د. جابر أبي جابر
ريخارد زورغه - الجاسوس الأسطورة
في 29 أيلول/سبتمبر عام 1943، حكمت محكمة مقاطعة طوكيو على ضابط الاستخبارات السوفيتي ريخارد سورج بالإعدام خلال محاكمة مغلقة. وقد وصف الرجل، الذي كان حتى وقت قريب من الرواد الدائمين لأرقى الصالونات والمطاعم والقصور في العاصمة اليابانية، بأنه مجرم. والآن صارت المشنقة في انتظاره بل وربما النسيان الأبدي. وحتى في الاتحاد السوفيتي تجاهلوا ذكره ولم يتحدثوا عنه إلا بعد سنوات طويلة.
ولد ضابط الاستخبارات المقبل يوم 22 أيلول/سبتمبر (4 أكتوبر)عام 1895 في ضاحية صابونجي بمقاطعة باكو (الإمبراطورية الروسية) في عائلة مهندس ألماني. وكان والده غوستاف زورغيه (سورج) يعمل في شركة الأخوان نوبل لإنتاج النفط. وقد تزوج من الروسية نينا كوبيليفا. وكان عمه السياسي الألماني الشهير فريدريخ أدولف زورغيه، أحد قادة الأممية الأولى وسكرتير كارل ماركس ، الذي أصبح فيما بعد من مؤسسي الحزب الشيوعي الامريكي.
انتقلت العائلة إلى ألمانيا عندما لم يكن ريخارد قد بلغ من العمر ثلاث سنوات، ولم يتعلم الصبي على الفور التحدث باللغة الروسية بطلاقة. وفي بداية الحرب العالمية الأولى وقبل عام من إنهاء المدرسة الثانوية في برلين، تطوع ريخارد للذهاب إلى الجبهة.
وقد حارب الشاب في بلجيكا وغاليسيا وفرنسا، وترقى إلى رتبة ضابط صف، وأصيب بجراح عدة مرات، وحصل على وسام الصليب الحديدي من الدرجة الثانية. وفي الأيام الأولى من عام 1918، سرّح من الجيش عقب تعرضه لجروح خطيرة . وفيما بعد ظل يعرج في مشيته طوال حياته. أصيب ريخارد بخيبة أمل من الحرب والمستفيدين منها، وأصبح مهووساً بالأفكار الاشتراكية. وقد جلس على الفور لقراءة الكتب ودخل كلية الفلسفة بجامعة برلين. ثم درس في كيل، ودافع عن أطروحته بعنوان "التعريفات الإمبراطورية للاتحاد المركزي للجمعيات الاستهلاكية الألمانية"، وفيما بعد حصل على الدكتوراه في العلوم الحكومية والقانونية. وكان شخصاً جذاباً له نظرة عميقة وثاقبة، ويبدو من المستحيل الاختباء منها في أي مكان. فإذا دخلت امرأة الحقل المرئي له، لا بد أن تقع في أسره. "في أسر خفيف، ضبابي، ساحر".
وفي أحد الأيام اعترف ريخارد بتأثير الحرب العالمية الأولى عليه قائلاً: "لقد جعلتني الحرب شيوعياً". في عام 1919، انضم ريخارد إلى الحزب الشيوعي الألماني الذي تأسس حديثاً. وبحلول ذلك الوقت كان قد أثبت أنه صحفي موهوب. لكنه تعلم أيضاً ممارسة العمل السري من خلال توفير الاتصالات السرية بين خلايا الحزب. وفي إطار ذلك حصل على أول الأسماء المستعارة : تيدي، روبرت. وسرعان ما تمت دعوته إلى موسكو للعمل في جهاز اللجنة التنفيذية للكومنترن. ثم مُنح الجنسية السوفيتية وأصبح عضواً في الحزب الشيوعي (البلاشفة). وبدأ بنشر مقالاته في مجلات موسكو حول قضايا الحركة الثورية في الولايات المتحدة وألمانيا. ثم قام بإعداد عملين نظريين مهمين، وأُرسل إلى الخارج في مهمات عمل لتفقد أمور الأحزاب الشيوعية الأوروبية.
نشر ريخارد في العشرينات ثلاثة كتب في ألمانيا والاتحاد السوفيتي وهي: " تركيز رأس المال وروزا لوكسمبورغ"(1922)، و"العواقب الاقتصادية لمعاهدة فرساي للسلام" (1926) ، و"الإمبريالية الألمانية الجديدة" (1927).
وقد استرعى ريخارد انتباه استخبارات الجيش الأحمر. فقرر رئيسها آنذاك، يان بيرزين، إرسال موظف جديد إلى الصين للقيام بالعمل الاستخباراتي. فهناك في منطقة السكك الحديدية الشرقية الصينية كانت الأمور مضطربة، وكانت الحرب تختمر. وكانت موسكو بحاجة ماسة إلى معلومات دقيقة حول الحالة المزاجية السائدة في قيادة حزب الكومنتانغ، الذي كان يسيطر على معظم أراضي الصين.
وفي الأيام الأولى من عام 1930، وصل ريخارد إلى الصين وأصبح مسؤول تجنيد ومخبراً لمحطة شنغهاي الاستخباراتية. وبحلول ذلك الوقت، كان قد حصل بالفعل على الاسم المستعار الذي سيدخل بموجبه التاريخ - رامزاي. وهو اسم قرية في منطقة بينزا الروسية.
تسنى لريخارد كسب ثقة الخبراء العسكريين الألمان والمستشارين العسكريين لرئيس الكومنتانغ شيانغ كاي شيك. وأصبح مراسلاً صحفياً للعديد من الصحف الألمانية، ولم يشك أحد في مناوئته للمعتقدات الشيوعية بالاعتماد على ماضيه حيث خدم في الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الأولى بالخطوط الأمامية. وقد كان الدكتور ريخارد يتحدث مع الضباط الألمان حول الحاجة إلى الانتقام من نتائج هذه الحرب الكارثية بالنسبة للألمان، وانتقد البلاشفة واليسار بشكل عام . وبدت أقواله هذه مقنعة تماماً.
أصبح ريخارد رجلاً معروفاً في أعلى الدوائر العسكرية الصينية، وانضم إلى نادي السيارات الصيني المرموق، والذي كان رئيسه شيانغ كاي شيك نفسه. وكان يتلقى المعلومات السرية مباشرة من وزراء الكومنتانغ. وفي الوقت نفسه، كان يبعث الرسائل بانتظام إلى موسكو حول الإمدادات العسكرية الألمانية التي تذهبت إلى الصين. كما نسنى له وضع قائمة بأسماء مجموعة الخبراء الألمان العاملين في الصين وكذلك رموز التشفير المستخدمة من قبلهم مع الإشارة إلى المناصب التي يشغلونها هناك. وقد حظيت هذه المعلومات القيمة بتقدير كبير من قبل قيادة الاستخبارات العسكرية السوفيتية. وسرعان ما قام زورغه بإعداد ملف مفصل عن ضباط جيش الكومنتانغ. وهكذا فقد تمكن من تحقيق نجاح كبير في نشاطه. وسرعان ما كلفه المركز برئاسة مجموعة الاستطلاع التي أنشأها بنفسه، وبعد بضعة أشهر ترأس رامزاي محطة شنغهاي الاستخباراتية.
وبعد ثلاث سنوات من العمل، تم استدعاؤه إلى موسكو. وهناك بدأوا في إعداده للعمل السري في اليابان باعتبارها دولة رئيسية في المنطقة. ثم قام بزيارة ألمانيا، حيث أظهر نفسه كمؤيد متحمس للحزب النازي. واعتبره رفاقه الألمان في الحزب الشيوعي خائناً .
في ذلك الوقت أصبح اتجاه الشرق الأقصى أولوية بالنسبة للاستخبارات السوفيتية. وفي ضوء ذلك وصل زورغه إلى اليابان في أيلول/سبتمبر عام 1933 تحت غطاء صحفي للعمل كمراسل لعدة صحف ألمانية. وقد طلبت القيادة منه عدم إجراء أي اتصالات قطعياً مع السفارة السوفيتية في طوكيو والحزب الشيوعي الياباني . ولإبعاد الشبهة عن نفسه أوحى زورغه لخصومه بأنه رجل رجل غير جدّي . فهو زير نساء، ومن رواد الحفلات ومن هواة الدراجات النارية. وعلى العموم فإن تعاطيه المفرط للمشروبات الكحولية وركوبه دراجته النارية بطريقة متهورة تركتا انطباعاً لدى الجميع بأنه رجل متهور ومبذر أي النقيض التام لتصور الناس عادة عن الجاسوس . وقد ساعدته موهبة التواصل ومهنة الصحافة المريحة على مقابلة ممثلي النخبة اليابانية، حتى أولئك المقربين من الإمبراطور. والأهم من ذلك ارتبط زورغه بعلاقة صداقة وثيقة مع الملحق الصحفي الألماني يوجين أوت وعندما أصبح الأخير سفيراً لألمانيا بطوكيو في نيسان/ أبريل عام 1938 حل زورغه مكانه كملحق صحفي لدى السفارة. وفي ظل هذه الظروف الملائمة كان السفير يطلع زورغه على كافة نتائج لقاءاته مع القيادة اليابانية ومراسلاته مع برلين.
كان زورغه مطلعاً بقضايا الشرق الأقصى على نحو أفضل بكثير من أوت وخاصة كونه قد عمل في الصين طيلة ثلاث سنوات. ولهذا كان يزوده دائماً بتقارير حول الأوضاع في تلك المناطق ويرسلها أوت باسمه إلى برلين. ومن أهم هذه التقارير الدراسة المفصلة بخصوص محاولة الانقلاب العسكري في طوكيو، التي قام بها أفراد فصيل من الحرس الإمبراطوري يوم 26 شباط/فبراير عام 1936. ويعود سبب ذلك إلى انزعاج هؤلاء من إفقار الريف. وأوضح التقرير للمسؤولين النازيين في برلين أن هؤلاء ليسوا شيوعيين ولا اشتراكيين وإنما معادون للرأسمالية. وكان زورغه قد تنبأ بلجوء اليابان إلى غزو الصين في عام 1937.
وعلى العموم قدّر أوت صديقه زورغه تقديراً عالياً كمصدر ثمين للمعلومات حول العالم السري للسياسة اليابانيةً وخاصة حرب اليابان ضد الصين رغم معرفته بأن زورغه عشيق لزوجته. وبعد أن أصبح أوت سفيراً لألمانيا لدى اليابان في نيسان/أبريل عام 1938 كان زورغه يتناول طعام الإفطار معه يومياً حيث يناقشان العلاقات الألمانية اليابانية بالتفصيل. وكان زورغه يقوم أحياناً بصياغة نصوص البرقيات، التي يرسلها السفير إلى برلين. وقد وصل الأمر بالثقة القوية التي يمنحها إلى زورغه أنه صار يستخدمه كساعي ألماني لنقل رسائل سرية إلى القنصليات الألمانية في كانتون وهونغ كونغ ومانيلا.
وبالمناسبة، فإن الدراجة النارية، التي كان ريخارد يجيد قيادتها ببراعة، على الرغم من عرجه، ساعدته أكثر من مرة في الهروب من المراقبة عند الحاجة للاتصال سريعاً بالمركز. وفي الوقت نفسه عمل ضمن نظام مرهق لسنوات عديدة. والمعروف أنه مارس نشاطه السري في اليابان لفترة طويلة لا يمكن تصورها - من أيلول/سبتمبر عام 1933 حتى تشرين1/أكتوبر عام 1941. وطوال هذا الوقت كانت حياته معلقة بخيط رفيع، وكان بوسع أي خطوة خاطئة أن تنتهي بشكل مأساوي. والجدير بالذكر أنه قبل زورغه لم ينجح أي رجل استخبارات سوفيتي في العمل باليابان نظراً لأن اليابانيين آنذاك كانوا متشككين للغاية تجاه جميع الغرباء. ولهذا كان هؤلاء الأجانب دائماً تحت الرقابة الشديدة من جانب رجال الشرطة السرية اليابانية.
أما زورغه فهو لم يقم فقط بتجنيد العملاء حيث بلغ عدد مجموعته 35 شخصاً، بل إنه بنى نظام سري بكفاءة ولعب على التناقضات بين الألمان واليابانيين. وباستخدام معلومات مجزأة، قام بتحليل الوضع السياسي الأكثر تعقيداً - وكقاعدة عامة، تم تحديد الاتجاهات بشكل صحيح. فعلى سبيل المثال، في نيسان/أبريل عام 1941، نقل ريخارد إلى موسكو ما يلي: "في دوائر هيملر وهيئة الأركان العامة الألمانية هناك تيار قوي لصالح شن حرب ضد الاتحاد السوفييتي، لكن هذا التيار ليس له رجحان بعد". لكن مع مرور كل أسبوع في أواخر ربيع عام1941، أصبحت رسائله إلى المركز أكثر فأكثر قطعية بخصوص استعداد ألمانيا النازية لاجتياح الاتحاد السوفييتي (عملية بارباروسا). وفي تبليغته الأخيرة بهذا الخصوص أكد زورغه أن الهجوم الألماني سيحدث حتماً في النصف الثاني من حزيران/يونيو. وقد تلقى ستالين العديد من هذه التحذيرات من ضباط الاستخبارات السوفيتية الآخرين من مختلف البلدان. وبالنسبة لتقرير زورغه رفض ستالين تصديق أي شيء يقال بخصوص هجوم النازيين القريب على الاتحاد السوفيتي. وقال للجنرال فيليب غوليكوف: "يمكنك إرسال "مصدرك" ... إلى الجحيم". وفي البرقية نفسها أشار الزعيم السوفيتي إلى أن هذه المعلومات غير قابلة للتصديق وينبغي إدراجها في قائمة البرقيات التي تعتبر استفزازاً.
وقد ذُكرت تواريخ مختلفة إلى هذا الحد أو ذاك للهجوم النازي. والمعروف أن ستالين لم يصدق بشكل قاطع تقارير الاستخبارات التي تؤكد استعدادات الألمان النازيين للهجوم على الاتحاد السوفييتي. ومن هنا عدم ثقته في مواعيد بدء الحرب التي أرسلها له ضباط الاستخبارات السوفييتية. وحتى عندما تمكنوا من الحصول على بيانات دقيقة لا يمكن دحضها وعن يوم بدء الهجوم الألماني واتجاهات غزو الجيش الألماني، لم يصدقها ستالين. ولكن عندما بدأت الحرب في 22 حزيران/يونيو، توطدت سمعة ومصداقية رامزاي في دوائر هذه الاستخبارات ولدى ستالين نفسه.
وتجدر الإشارة إلى أن أعظم خدمة قدمتها مجموعة زورغه للاتحاد السوفيتي هي أنه أبلغ موسكو في 14 أيلول/ سبتمبر عام 1941 أن اليابان لن تشارك في الأعمال العدائية ضد الاتحاد السوفييتي خلال الأشهر القادمة وذلك استناداً للاجتماع السري، الذي غُقد يوم 6 أيلول/سبتمبر عام 1941 في مقر الإمبراطور الياباني، حيث اتُخذ قرار بعدم الدخول في حرب ضد الاتحاد السوفيتي خلال العام المذكور وربطت اليابان هجومها المقبل بتوفر ثلاثة شروط وهي: 1- بعد استيلاء الألمان على موسكو، و2- عندما يبلغ تعداد جيش كوانتونغ الياباني ثلاث أضعاف عدد قوات الشرق الأقصى السوفيتية، و3- عندما تبدأ الحرب الأهلية في سيبيريا. وفي هذه المرة نظرت القيادة السوفيتية بكل جدية إلى معلومات زورغه هذه. وفي ضوء ذلك صدرت الأوامر بسحب 28 فرقة عسكرية من الشرق الأقصى وسيبيريا إلى الغرب، مما ساعد على وقف التقدم النازي وتجنب احتلال القوات النازية للعاصمة السوفيتية آنذاك بعد أن أصبحت هذه القوات الغازية على بعد بضعة كيلومترات من الكرملين. وهكذا فقد ساعدت هذه المعلومات في إنقاذ البلد من كارثة عسكرية هائلة أثناء معركة الدفاع عن موسكو في أواخر عام 1941، ووضعت الأساس لانتصارات الاتحاد السوفيتي على ألمانيا النازية وحلفائها.
في خريف عام 1941 اكتشف اليابانيون عمل البث اللاسلكي لمجموعة زورغه عدة مرات، لكنهم لم يتمكنوا في البداية من تتبع أثر العملاء السوفيت. ثم تسنى لهم تحقيق ذلك. فمن هو المسؤول عن الفشل؟ من المرجح أن الشرطة اليابانية تمكنت من اكتشاف أمر زورغه من خلال الرسام الشيوعي مياجي الذي حاول الانتحار عقب الفشل. وقد اعتقل زورغه في 18 تشرين1/أكتوبرعام 1941. وقد كان لديه من الوقت أقل من أربعة أشهر للعمل أثناء الحرب الوطنية العظمى. ومع ذلك استطاع خلال هذا الوقت القصير تقديم خدمات قيمة للاتحاد السوفيتي وإلحاق أكبر قدر من الضرر بالنازيين.
عقب اعتقاله احتُجز زورغه في سجن سوغامو الذي اتسم بشروط قاسية. لم يصمد زورغه أمام التعذيب فحسب، بل إنه بنى منطقاً دفاعياً حيّر العديد من المحققين. وفي البداية كان يعتبر عميلاً أمريكياً.
لقد اعترف بأنه موظف في منظمة الأممية الشيوعية (الكومنترن)، لكنه جادل بأنه تصرف من أجل المصالح المتبادلة للاتحاد السوفياتي واليابان. نعم، كان يعتزم "تغيير النظام السياسي الياباني وإلغاء نظام الملكية الخاصة من خلال إقامة دكتاتورية البروليتاريا وإنشاء مجتمع شيوعي". لكن هل هذه جريمة؟ تحت ضغط الأدلة، كان زورغه يأخذ دائماً نصيب الأسد من اللوم، محاولاً تخفيف حصة رفاقه في المجموعة. وأوضح للمحققين أن التحالف مع ألمانيا النازية يعني الهلاك بالنسبة لليابان. وهناك معلومات تفيد بأنه تمكن من إقناع العديد من الأشخاص المسؤولين في اليابان بأنه كان على حق. وقد أدرك هؤلاء أنه لم يعمل إلا ضد حليفتهم ألمانيا. غير أن اعتماد الحكم الصارم تمّ ،إلى حد كبير، تحت ضغط برلين.
بدأت جلسات المحكمة في مايو 1943. وأدرك زورغه تمام الإدراك بأنه سيحكم عليه بالإعدام. لكنه تشاجر مع القضاة ولم يستسلم. وزعم أن جزءاً صغيراً فقط من المعلومات التي تلقاها يمكن تصنيفه على أنه أسرار دولة.
في 29 أيلول/سبتمبر 1943، حكمت المحكمة على هوتسومي أوزاكي وريخارد زورغه بالإعدام باعتبارهما عميلين للكومنترن قاما بأعمال إجرامية تهدف إلى "تغيير النظام السياسي في اليابان وإلغاء نظام الملكية الخاصة من خلال إقامة دكتاتورية البروليتاريا وإنشاء نظام شيوعي". " أما الأشخاص الـ 12 الباقون الذين حوكموا في قضية مجموعة زورغه، فقد حصلوا على أحكام مخففة - تصل إلى 15 عاماً في السجن. واصل رامزاي النضال من أجل العدالة بعد ذلك حيث استأنف الحكم أمام المحكمة العليا، ربما على أمل حدوث تغييرات سياسية يمكن أن تنقذ مجموعته.
على كل حال ثمة رواية مفادها أن اليابانيين لم يكونوا في عجلة من أمرهم لتنفيذ الحكم لأنهم كانوا ينتظرون مقترحات من الاتحاد السوفيتي لمبادلة ضابط الاستخبارات السوفيتي باليابانيين المسجونين لديه. ولكن لم تأت أي إشارة من الكرملين أو من حلفاء الاتحاد السوفييتي، الذين يمكن أن يلعبوا دور الوساطة في هذه القضية. ولسوء الحظ، لم يكن من الممكن توفر ثقة كاملة بالعميل زورغه في الاتحاد السوفياتي خلال الحرب نظراً لأنه كان مقرباً جداً من النخبة الألمانية في طوكيو والأوساط اليابانية الحاكمة. ولهذا كانت الشكوك تحوم حول وجود لعبة مزدوجة. هذه هي مفارقة العمل السري، حيث لا يمكن أن يكون هناك تقييمات واضحة لا لبس فيها. ومع ذلك فقد فات المسؤولين السوفيت أن زورغه كان يزود موسكو بأهم المعلومات بفضل هذا التقارب بالذات وخاصة مع السفير يوجين أوت والملحق العسكري الألمانيين. ومن اللافت أن أوت لم يُعاقب رغم فداحة فضيحة صديقه زورغه وإنما اقتصر الأمر على نقله إلى بكين.
عاش العميل السوفيتي فترة طويلة مع زوجته العرفية اليابانية ايشيا هاناكو، التيسعت لدى إدارة سجن سوغامو لمعرفة موقع قبر حبيبها وقامت بتنظيم نقل رفاته من مقبرة سجن سوغامو إلى مقبرة تاما المخصصة لوجهاء اليابان حيث اشترت هاناكو قطعة أرض هناك لهذا الغرض من المال، الذي حصلت عليه كمكافأة لقاء نشرها كتاباً حول زورغه. وقد واظبت على زيارة قبره حتى وفاتها في عام 2000.
من المعروف تماماً أن مهنة الاستخبارات تتطلب السرية. ولفترة طويلة، لم تعترف موسكو بأن رامزاي يعمل لصالح الاتحاد السوفيتي. ومما لا شك فيه أن زورغه كان يتوقع هذا الأمر، بما في ذلك إضفاء الغموض على قضيته. ولم يُمنح لقب بطل الاتحاد السوفيتي، الذي يستحقه بكل جدارة، إلا بعد 20 عاما من وفاته (عام 1964). وكان تعرّف القيادة السوفيتية على قضيته مجرد صدفة، إلى حد كبير، حيث شاهد نيكيتا خروشوف الفيلم الفرنسي الألماني الياباني "من أنت يا دكتور زورغه ؟" فأعجب بعمل ضابط الاستخبارات الفذ، وبعد اطلاعه على الأرشيف تأكد أنه بطل حقيقي ورجل استخبارات محترف على أعلى المستويات وقدم خدمات جليلة للاتحاد السوفيتي خلال عمله السري. وبعد ذلك كتبت عنه الصحف وأطلق اسمه على عدد كبير من الشوارع والمدارس والمكتبات وغيرها.
ومن المفارقات ،التي اتسم بها النظام الستاليني وحيّرت عقول الباحثين والمؤرخين، أنه بينما كان زورغه قابعاً في سجن سوغامو بطوكيو في انتظار الحكم بالإعدام اعتقلت سلطات الأمن السوفيتية في موسكو زوجته الثانية يكاترينا مكسيموفا بتهمة التجسس وزجتها في زنزانة منفردة 9 شهور بقبو المبنى المركزي لجهاز الأمن السري السوفيتي حيث اضطرت تحت التعذيب إلى "الاعتراف بصلاتها مع الأعداء " ونتيجة ذلك صدر بحقها حكم بالنفي لمدة خمس سنوات. وقد بُرئت من التهم الموجهة إليها وأعيد اعتبارها بعد 20 عاماً من وفاتها وذلك في 23 تشرين2/نوفمبر عام 1964.
تسنى للأمريكيين، بعد احتلالهم اليابان، الوصول إلى وثائق أجهزة المخابرات اليابانية، بما في ذلك تلك المتعلقة بريخارد زورغه ومجموعته. ولكن لم يتم حفظ هذه الوثائق بالكامل، إذ احترق بعضها أثناء الحرائق الناجمة عن إحدى أقوى الغارات الجوية الأمريكية على طوكيو في 10 آذار/مارس 1945.
وبناءً على هذه الوثائق، قام رئيس قسم الاستخبارات التابع لقوات الاحتلال الأمريكية في اليابان، اللواء ويلوبي، بإعداد تقرير وأرسله إلى واشنطن مع توصيات لاستخدامه في المدارس العسكرية لدراسة أساليب عمل الاستخبارات السوفيتية. وفي 10 شباط/فبراير عام 1949 نُشر تقرير ويلوبي في صحف طوكيو وأثار على الفور اهتماماً شديداً في جميع أنحاء العالم، باستثناء الاتحاد السوفييتي.
في آب/أغسطس عام 1951 اهتم الكونغرس الأمريكي بقضية زورغه. فخلال جلسات الاستماع جرت محاولات للبرهان على أن الاستخبارات العسكرية السوفيتية في شخص "رامزاي" ومجموعته كانت تسعى إلى توجيه النزعة العدوانية لليابان ضد الولايات المتحدة وصرفها عن انتهاك معاهدة عدم الاعتداء الموقعة مع الاتحاد السوفيتي مما أسفر، في نهاية المطاف، عن حدوث الهجوم الياباني المباغت على قاعدة بيرل هاربر البحرية الأمريكية في كانون1/ديسمبر عام 1941.
خلال العقود الماضية أخرج العديد من الأفلام السينمائية حول سيرة حياة ونشاط ريخارد زورغه وذلك في روسيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان. كما صدر في العالم الكثير من الكتب المكرسة لهذا الجاسوس الأسطورة. ففي اليابان لوحدها طبع أكثر من مئة كتاب باللغة اليابانية حول زورغه ونشاط مجموعته الاستخباراتية. وهناك تعقد جمعية زورغه ومقرها طوكيو مؤتمرات سنوية تحظى بحضور مرموق.
1125 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع