عوني القلمجي
احتكار المقاومة حكاما ومقولات
لم يعد هناك أدني شك بان حكام الردة العرب، قد تخلوا نهائيا عن المقاومة الفلسطينية في غزة خاصة، والقضية الفلسطينية عامة. بل تخلوا حتى عن المتاجرة بفلسطين، كقضية مركزية للامة العربية. فهم لم يكتفوا بالوقوف متفرجين على قوات الاحتلال وهي تدمر غزة، وترتكب جريمة الإبادة الجماعية بحق اهلها، وانما حملوا المقاومة، وتحديدا حركة حماس المسؤولية. في حين حملت شعوب العالم كافة، الكيان الصهيوني المسؤولية كاملة وطالبت بمحاكمته، عبر مظاهرات مليونيه غير مسبوقة في تاريخ الشعوب. الامر الذي دعا محكمة العدل الدولية، للاستجابة لمطلب جنوب افريقيا بمحاكمة الكيان، وأصدرت حكما ضده قبل عدة أسابيع، بصرف النظر عن الغموض الذي أحاط بالحكم.
اما اتباع حكام الردة ومرتزقتهم، فقد واجهوا صعوبات بالغة في الدفاع عن اسيادهم. خاصة وان كل ما فعلوه لستر عورتهم، الادلاء بتصريحات بائسة، واحتجاجات خجولة، مذيلة بعبارات معيبة، تحمل حركة حماس المسؤولية. لينتهوا الى عقد اجتماع "قمة عربي" في السعودية، بمشاركة دول اسلامية، وإصدار بيان اقتصر على الاستنكار، ومطالبة حكومة الكيان بإدخال المساعدات الى غزة. في حين يعتبر هذا البيان تافها قياسا بموقف بعض الدول في أمريكا اللاتينية، التي قطعت علاقاتها مع الكيان الصهيوني، وأخرى طردت سفيره او قاطعت بضائعه، او منعت عنه تصدير الأسلحة والعتاد.
الجهة الوحيدة التي لم تلتفت الى حكام الردة، ولم تطلب العون منهم، هي المقاومة الفلسطينية في غزة. بل على العكس من ذلك، فقد تولدت لدى المقاومة قناعة راسخة، بان تخلي حكام الردة عن القضية الفلسطينية، واقتصار مواقفهم على التباكي على فلسطين، منحها القوة والثبات على خط المقاومة المسلحة. حيث تخلصت من تحكم هؤلاء الحكام بحركة المقاومة، والتدخل في شؤونها، والحد من استقلالية قراراتها، ووضع العقبات في طريق نشاطاتها وكفاحها، وصولا الى قطع المساعدات عنها، او معاقبتها إذا لم تمتثل لإرادتهم، واجبارها على التخلي عن السلاح، والدخول في مساومات مذلة.
هذه القناعة التي تولدت لدى المقاومة، لم تأت من فراغ، وانما من خلال قراءة تاريخية لمجرى الصراع، بين الشعب الفلسطيني والمحتل الصهيوني. فالوقائع على الأرض تشير، الى ان أحد اهم مقومات الانتصارات التي حققتها المقاومة، ابتعاد قيادتها عن الحكام العرب، وتجاهل ضغوطهم، ورفض مشاريعهم الاستسلامية، سواء كان الحاكم وطنيا او عميلا. في حين ارتبطت الانكسارات التي تعرضت لها المقاومة بغياب القرار المستقل، والقبول بسياسة الحكام الهزيلة والاستسلام لمشيئة الأجنبي وارادته.
لقد كان قدر المقاومة الفلسطينية، القتال من خارج الوطن لطرد المحتل، على خلاف المتعارف عليه. فالمقاومة لدى كل الشعوب، تقاتل الاحتلال داخل بلدانها، بصرف النظر عن النصر او الهزيمة. مع ملاحظة ان المحتل هنا لم يلجا الى تهجير الشعب خارج ارضه، وانما يعمل على ترويضه او قمعه من جهة، وتشجيعه على القبول بالأمر الواقع من جهة اخرى. في حين جرى تهجير الشعب الفلسطيني خارج ارضه، لتتشكل المقاومة في بلدان اللجوء اضطرارا، وخاصة من الدول المجاورة لفلسطين، مثل الأردن ومصر وسوريا ولبنان. الامر الذي اجبرها على الخضوع لهذه الدول، او القبول بالتدخل في قراراتها ونشاطاتها السلمية او المسلحة. وإذا حاولت التمرد واجهت مصيرا اسود، كما حدث في الأردن. حيث عاقب حاكم الأردن، الملك حسين، فصائل المقاومة، بشنه حربا بكل الأسلحة، ليرتكب جيشه مجزرة شنيعة بحق المقاومين، واضطرها للخروج من الأردن في سنة 1970، او ما يعرف اليوم بأيلول الأسود. ليتكرر نفس السيناريو في لبنان وإخراج فصائل المقاومة منه، بعد اجتياحه من قبل الجيش الصهيوني، لتحل المقاومة ضيفا على الحكومة التونسية.
لقد أدى هذا الوضع الفريد من نوعه، الى تراجع المقاومة واضطرارها، في نهاية المطاف، الى عقد اتفاق أوسلو المهين، بعد ان عقدت دول الجوار، خاصة تلك التي يتواجد فيها المقاومون الفلسطينيون، اتفاقات مذلة مع الكيان الصهيوني، مثل اتفاقية كامب ديفيد بالنسبة لمصر، واتفاقية وادي عربة بالنسبة للأردن. ولم تخرج المقاومة من حالة التردي والتراجع، والعودة للكفاح المسلح والتمسك بالبندقية، ورفض كل الاتفاقات المذلة مع الكيان الصهيوني. الا بعد استقلال عدد من فصائل المقاومة سنة 2007، وفي المقدمة منها حركة حماس، واتخاذ مدينة غزة البطلة قاعدة لها. لتتخلص نهائيا من هيمنة حكام الردة وقيود الوصاية عليها، وتخطي وهم نصرتها من قبل الجيوش العربية، لتخوض معركة التحرير منفردة، والتي توجتها بمعركة طوفان الأقصى ضد الجيش الذي لا يقهر، وإلحاق الهزيمة به، باعتراف جميع الخبراء العسكريين في مختلف بلدان العالم. ففي الوقت الذي هزم فيه هذا الجيش الصهيوني، دولا عربية كبيرة في أيام معدودات، وبأسلحة اقل تطورا بما لا يقاس بأسلحة الكيان المستخدمة لتركيع غزة، يعجز اليوم عن هزيمة حركة المقاومة وفرض السيطرة على المدينة، على الرغم من مرور أكثر من أربعة شهور، وربما ستطول سنين عديدة. وهنا يمكن القول بثقة تامة، ان قوة المقاومة الفلسطينية في غزة، تكمن بأبعاد هؤلاء الحكام عن التدخل بشؤونها، والاعتماد على الشعب الفلسطيني وتأييده لها، واستعداده للتضحية من اجل تحرير فلسطين.
لقد تحقق للمقاومة في غزة، من القوة والمنعة والاستقلال وحرية القرار وتحديد الزمان والمكان لعملياتها المسلحة ضد الاحتلال، ما لم تحققه المقاومة الفلسطينية طيلة تاريخها. وأضافت في الوقت نفسه، تجربة عملية كسرت القيود، التي تحد من حركتها وتجبرها على التخلي عن الكفاح المسلح. حيث الغت من حساباتها الشروط، التي ينبغي توفرها للمقاومة في أي بلد، كضمان لتحقيق الانتصار. مثل توفر الظروف الذاتية والموضوعية، او ضمان التأييد المسبق من دول العالم الحر، وكسب عطف الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة. فقد خاضت المقاومة في غزة معارك شرسة ضد جيش الكيان الصهيوني بمفرها، وتمكنت من تحقيق انتصارات مذهلة، وجردت جيش العدو، الذي هزم جيوشا عربية في أيام معدودات، من القدرة على الحاق الهزيمة بالمقاومة في غزة، على الرغم من مرور أكثر من أربعة أشهر، ومازالت المعركة مفتوحة. الامر الذي رفع من معنويات الفلسطينيين، وشجعهم على مواصلة الكفاح، ورفض المساومة على الحقوق، ووهم الوصول الى حلول عبر الحوار، مع كيان غاصب أفرط في اجرامه، فقطع الطريق عليه أجدى من الانتظار، وتلقي الصفعات كما يشتهي العدو، ويذعن له حكام الردة، والمرتزقة الواقفون ذلا بأبوابهم.
لا بديل عن المقاومة في حالة احتلال، يهدف الى اقتلاع شعب من ارضه، بدهية غير قابلة لنهشها، بوجهة نظر جاهل او حاقد. والمقاومة في تعريفها البسيط، مبادرة خلاقة تتمثل في ان تسبق المحتل على الدوام، خطوة في طريق الصراع ليتكبد خسائر لا يحتملها، مما يرغمه على رفع راية الهزيمة. وكل ما عدا ذلك، التفاف على حقوق الشعوب، واطالة لأمد الاحتلال، وما طوفان الأقصى الا استجابة واعية لهذه البدهية، ونزعة الانسان الاصيلة في ان يكون حرا. وهذا ما يتأسس اليوم فلسطينيا، ويجعل مهمة التحرير غير قابلة للتأجيل تحت أي ذريعة كانت. اما من يعتقد بان وجهة النظر المتعلقة بالاتفاقيات المذلة، التي تخلت عنها المقاومة ملزمة في كل الظروف، فقد اثبتت معركة الطوفان جمودها، وتعطيل ديناميكية التعامل مع كل مرحلة من مراحل المقاومة ضد المحتل، واجبارها على الدخول في حالة انتظار دائم لحلول سلمية لن تتحقق ابدا.
ولتوضيح ما تقدم لأهميته، فان الظروف الذاتية والموضوعية، التي يعتبر توفرها شروطا للانتصار، لم تثبت صلاحيتها في أحيان كثيرة. وليس ادل على ذلك، تجربة المقاومة الفلسطينية بالذات. حيث توفر كلا الشرطين بدرجة أكبر مما توفر لعدد غير قليل من المقاومة في بلدان أخرى. ففيما يخص الظروف الذاتية فقد توفرت للمقاومة الفلسطينية على أكمل وجه. حيث تجمعت كل الفصائل المقاومة، من يسارها الى يمنيها، من العلمانيين والإسلاميين، من المنفتحين والمتشددين، من جميع الأديان والمذاهب، تجمعت تحت راية منظمة التحرير، واتفق الجميع على برنامج سياسي ومسلح، وعلى قيادة مشتركة، سواء اللجنة التنفيذية او المجلس الوطني الفلسطيني، واتفقوا على ياسر عرفات كقائد للثورة. وبالطبع ما تحقق من وحدة فلسطينية لمقاومة المحتل، يعد جوهر الظروف الذاتية وما عداه يمكن توفيره بسهولة.
اما الظروف الموضوعية، فقد توفر لمنظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات، على المال والسلاح والدعم العربي والدولي الى حد ما، والتأييد العالمي للمقاومة الفلسطينية، حيث وصل ياسر عرفات الى منصة الأمم المتحدة، والقى خطابا باسم فلسطين، باعتبار المنظمة التي يقودها ياسر عرفات، قد اكتسبت صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. لتتبوأ فلسطين مقعدها في الأمم المتحدة كعضو مراقب. بل وقاتلت مع منظمة التحرير شخصيات وتجمعات ثورية من مختلف انحاء العالم، وامتزجت دماؤها بدماء الفلسطينيين. ومع ذلك لم يتحقق النصر للمقاومة الفلسطينية، بالرغم من توفر هذه الشروط، وانما انتهت الى الاستسلام امام المحتل، والاعتراف به ضمن اتفاقية أوسلو المهينة، والتنازل عن 78% من ارض فلسطين التاريخية للصهاينة، مقابل سلطة فلسطينية هشة على المساحة المتبقية، تدار من قبل الحكومات المتعاقبة في تل ابيب. في حين لم يطبق الكيان هذه الاتفاقية المذلة، التي كان من المفترض تطبيقها في سنة 1999، وانما استثمر اتفاق أوسلو، في مواصلة سياسته تجاه الأراضي الفلسطينية التي احتلها في سنة 1967، وبناء مزيد من المستوطنات عليها، بل ان هذه السلطة، سواء في السر او العلن، لم تستطع اتخاذ أي قرار يهم المواطنين، مهما كان صغيرا، دون الحصول على موافقة الحكومة الصهيونية.
لكن هذا ليس كل شيء، فقد شطبت المقاومة في غزة، قيود أخرى على شكل مقولات، جرى ترويجها والتأكيد عليها، لتصبح قوانين لا غنى عنها لتحقيق الانتصار ضد المحتل. مثل حساب موازين القوى بين المقاومة والمحتل او عدم الدخول في معركة مع المحتل وهو في عز قوته، او تجنب المقاومة ضد المحتل قبل ضمان وقوف الشعب بأكمله خلفها الخ. ليكون البديل إزاحة المقولة النمطية لصالح اجراء استثنائي. حيث شنت المقاومة في غزة منفردة، هجوما كاسحا غير مسبوق ضد المحتل في عقر داره، ومواجهته بسلاح الحق في مقاومة المحتل ومشروعيته، دون النظر في مواصفات المقاوم الذي يقاتل تحت راية الحق، وطنيا كان او قوميا، شيوعيا او بعثيا، ليبراليا او متدينا، إسلاميا او علمانيا، او إذا كان حزبا معينا او جهة محددة، ولا يشترط ان تكون قوة المقاومة مماثلة لقوة المحتل، او قادرة على تجنب الهزيمة، او تحقيق الانتصار. وبعكس ذلك، فان انتظار المقاومة بلوغ مستوى قوة المحتل وتحقيق الشروط الاخرى، يعني ابقاء كل هذه الشعوب تحت نير الاحتلال حتى يوم القيامة. واعتقد جازما بان أصحاب العقول المتخلفة، لن يعثروا في التاريخ البشري كله، على حركة تمكنت، من تحقيق توازن القوة، بينها وبين المحتل، قبل منازلته.
ان المقاومة الفلسطينية، التي تعمل اليوم باستقلالية كاملة، واعتمادا على نفسها، وتأييد الشعب الفلسطيني لها، تحكي بوضوح مسيرة كفاح الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من مئة عام. حيث لم يمنح هذا الشعب الجبار، المحتل البريطاني سابقا والكيان الصهيوني لاحقا، فاصلا زمنيا ليعيش حالة استقرار، وسيواصل الكفاح وصولا الى طرد المحتل، وإقامة دولته المستقلة على كامل التراب الفلسطيني. منشدا من تراثه القريب، "وحدي ووحدي كنت وحدي عندما قاومت وحدي ووحدة الروح الأخيرة".
18/2/2024
798 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع