«نلتقي في أغسطس»: رواية مثيرة للجدل لماركيز تنشر خلافا لوصيته

 جودت هوشيار

«نلتقي في أغسطس»: رواية مثيرة للجدل لماركيز تنشر خلافا لوصيته

في السادس من آذار/مارس الجاري ذكرى يوم ميلاد غابرييل غارسيا ماركيز صدرت في روسيا روايته الجديدة، التي لم تنشر خلال حياته «نلتقي في أغسطس» وستنشر خلال الأيام القليلة المقبلة مترجمة إلى أربعين لغة في شتى أنحاء العالم، بالإضافة إلى الأصل الإسباني.

وهذا أمر نادر الحدوث. في هذه الرواية القصيرة التي تقع في 122صفحة، يعود الكاتب الكولومبي إلى أسلوب أعماله الأولى، ويتطرق أيضا إلى موضوع جديد في عمله الإبداعي.

شرع ماركيز بكتابة «نلتقي في أغسطس» في مارس 1999، وأصبح من المعروف لاحقا أنه كان يعمل على رواية جديدة، حتى إنه قرأ جزءا منها في منتدى أدبي في مدريد، ولم تكن حالته الصحية جيدة في ذلك الوقت، فقد كان مصابا بالسرطان، لكن ذهنه كان صافيا تماما.

بحلول عام 2004، كان ماركيز قد كتب خمسة احتمالات سردية مختلفة لـ«نلتقي في أغسطس» ثم توقف عن العمل قائلا: «ينبغي أحيانا ترك المسودة لبعض الوقت». في عام 2010، عرض المخطوطة على كريستوبال بيرا، وهو محرر عمل معه سابقا على إعداد كتاب مذكراته «عشت لأروي».

قبل أن يصاب بفقدان الذاكرة، «لم تعد ذاكرته تسمح له بجمع كل القطع وكل التصحيحات في نسخة واحدة، بطريقة أو بأخرى، ولكن في أثناء مراجعة المسودة، كان بإمكانه قضاء بعض الوقت في فعل ما يحبه: اختيار صفة في مكان ما، وتغيير تفصيلة صغيرة في مكان آخر».

في عام 2012، تفاقم مرضه ولم يعد يتعرف على أفراد عائلته، باستثناء زوجته مرسيدس بارشا. بعد وفاة ماركيز، تبين أن المخطوطة، التي تحتوي على الاحتمالات الخمسة للنص تقع في 769 صفحة ضمن أرشيفه المحفوظ في جامعة تكساس في أوستن.

واعترف غونزالو غارسيا بارشا الابن الأصغر للكاتب، للصحافيين بأن والده كان يعتقد أن رواية «نلتقي في أغسطس» لا قيمة لها: «لقد أخبرني بشكل مباشر أنه يجب تدمير الرواية». وذكر رودريغو غارسيا أكبر ولديه، أنه بحلول ذلك الوقت لم يعد بإمكان والده متابعة الحبكة، وفقد القدرة على إصدار حكم حول الكتاب.

كتب ابنا المؤلف مقدمة للرواية الجديدة يقولان فيها: «بشكل عام، لم ندمر النص، لكننا أجلنا نشره، على أمل أن يخبرنا الوقت بما يجب القيام به». وعندما قرآ النص من جديد بعد عشر سنوات من وفاة والدهما، وجدا فيه العديد من المزايا الجذابة.

نعم: «إنها ليست مصقولة مثل رواياته الكبيرة. هناك أشياء تتعثر فيها، وهناك تناقضات طفيفة، ولكن لا يوجد ما يمنع القارئ من الاستمتاع بالسمات المفضلة لنثر غابو: الخيال الجامح، واللغة الشعرية، والسردية الأخّاذة، والمعرفة العميقة بمكامن النفس البشرية، والالتصاق الحميم بالتجارب المعيشة، لاسيما في الحب الذي شكل بمعنى ما المحور الأساس والمحرك الأول لكل أعماله».

يقول كريستوبال بيرا، الذي عهد إليه بإعداد الكتاب للطباعة: «لقد عملت كمرمم للوحة فنية لفنان عظيم». وهذا كلام غير دقيق لأن دور المحرر لم يكن ترميم الأجزاء المتضررة بفعل الزمن، بل عمد إلى معالجة الهفوات مثل، تصحيح عمر البطلة أو التناقض في رسم بعض الشخصيات في عدة مواضع، وسد الثغرات بين أجزاء الرواية، وما إلى ذلك.

ردود فعل متباينة

أثار قرار الأخوين الوريثين بنشر المخطوطة بدلا من حرقها كما أوصى والدهما، ردود فعل متباينة في العالم. قال غونزالو: «بالطبع كنا قلقين من أن يظن الآخرون أن دافعنا هو الجشع فقط». ولقد حدث ذلك فعلا، حيث يرى العديد من النقاد أن الكسب المادي كان وراء قرار الأخوين، نشر مخطوطة رواية غير مكتملة. وقد اعترف غونزالو بأنه كان من الصعب مخالفة إرادة والده، لكنه أصر على أن هناك «الكثير من الأمثلة في تاريخ الأدب لأشخاص طلبوا حرق مخطوطاتهم، ثم تبين أنها عناصر مهمة في الأدب. بالنسبة لي شخصيا، أشعر بالارتياح لأن هذه هي آخر قطعة كتبها غابو. أشعر بأن أعماله الكاملة لن تكتمل إذا لم يتم نشرها. ولا توجد روايات أخرى مختبئة بين أوراقه».

من المؤكد أن نشر رواية «نلتقي في أغسطس» هو الموضوع الأكثر نقاشا في كولومبيا في هذه الأيام، حيث يعد ماركيز بطلا قوميا (حتى إن صورته مطبوعة على الأوراق النقدية المحلية). اشتكى الكاتب والصحافي الكولومبي خوان موسكيرا في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» قائلا: «إنهم لا يعرضون عليك هذه الرواية كمخطوطة، أو عمل غير مكتمل ـ بل كرواية غارسيا ماركيز الأخيرة، ولكنني لا أصدق ذلك. أعتقد أن هذه لحظة عظيمة لعلامة غارسيا ماركيز التجارية». ومن ناحية أخرى، قال الروائي الكولومبي هيكتور أباد فاسيولينس: «كنت أخشى أن يكون هذا كله عملا من أعمال الانتهازية التجارية، لكن تبين لي العكس تماما. كل الصفات التي جعلت أفضل كتب غارسيا ماركيز رائعة موجودة هنا».

وقال الروائي الأيرلندي كولوم ماكان: «يا لها من فرحة أن تعتقد بأنه لا تزال هناك أشياء يجب اكتشافها في العالم. كنت سأمشي مسافة 500 ميل للحصول على كتاب جديد لماركيز. إنه مثل اكتشاف الجليد في نهاية رحلة طويلة. ماركيز محبوب وضروري في الوقت نفسه، وهو مزيج نادر في عالم الأدب. أتذكر تجربتي الأولى مع ماركيز عندما قرأت قصته القصيرة «أجمل رجل غريق في العالم». وفجأة أصبح كل شيء جديدا تماما. في كل مرة تقرأ فيها أي كتاب لماركيز، سيكون هناك شيء جديد، حتى لو كنت قد قرأته أربع أو خمس مرات. إن اكتشاف الجديد أمر نادر.

النساء في روايات ماركيز

النساء شخصيات ثانوية مهمة في روايات ماركيز، بدءا من «مئة عام من العزلة» وفي جميع رواياته اللاحقة، لكن لم تكن المرأة الشخصية الرئيسية في أي منها. بطلة «نلتقي في أغسطس» امرأة في منتصف العمر، قررت استكشاف حياتها الجنسية وحريتها، وأدى ذلك إلى صراعات، لكنها استمرت في السير على هذا الطريق، رغم أنها من الناحية النظرية امرأة سعيدة، وليس لديها أسباب موضوعية لذلك. ولهذا وصف ابن الكاتب رودريغو هذه الرواية بأنها نسوية، وهذا قد يكون باعثا على إعادة التفكير في مؤلفات ماركيز بأكملها، خاصة دور المرأة فيها، ولهذا السبب فإن «نلتقي في أغسطس» هي في غاية الأهمية. تتكشف حبكة الرواية على مدار عدة سنوات في جزيرة صغيرة في البحر الكاريبي، حيث يتناقض فقر أكواخ السكان المحليين مع فخامة الفنادق الساحلية وخضرة الطبيعة الاستوائية. تستأجر امرأة سمراء جميلة ونحيلة غرفة في فندق متهالك في الجزيرة، يطل على البحيرة الزرقاء. خلال النهار تزور قبر والدتها على قمة التل، وتعود في الليل لتقضي وقتا ممتعا في بار الفندق على أنغام السالسا والبوليرو. وهي متزوجة وتعيش بسعادة منذ فترة طويلة، ولكنها تتعرف ذات مساء إلى رجل ساحر في منتصف العمر، وتقضي الليل معه. هذه التجربة الجديدة تهزها حتى النخاع. كانت سعيدة في البداية بمغامرتها. تستيقظ في الصباح وهي تتخيل أنها استمتعت بليلة من السعادة دون مسؤوليات أو عواقب، ثم تكتشف أن شريكها قد ذهب وترك لها ورقة من فئة 20 دولار أمريكي مدسوسة في كتابها جوار سريرها. وكان ذلك صدمة لها، لأنها ظنت أنها قد أصبحت حرة، في حين ظن الرجل أنها من بنات الهوى. وبعد ذلك كل عام في 16 أغسطس، تستقل العبّارة إلى الجزيرة لقضاء ليلة ساخنة مع حبيب عشوائي.

وبالعودة إلى المدينة، فإن الأمور لا تسير على ما يرام، في البداية، كان زواجها مثاليا، فقد كان زوجها وسيما، وبارعا في كل شيء بدءا من تنس الطاولة إلى الحيل السحرية وحتى الشطرنج على مستوى أستاذ كبير. لقد مارس الزوجان الجنس بشكل متكرر ولطيف. وكان أطفالهما موهوبين وواثقين من أنفسهم (على الرغم من قلقهما بشأن تصميم ابنتهما على أن تصبح راهبة) لكن مغامراتها السرية في الجزيرة دمر زواجهما. فهي تدرك: إذا كان بإمكانها أن تكون غير مخلصة، فربما يمكن ذلك لزوجها أيضا، بحلول نهاية القصة، يصبح الزوج مجرد «ضيف عرضي في سريرها.

من أجواء «نلتقي في أغسطس»

كان اسمها آنا ماجدالينا باخ، وكان عمرها ستة وأربعين عاما، أمضت سبعة وعشرين منها في زواج راسخ مع الرجل الذي أحبته، والذي أحبها وكان خطيبها الأول ـ تزوجته وهي عذراء قبل أن تتخرج في كلية تاريخ الفن. كانت والدتها معلمة تحظى باحترام كبير في مدرسة مونتيسوري الابتدائية، وعلى الرغم من إنجازاتها العديدة، رفضت أي ترقية حتى أنفاسها الأخيرة. ورثت آنا ماجدالينا منها عينيها الذهبيتين المبهرتين، الاقتضاب الفعال والذكاء للسيطرة على تقلبات شخصيتها. لم يكن هناك سوى موسيقيين في عائلتها. كان والدها يدرّس البيانو ومديرا للمعهد الموسيقي المحلي لمدة أربعين عاما. وخلفه في هذا المنصب زوجها، قائد الأوركسترا الذي جاء أيضا من سلالة موسيقية. أصبح ابنها أول عازف تشيلو في الأوركسترا السيمفونية الوطنية وهو في الثانية والعشرين من عمره، وقد أشاد به مستيسلاف ليوبولدوفيتش روستروبوفيتش نفسه في حفل موسيقي خاص. وكانت الابنة، التي كانت في الثامنة عشرة من عمرها، تتمتع بقدرة تكاد تكون عبقرية في تعلم العزف على أي آلة موسيقية عن طريق السماع، لكنها كانت تقدر هذه الموهبة في حد ذاتها كذريعة لعدم قضاء الليل في المنزل. كانت تربطها علاقة غرامية مع عازف بوق ممتاز في موسيقى الجاز، لكنها كانت ذاهبة، خلافا لرغبة والديها، لتأخذ نذورا رهبانية حافية القدمين في النظام الكرملي. كانت والدة آنا ماجدالينا قد أعربت عن رغبتها في أن تدفن في الجزيرة قبل وفاتها بثلاث سنوات. أرادت آنا ماجدالينا الذهاب إلى الجنازة، لكن الجميع اعتبروا ذلك أمرا غير معقول، وشعرت هي نفسها بأنها لا تستطيع تحمل مثل هذا الحزن. أخذها والدها إلى الجزيرة في الذكرى الأولى لوفاة والدتها لوضع لوح من الرخام الأبيض على القبر. كانت خائفة من الرحلة على متن زورق بمحرك خارجي: أبحرا لمدة أربع ساعات تقريبا، وخلال هذا الوقت لم يهدأ البحر ولو لثانية واحدة. كانت مفتونة بالشواطئ المليئة بالرمال الذهبية الدقيقة على حافة الغابة الكثيفة العذراء، وصخب الطيور، ورحلة مالك الحزين الشبحية فوق المياه النائية للبحيرة. شعرت بالحزن بسبب فقر القرية، حيث اضطرا أن يقضيا الليل في الهواء الطلق، في ارجوحتين معلقتين بين شجرتين من جوز الهند، على الرغم من أنها كانت القرية الأصلية لشاعر شهير، فضلا عن كونها موطن سيناتور ساخر كاد أن يصبح رئيسا للبلاد. لقد أذهلها عدد الصيادين السود الذين فقدوا أيديهم بسبب تفجير فاشل لعصي الديناميت. لكن الأهم من ذلك أنها فهمت وصية والدتها عندما رأت روعة العالم من أعلى تلة المقبرة. لقد كان المكان المنعزل الوحيد في العالم الذي لم تشعر فيه بالوحدة. عندها قررت آنا ماجدالينا أن تتركها حيث كانت، وتحضر باقة من زهور الزنبق إلى القبر كل عام. إن شهر أغسطس هو شهر الحرارة والأمطار الغزيرة، لكنها اعتبرت ذلك شرطا أساسيا لحج التوبة، والذي كان عليها أن تؤديه دون أي تراخ وبمفردها حتما.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3078 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع