خالد الدوري
في نشوء النظرية السياسية في الإسلام: ج٨: أول المُنَظِّرين:
من المفيد أن أُنَوّه الى التالي: بالنسبة لي إن إستخدمت لفظ الخلافة او الإمامة فالمعنى المقصود واحد، ان اطلقت الاولى فانما اريد به الثانية، وإن ذكرت الثانية فانما هي تدل على الاولى. وأحاول في هذه السلسلة إعادة قراءة وتقصي المواقف، وتتبع آراء اصحاب المذاهب التاريخية. لفهم المراحل الأولى لنشوء عناصر النظرية السياسية في الإسلام، ومدى عمق إرتباطها بالعقيدة والأخلاق. مع ملاحظة ان البحث تاريخي اكاديمي علمي، بعيد عن الطائفية ونقد المذاهب. كما أنّ مناقشة وجهات النظر المختلفة ليس هنا محلّه.
ذكر إبن النديم في كتابه الفهرست (1) أن اول من تكلم في الإمامة "الخلافة" اي بالحجة والدليل متبعا منهج علم الكلام هو علي بن اسماعيل بن ميثم التمّار، وهو من جلّه اصحاب عليّ (رضي الله عنه وأرضاه) وله من الكتب كتاب الإمامة، وكتاب الإستحقاق. وعليّ هذا الذي له قصب السبق في التأليف بموضوع الإمامة شيعيا إماميا يؤمن بولاية علي وآله. ولم يقتصر الأمر عند هذا المتكلم. وإنما تبعه آخرون ينتسبون كذلك الى ذات المذهب. وحذوا حذوه فكان منهم هشام ابن الحكم مولى بني شيبان ويكنّى" بابي محمد" وهو كوفي تحول الى بغداد من الكوفة، ومن اصحاب ألإمام ابي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (رضي الله عنه) وهشام هذا من متكلمي الشيعة. وهو ممن فتّق الكلام في الإمامة بالدلائل والبراهين وهذّب المذهب بالنظر، وسهّل طريق الحِجاج فيه. وكان حاذقًا بصناعه الكلام حاضر الجواب. وقد وَضَعَ في موضوع الإمامة عدّه كتب منها: كتاب الإمامة، كتاب الرد على من قال بإمامة المفضول، كتاب اختلاف الناس في الإمامة، كتاب الوصية والرد على من انكرها، وكتاب الحكمين.
ويقول ابن النديم: (كان اوّلاً من اصحاب الجهم بن صفوان (2) ثم انتقل الى القول بالإمامة بالدلائل والنظر.)(3) ثم توالت بعد ذلك كتب الشيعة التي تخوض في تعميق جوانب الموضوع فكان من ابرز مفكريهم الذين الّفوا فيها ابو جعفر الأحول محمد بن النعمان الملقب (بشيطان الطاق، ويلقبه الشيعة بمؤمن الطاق)، ومحمد بن الجليل السكاك، وابو سهل اسماعيل بن علي النوبختي وغيرهم كثير.
قصب السبق:
كل ذلك يشير الى ان الشيعة قد سبقوا غيرهم في البحث والتاليف السياسي المنظّم في موضوع الإمامة. وكان لهم الذراع الطولى في إثارة الجدل العقلي حول مفهومها واُسسها ومتطلباتها. وكانت الافكار المطروحة من قِبَلِهم حولها والمُتَّكئة على إعتقادات دينية، تصور مبادئهم، واسسهم الفكرية، فكان كل ذلك حافزًا لبقية الفِرَق والفُرَقاء من معتزلة وخوارج واهل سنّة، للمشاركة هم أيضًا في طرح ما عندهم من معتقدات، وإظهار إسهاماتهم في المسألة ، فكان الأخذ والرد والجدل بين مؤيد ومعارض، مما أدى إلى تكوين مفاهيم أوّلية لنظرية سياسية واسعة، أخذت مكانها المميز في مباحث علم الكلام.
وبعبارة اُخرى، فقد إنصَبَّت جُلّ اهتمامات الأطراف في التماهي، أو في نقض ما يطرحه الشيعة من مباحث حول الإمامة، وفق زوايا النظر المتقاطعة في الإعتقاد والرؤية لكل فريق، وخاصًة ما يتعلق بالقول برجعة الأئمة، وعصمتهم، والنص عليهم، وقدسيتهم، والإصرار على احقية إمام بِعَينهِ لمنصب الخلافة دون سائر الصحابة، والسَبّ للخليفتين أبي بكر وعمر، وباقي المعتقدات الأُخرى مثار الجدل. فكانت تلك الطروحات والافكار السياسية والعقدية المختلفة المنصوبة من قِبَل علماء الشيعة، وما يقابلها من ردود ومناقشات من الأطراف الاخرى، تشكّل مجتمعة الأسس الأولى للنظرية السياسية الاسلامية. وتكتسب تلك المناقشات اهمية خاصة،لانها تتعرض لأدق مشكلة سياسية عقدية واجهت الأمّة. وانبرت خطورتها – للأسف الشديد- في تعميق واستمرار التنازع الجدلي فيها، منذ ان نشأت الفرق مرورًا بالقرون التالية.
لماذا الإمامة وليس الخلافة؟:
نستطيع ان نبني نتيجه اخرى على ما تقدم، فنجيب على التساؤل الذي سبق ان سقناه آنِفَاً وهو: ما سبب تعارف علماء المسلمين في ابحاثهم وكتبهم قديمًا على استعمال لفظة الإمامة، او الإكثار منها دون الإكثار من استعمال باقي الالفاظ المرادفة، والتي يمكن ان تؤدي نفس المعنى كلفظ الخلافة، والإمارة، والسلطنة... ؟.
وللجواب نقول: انه لما كان تبلور نظرية الإمامة في الاسلام قائم على اساس إجابات متنوعة للمسائل والطروحات والمشاكل المثارة من قبل علماء الشيعة -لانهم اصحاب السبق في الإثارة، ولهم الباع الطويل فيها- فقد جارى علماء المسلمين (من غير الشيعة) في مناظراتهم للشيعة نفس اسلوبهم. وكرّسوا في ردودهم اعتماد نفس الفاظ الألقاب والمصطلحات التي استخدمها الشيعة. وجرت تلك الالفاظ ببساطة على السنتهم واقلامهم لتفنيد وزعزعة الافكار والمعتقدات التي يجدون أنها مثار الجدل أو غير مُسَلّم بها. سواء ما يختص بشخص الخليفة (أو الإمام)، او في شكل الرئاسة، وشروطها، ومتعلقاتها. وهذه المشاركه في إستعمال لقب أو مصطلح ألإمامة مثلاً، ما جاءت عن جدب او إنسياق عند أهل السُنّة. ولكن لان لفظة "إمام وإمامة" تحقق نفس غرضهم ومقصدهم من الناحيتين اللغوية والشرعية، بإعتبار ان تسمية (الإمام والإمامة) تسميات لغوية مجردة تؤدي الغرض المطلوب منها في الدلالة على الرئيس الأعلى للدولة. كما انّ هذه الالفاظ لم تكن تُشكّل في حينها مشكلة، او معنى خاصًا مقصود لذاته، يقتضي الإنصراف عنه إلى غيره. ولذا لم يجدوا مسوغًا للعدول عنهما.
الخلافة بين التاريخ وعلم الكلام:
ولكن ثَمَّة ملاحظة جديرة بالتسجيل حول استعمال لفظتي امامة وخلافة، إذ الملاحظ عموما في كتب التاريخ ان من تولى شأن هذه الأُمّه منذ عهد ابي بكر الصديق (رضي الله عنه) والى سقوط الدولة العثمانية كان يسمى (خليفة)، في حين ان جُلّ الابحاث الكلامية المتعلقة باصول الحكم والنظرية السياسية تجري تحت مبحث (الإمامة). ومع أنّ موضوعهما واحد. وهذا المنظور يتيح لنا في البحث العلمي، التمييز والفصل بين المفهومين تاريخيا بالقول: ان الجدل الكلامي العَقَدي فيما يخص هذا الباب، كله كان يدور حول مسمى الإمامة. بينما البحث التاريخي بعيدا عن الجدل بقي مختصا بإسم الخلافة (4).
قد يحلو لبعض المفكرين المتاخرين تبرير هذا الاتجاه (في استخدام لفظ الإمامة، والعدول عن لفظ الخلافة)، كردة فعل إحترازية للمحافظة على الرونق والطابع العام الذي كانوا يرونه للفظ الخلافة حينما كانت تطلق على الراشدين، وعدم ابهات ضيائها بكثرة إطلاقها على كل حاكم تولى أمر الأُمّة. إذ تحرّجوا من استعمالها على الاطلاق على تالي الخلفاء من بعد الراشدين، بعد ان دَبَّ دبيب الوهن الى مؤسسة الخلافة شيئًا فشيئًا. وأمسَت في فترات معيّنة - في نظر البعض- مرادفة للترف، والإضاعة، والغفلة عن الرعية.
في حين أنّ هناك من يرى عدم وجود بأس من ضرورة الحرص على استخدام مصطلحات الحُكم التي استخدمها السلف قديمًا، لأن فيها تذكير للمسلم بمهمته الدينية في اقامة الخلافة والإمامة الإسلامية، وما ينطوي عليه هذا التذكير من ربط له بماضيه وتاريخه الاسلامي. ومعلوم في دنيا الناس اليوم مالهذين اللّقبين من اثر بالغ في إثارة هواجس ومخاوف اعداء الاسلام المتعصبين. ذلك الخوف الذي يدفعهم لإثارة الشبهات حولهما. والذي تَجسّد عمليًا في إبراز مسميات العنف والإرهاب مثل: القاعدة، ودولة الخلافة وداعش، وغيرها من المسميات المشَوِّهة التي تضرب على وتر دولة الخلافة المزعومة. والتي أعطت للعالم صورة نَمَطيّة مزيفة عن الإسلام ونظامه السياسي. وعلينا أن نعترف أنّ تلك السلوكيات والتشويهات نَفّرت الناس من مسمى "إمامة وخلافة". وقَللّت من اهميتهما حتى في انظار المسلمين أنفُسهم.
براءة المصطلحات السياسية:
ومن هنا لا نوافق الباحث الدكتورمحمد عبد الله العربي (5) في إزدراءه ورفضه للّفظين في ابحاثه ، ولعله الخجل هو الذي يدفعه لعدم التصريح بهما في أبحاثه السياسية العلمية (وأستشهِدُ هنا بقوله كنموذج لآخرين غيره) حينما يقول: ( وقد إخترنا تسمية "رئاسة الدولة" على تسمية "الخلافة والإمامة" لأن كل مسلم يعرف ما احدثته التسمية من فتن ودسائس وافتراءات وتشويهات وحروب دامية، زلزلت كيان العالم الاسلامي وقادته في النهاية الى التفكك والانحلال.) (6) وأقول: هذه دعوة فضفاضة وباطلة. اذ لا يمكن للألفاظ المجردة ان تفعل كل الفعل السيء الذي يذكره، من (فتن ودسائس وافتراءات وتشويهات وحروب دامية وزلزلة وتفكك وانحلال!). فإن كان هذا صحيحًا كما يقول. فإنه قد وقع في بلدان وامبراطوريات تَوالى على حكمها (ملوك، وسلاطين، ورؤساء، وزعماء، وجنرالات) وقد وقع فيها مِثل كل تلك الأعمال والصفات السيئة التي ذكرها، فهل ذلك يبرر لنا اللعن والتَبَرّي من إستعمال القاب حُكّام تلك البلدان والإمبرطوريات ؟!. على أننا لا ننكر حق الباحث في استخدام المفردة والمصطلح الذي يراه مناسبًا لرئاسة الدولة ، ولكن لا ينبغي أنّ يُحمّله تَبعَة أفعال البشر السَيّئين وعناوينهم الوضيفية. وانّما الذي فعل الظلم والسوء - ان كان قد حصل- فهو النفوس الخربة والإنتهازية والأنانية، التي لم يُعمّرها الاسلام ولم تؤمن به. وقد تكون خاضعة لأجندة وإرادات "داخلية وخارجية" مشحونة بالحقد والتعصّب على الاسلام واهله. وعليه فمن أساء يتحمل الإساءة بشخصه، وليس مسمى وظيفته الخدمية التي كان على رأسها.
إلا إننا وعلى النقيض مما ذهب اليه الدكتور محمد العربي نجد (نموذجًا مغايرًا) لباحثٍ مسلمٍ آخر كالدكتور القرضاوي – قد تختلف معه وقد تتفق- ولكنه لا يتردد أو يخجل في حقل السياسة الإسلامية من التصريح وترديد دعوته البَيّنَة في: (العودة الى الفكرة الاسلامية الأصيلة التي لا تعرف الّا "الإمامة" التي هي منصب ديني وسياسي معًا.)(7).
وعلى أي حال، ففي السياسة، لكلٍ وجهة هو مُوَليّها. وأرى: إنّ مدلول الإمام والخليفة انما هي مصطلحات سياسية عارضة غير اصيلة – بمعنى أنها لم تأمر بها الشريعة وليست من ألأركان العامة للدين- وهي تعبير عن المنصب الرئاسي ألأعلى. وأن عناصر النظرية السياسية في الإسلام لا تفترض لفظًا بعينه لرئاسة الدولة.
المصادر والمراجع:
(1) الفهرست لإبن النديم/ ص 223. تحقيق رضا تجدد.
(2) الجهم بن صفوان قال عنه شمس الدين الذهبي: (الكاتب المتكلم أس الضلالة، ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء وجدال ... وكان ينكر الصفات، وينزه الباري عنها بزعمه، ويقول بخلق القرآن. ويقول: إن الله في الأمكنة كلها) .سير أعلام النبلاء / الطبقة الرابعة ج6/27.
(3) الفهرست (مصدر سابق) ص 224.
(4) الإمامة لدى الشيعة الاثنى عشرية للدكتور احمد محمود صبحي ص 19 دار المعارف بمصر.
(5) توفي (رحمه الله) قديمًا ولم يعاصر التنظيمات المشار اليها.
(6) نظام الحكم في الاسلام للدكتورمحمد عبد الله العربي/ ص 65 دار الفكر بتقديم محمد ابن المبارك.
(7) الحل الاسلامي فريضة وضرورة ص 76 مؤسسة الرسالة بيروت 1394 هـ - 1974 م.
1096 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع