاء والزملاء ما لبث أن زاد عددهم في قادم الأسابيع. وفيه يتقدّم أحد الضيوف لإلقاء محاضرة ثقافية في أي مجال من مجالات المعرفة أمدها ساعة، يُفتح بعدها باب النقاش للحاضرين من خلال أسئلة واستفسارات ونقاشات، وما زال هذا المجلس قائماً لغاية اليوم، يستضيفه من بعد وفاة مؤسسهِ، نجلهِ السيد لهب، وكانت الجلسات ولسنوات طويلة تدار من قبل الدكتور شوقي الساعاتي وتلاہ فيما بعد الدكتور خالد الشمري. ويعتبر هذا المجلس من أقوى المجالس من حيث رصانة المحاضرات التي تقدّم فيه وحسن إدارة جلساته وانتظام انعقادہ. كما دأب المجلس ومنذ تأسيسه ولغاية اليوم على إصدار كتاب سنوي تحت عنوان (أحاديث الثلاثاء... كتابات لمثقّفين عراقيين) يضم بين دفّتيه المحاضرات التي ألقيت فيه على مدار سنة كاملة، وأصبح عددها لغاية الآن، أربعة عشر جزءاً.
• وعلى غرار نفس الفكرة ابتدعت السيدة بتول النائب زوجة السيد عطا عبد الوهاب مجلساً مرادفاً لمجلس الثلاثاء تلتئم فيه المثقّفات من نساء الجالية وضيوفهم، يُعقد في نفس المكان لكن زمانه يوم الأحد صباحاً ولمرتين في الشهر. نجح هذا المجلس نجاحًا باهراً وحقق سمعة طيّبة بين أوساط السيدات واستمر لغاية وفاة مؤسسته المفاجئ عام 2017. وجرت بعدها محاولات جادّة من أعضائه لاستكمال مسيرة هذا المجلس النسائي، فقرّرن نقل جلساته إلى قاعة الأورفلي للفنون في ضاحية أم أذينة، على أن تُعقد شهرياً، واتخذ أسماً جديداً له بعنوان (منتدى بتول النائب الثقافي للسيدات) استذكاراً للراحلة بتول وعرفاناً بدورها في تأسيسه. ونجح المنتدى لحّدٍ ما، إلا أنه توقّف بعد فترة بسبب انتشار جائحة كورونا.
• الشاعر الكبير حميد سعيد، رئيس اتحاد الأدباء في العراق وأمين عام اتحاد الكتاب العرب الأسبق، ونظراً لمكانته الأدبية وسمعته في الأوساط الثقافية فقد منحته رابطة الكتاب الأردنيين عام 2014 إحدى قاعاتها في مقرها الكائن في جبل اللوبيدة لإقامة مجلس عراقي سميَّ بـ (البيت الثقافي العراقي) وانتخب له هيئة إدارية برئاسة الإعلامي والكاتب وليد الزبيدي، ويعاوناہ الشاعران الفلسطينيان الكبيران أديب ناصر وهشام عودة، لتقام فيه ندوات ثقافية وجلسات أدبية، ويستقبل شخصيات علمية مرموقة ويُدار من قبل أعضائه. لكن المجلس توقّف بعد سنتين وانحلَّ عام 2016، نتيجة اختلافات في الرؤى والأهداف بين أعضائه.
• أما المجلس الآخر فهو (الملتقى العراقي للثقافة والفنون) ويكاد يكون الأبرز بين الملتقيات والمجالس في عمّان والأكثر شُهرةً وما زال فاعلاً حتى اللحظة من حيث نشاطاته الثقافية والفنية، ومساهمة شخصيات عراقية وأردنية وفلسطينية فيه، من شعراء وأدباء وعلماء وفنانين وموسيقيين ورجال سياسة سابقين ودبلوماسيين. نشاط الملتقى متاح أمام الجميع ويقع في شارع الملكة رانيا العبد لله، ويحتشد مساء الأربعاء من كل أسبوع، يحضرہ جمهور واسع من مختلف المستويات والأجناس. ويستذكر الملتقى خلال أيام السنة المناسبات الوطنية والاجتماعية في كل من العراق والأردن، ويقوم بتوزّيع الشهادات التقديرية والدروع التكريمية على المساهمين بفاعلية فيه. يُشرف على أنشطة وفعاليات هذا الملتقى ويديرہ منذ تأسيسه عام 2016 ولغاية اليوم الفنان ضياء بهاء الراوي، وبتعاون مشكور من (بيت الثقافة والفنون الأردني) الذي فسح مجالاً في مقرہ لإقامة ندوات الملتقى.
• الفنانة التشكيلية السيدة مي النعيمي، حوّلت صالة شقتها في ضاحية تلاع العلي إلى قاعة فنّية متواضعة عَلّقت على جدرانها رسوماتها ونتاجاتها لتستعرض فنّها أمام زائريها أو من يرغب باقتناء ما يرغبون منها. واُفتتحتْ الصالة رسمياً يوم 22/6/2022، وفي نفس الوقت خصّصت يوماً في الشهر ليكون في ضيافتها ثلّة من الأصدقاء والشخصيات الاعتبارية في مجلس أدبي وثقافي واجتماعي، يتحاورون فيما بينهم حوارات جدلية وبنّاءة وعميقة. أطلقت النعيمي اسماً فلسفياً على مجلسها يرمز إلى الهدف منه هو (النعيمي مي ديالكْتيك)، يجلس فيه الحاضرون ضمن حلقة دائرية ليبدأ كل ضيف بتقديم سيرته الشخصية ويستعرض أمامهم تجربته في الحياة وما قدّم من إنجازات في عمله أو ضمن اختصاصه ثمَّ يتلقّى منهم ردود أفعالهم وأسئلتهم. وتتخلّل الجلسة أحياناً بعض الطرائف والفوازير والغناء الفردي والجماعي من باب ترطيب الجو وتلطيفه، ومجلسٌ كهذا يعتبر تجربة حديثة غير مألوفة في بقية المجالس، ابتدعتها الفنانة مي النعيمي وتحسب لها.
• مع نشاط الحركة التشكيلية للفنانين العراقيين الفاعل في عمان ظهرت من بينهم رسّامة ونحّاتة وخزّافة واعدة هي الفنانة مينا الصابونچي ابنة الوجيه المرحوم وجيه الصابونچي. تبنّت الصابونچي قاعة فنّية خاصة بها تقع في ضاحية دير غبار، تَعرض فيه لوحاتها ونتاجاتها الإبداعية الأخرى، وتُقيم فيها بين حين وحين بازاراً تجارياً لأعمال حرفية يدوية لفنانين وهواة. وفي العام الماضي أضافت نشاطاً آخراً لنشاطها الفني؛ حينما نوت إقامة ندوات ثقافية وأحياناً موسيقية، مساء كل يوم سبت أسمته (ملتقى الصابونچي الثقافي) تستضيف فيه أساتذة ونخباً عراقية وأردنية وعربية، متميّزون في مجالاتهم العلمية ومن مستويات وثقافات متباينة ومن مختلف الاختصاصات، نساءً ورجالاً، فانطلقت أولى جلسات الملتقى يوم 25/5/2023. ويقدّم هذه الأماسي بانتظام الأكاديمي الدكتور محمد ثابت البلداوي وينوب عنه أحياناً الإعلامي والصحفي رياض عبد الكريم. وما زال الملتقى مستمراً بفعالياته الثقافية والفنية، ويتلقى الترحيب والامتنان من كل الأوساط.
• في عام 2009، أسس خبير الاقتصاد والمال الدكتور خالد الشمري، مركزاً علمياً أسماہ (مركز الخلد للدراسات والبحوث)، واتخذ له مكتباً في إحدى العمارات في ضاحية الرابية المطلّة على شارع الشريف ناصر بن جميل، لممارسة نشاطاته الفكرية والبحثية. وفي عام 2023، ومع توسّع المجالس الثقافية العراقية وازدياد روادها، قرر الدكتور الشمري مع صديقه ونائبه في المركز الدكتور رافع الكبيسي، إقامة ندوات ثقافية مفتوحة في مكتبهما صباح كل يوم سبت، يقومان بإدارته ويطلعا على نشاط أعضائه وتقييم نتاجاتهم العلمية والعملية ومناقشة التطورات السياسية والاقتصادية في العراق والمستجدات الحاصلة في المنطقة، أو التوجّه نحو محاضرة تُقدّم من قبل أحد الحضور في مجال العلوم التخصصية الحديثة والتنمية المستدامة، أو يتم دعوة ضيف كريم من خارج المركز لتقديمها. وبعد انتهائها يتفضّل الحاضرون لمناقشة ما استمعوا إليه في جوانبها الإيجابية والسلبية وطرح استفساراتهم وآرائهم، فكان يوم 19/8/2023 بداية هذه الندوات وما زالت مستمرة إلى اليوم.
• د. سرّاء الأنصاري الاختصاصية في طب الأطفال والباطنية وممارس تخدير ونفسية، وبعد قدومها إلى الأردن تولّد لديها حس فكري أنضج وثقافي أوسع، إضافة إلى عملها في مجال الطب، فافتتحت في بيتها عام 2012 صالون أدبي تُعقد جلساته مرتين في الشهر لمناقشة القصص والروايات العربية المرشّحة رسمياً لجائزة البوكر العربية، أو مناقشة أي موضوع آخر في مجالات الفكر والثقافة. وفيما بعد أصبحت الدكتورة الأنصاري شغوفة في علوم (الباراسايكولجي) علم الخوارق واللاوعي والطاقة، فانتقلت إلى ماليزيا لدارسة هذه العلوم بشكل أوسع لمدة عامين. عادت بعدها لتُأسس مركزاً ثقافياً للتدريب على نشاطات هذه العلوم. وفي يوم 15/9/2023، افتتحت صالونها الأدبي في ضاحية دير غبار، يقتصر على النساء فقط أسمتهُ (واحة سرّاء) أو (Sara’a Zone)، تقدّم فيه -إضافة إلى نشاطاتها السابقة- دورات تعريفية عن مواضيع تثير الجدل واختلافات في الرأي والرأي الآخر، ونشاطات أخرى تخص المرأة بشكل عام. وتستضيف أيضاً في أوقات مختلفة محاضرين ومحاضرات. كما وتقيم بين فترة وأخرى أمسيات اجتماعية ترفيهية خروجاً عن المألوف لديمومة المجموعة واستمرارية عطائها وتقوية أواصرها.
• (ملتقى الحضارات... للأدب والفنون والحرف اليدوية)، هو آخر الملتقيات العراقية التي تأسّست في عمّان. أنشأته السيدة وفيقة عجيلي، أستاذة اللغة العربية وافتتحته في صالون بيتها في ضاحية عبدون يوم 9/3/2024، على أنه معرض دائم لعرض لوحات الفنانة التشكيلة لينا الناصري، مع مجموعة منوعة من قطع فنّية من الخزف والمنمنمات والأشغال الحرفية اليدوية لأكثر من فنان وفنانة، ولكن الموجة الثقافية والفكرية وعلوّها وانتشارها في عمّان وخاصة بين أبناء الجالية العراقية جعلت من السيدة عجيلي تركب هذه الموجة السريعة وتجعل من قاعتها (ملتقى الحضارات) مركزاً أدبياً أيضاً تقام فيه أمسيات ثقافية مختلفة أسوةً ببقية القاعات والمنتديات، فكانت البداية الميمونة مساء يوم 21 آذار 2024، المصادف 11 رمضان 1445 هـ بحضور جمهور غفير غير متوقع، في ليلة مباركة من ليالي شهر رمضان الفضيل.
ومن خلال نظرة سريعة لهذه المجالس الثقافية الدؤوبة في عمّان وسَير عملها واستقطابها لجمهور نخبوي، نلاحظ أن المجالس النسائية العراقية قد خطفت الأضواء من خريطة المجالس الذكورية وحققت ثباتها ومرادها وما زالت في توسع وطلوع مستمر. وفي كلا الحالتين فأن هذه المجالس تُعبّر عن حالة حضارية إيجابية ونهضة أدبية تنويرية، تعيشها الجالية العراقية في الأردن بعيدة عن جراحات الوطن وهواجس المواطن وفي ظل تطوّر علمي سريع. وعلى الرغم من تباين تلك المجالس واختلاف مستوياتها الفكرية والأدائية، فالأمنيات لهم جميعاً من القلب والدعوات بدوام السؤدد...
ومن الله الفلاح والنجاح.
1209 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع