الأطماع الاستعمارية بكوردستان (الجزء الاول)

 الدكتور عبدالعزيز المفتي

الأطماع الاستعمارية بكوردستان (الجزء الاول)

أ- اهتمام الروس بالكورد يجذب الإنجليز لكوردستان

غبنت (اهملت) الجغرافية الطبيعبة لمنطقة كوردستان ابناء كوردستان الاصليين وهم ساكنين ومحشورين في منطقة جبلية وعرة (كوردستان)، والتي تقل فيها الموارد الطبيعية. كما غبنت/اهملت الجغرافية السياسية أبناء الأمة الكوردية عندما وضعتهم بين فكي كماشة القوميات المتعصبة (الفارسية والتركية والعربية) في أحيان كثيرة، لمنعها من قيام دولة كوردية مستقلة في كوردستان. وبسبب ضعف الدولة العثمانية في اواخر حكمها ، ولأسباب دينية، وأخرى قومية، أو أيدلوجية، دخلت المنطقة الجغرافية لكوردستان الدول الاستعمارية مثل روسيا وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية كأطراف مستفيدة من النزاع الإسلامي – الإسلامي لاستمالة الكورد لمصالحهم لإضعاف الأطراف التركية والفارسية والعربية مرّة وأخرى كحزام أمني لمنع الشيوعية من النفوذ إلى مناطق النفط.
هناك نزعة بين الباحثين الغربيين في وصف المناطق الكوردية/كوردستان داخل الدولة العثمانية بالإشارة إليها بمصطلحي "أرمنية" أو "كوردستان". ويبدو أن المصطلح الأول ارمنيا كان أكثر استعمالاً في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، إذ استعملت أرمينية للإشارة إلى المقاطعات ذات الأغلبية الكوردية (كوردستان) في ولايات الأناضول الشرقية (الكوردية) وبالتحديد ولاية وآن، وبتليس ومعمورة العزيز، وارضروم وسفاس ودياربكر.
أما مصطلح كوردستان فكان يستعمل في الأغلب للإشارة إلى ولاية وان، وديار بكر، في جنوب شرق الأناضول أي ولاية الموصل ذات الاغلبية الكوردية ومنها (كوردستان العراق)، ولكن في النصف الثاني من القرن الماضي كونت الدولة العثمانية ولاية سميت بـ (كوردستان) وشملت معظم الولايات ذات الغالبية الكوردية في جنوب شرق أناضول (كوردستان تركيا).
فمنطقة كوردستان تشمل أيضاً المنطقة الممتدة بين جبال طوروس الممتدة من "أدنة" إلى الحدود التركية الإيرانية غرب بحرية أورمية، ومعظم الأقضية والنواحي الواقعة في شرق أرضروم تسكنها غالبية كوردية. وأخيراً تكون بلاد الكورد أيضاً شريطاً ضيقاً داخل جمهورية أذربيجان وأرمينيا لامتداد الحدود التركية بين هاتين الدولتين( ).
قد يكون هناك نوع من الإجماع بين المستشرقين والمؤرخين والجغرافيين على اعتبار المنطقة الجبلية الواقعة في شمال الشرق الأوسط بمحاذاة جبال زاكروس وجبال طورس الكوردية وهي المنطقة الجغرافية لكوردستان التي سكن فيها الأكراد منذ القدم. يطلق الأكراد تسمية كوردستان على هذه المنطقة الجغرافية من اراضيها التي هي عبارة عن أجزاء من شمال العراق (كوردستان العراق_ولاية الموصل_)، وشمال غرب إيران (كوردستان ايران)، وشمال شرق سوريا(كوردستان سوريا) وجنوب شرق تركيا (كوردستان تركيا)( ). ويظهر من هذا أن الكورد يسكنون معظم الحدود التركية ـ الإيرانية، والحدود التركية مع روسيا، والحدود العراقية-الايرانية-التركية-السورية إن هذا الموقع الجغرافي لمنطقة كوردستان أعطاهم أهمية سياسية في صراع الدولة العثمانية مع كل من روسيا وإيران.وبعدها مع الغرب الاوربي.
امتاز الحكم العثماني في كوردستان في الفترة الممتدة بين القرن السادس عشر والثامن عشر بوجود الإمارات الكوردية المستقلة، وكان الأمراء الكورد يحكمون هذه الإمارات الكوردية حكماً مستقلاً في أمورهم الداخلية وبطريقة وراثية ولكن السلطان العثماني محمود الثاني، وتحت تأثير مستشاريه الغربيين وضمن خطة الإصلاحات، قام بالقضاء على تلك الإمارات الكوردية، ووضع إدارة مركزية عثمانية (معظم عناصرها من الموظفين الترك) محلها، كما ساهمت التنظيمات (الإصلاحات على الطراز الغربي) التي طبقت في الدولة العثمانية في الفترة (1839 – 1876) في تثبيت مركزية الدولة والقضاء على سلطة القيادات الكوردية التقليدية. وهو ما ولّد فراغاً أمنياً، حيث لم يتمكن الموظفون الأتراك والجندرمة (قوة الشرطة العثمانية) وبسبب الفساد المتفشي بينهم وجهلهم إدارياً وسياسياً بالواقع الكوردي و(منطقة كوردستان)، ومن حكم المنطقة الكوردية حكماً سليماً أضف إلى ذلك عدم معرفة خصوصية كوردستان، التي لم تعرف حكم الإدارة المركزية الحكومية العثمانية فيها من قبل ولم تستغله؛ لذلك عاشت المنطقة الكوردية كوردستان فراغاً أمنياً، فكثرت فيها حوادث السلب والنهب والمعارك بين القبائل الكوردية أنفسهم، وبين الكورد والأرمن الذين كانوا يسيطرون على جزء غير يسير من تجارة المنطقة الكوردية كوردستان كما ازداد ظلم طبقة الآغوات (رؤساء العشائر) الكوردية واستغلالهم للفلاحين وعامة الناس من الكورد.
ولم يكن أمام عامة الكورد من سبيل أو ملاذ يلجأون إليه في مثل تلك الظروف الصعبة غير شيوخ الطرق الصوفية المنتشرة في تلك الفترة انتشاراً كبيراً في المنطقة (كوردستان)، خاصة طريقتي النقشبندية والقادرية. وبذلك بدأ شيوخ الطرق الصوفية يمارسون نفوذاً سياسياً، فكانوا يحظون بسطوة عند رؤساء العشائر الكوردية فضلاً عن سلطتهم الروحية، فكانت التكايا مراكز الدعوة الصوفية، تؤدي دوراً مركزياً في حياة الكورد. وكان شيوخ الطرق الصوفية يدافعون عن مصالح الفلاحين ويحاولون الحد من استغلال الآغوات الكورد واستبدادهم فأصبحوا محط أنظار الكورد بسبب دفاعهم عن مصالحهم عند الحكومة العثمانية وعند الإدارة في المنطقة الكوردية كوردستان التي كانت تحاول فرض الضرائب التي ترهق كاهل الفلاحين وتفرض الخدمة الإلزامية على الكورد بالقوة( ).
إن هذا العرض الموجز للمجتمع الكوردي في كوردستان في القرن التاسع عشر يبين لنا حقيقتين أساسيتين:
أولهما: كان عامة الكورد وخاصة قيادتها التقليدية غير راضية عن الحكم العثماني، وذلك لقيام الأخير (العثماني) بالقضاء على النظام الخاص الذي كان سائداً في كوردستان لقرون عديدة، وفرضها بالقوة على الكورد إدارة عثمانية وتركية غير كفوءة وغير نزيهة.
ثانيهما: إن ضعف الإدارة العثمانية وحالة فقدان الأمن في كوردستان، وانتشار الظلم انتشاراً واسعاً، والذي كان يمارسهُ الموظفون والشرطة العثمانية التركية أو آغوات الكورد قد هيأت الأرضية الصالحة لظهور الطرق الصوفية وشيوخها واعتبارها ملاذاً وطمأنينة للكورد المغلوبين على أمرهم.
وكان لهذين العاملين اعلاه دور كبير في التأثير على الموقف الكردي في كوردستان أثناء صراع الدولة العثمانية مع روسيا، كما سنتبين فيما يأتي:


ب- الكورد في الحرب الروسية - العثمانية (1828 – 1880)
إن اهتمام الروس بالكورد وكوردستان يعود إلى بداية القرن السابع عشر، ولأسباب عدة كان في مقدمتها خطة القياصرة الروس في التوسع داخل ممتلكات الدولة العثمانية والفارسية (إيران). وإن قصة هذا الاهتمام وردت، وبشكل تفصيلي، في كتاب (كوردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى) لمؤلفه البروفيسور الدكتور (كمال مظهر)، طبع ببغداد عام 1984م، وكتاب (الرحالة الروس) لمؤلفـــه (ب. م. دانتسيغ) ترجمة وتحقيق الدكتور معروف خه زندار عام 1981. ومن الجدير بالذكر أن الرحالة والدبلوماسيين والكتاب الروس تركوا العديد من الدراسات الاجتماعية والسياسية، التي وضعتهم في مقدمة المهتمين بالدراسات الكوردية في كوردستان. ويكفي أن نشير هنا إلى أن (فلاديمير مينورسكي) والباحث الروسي (لازاريف) و(ايفانون) يعدون من شيوخ المستشرقين في الدراسات الكوردية في كوردستان.
ولكن اهتمام الروس بالكورد وكوردستان ازداد في مطلع القرن العشرين، وذلك لأن المكاسب الاستعمارية التي حققوها داخل الدولة العثمانية والفارسية إيران قد وضعتهم في حدود مباشرة وتماس مع الدولة العثمانية، خاصة في أناضول الشرقية، (كوردستان) إذ تقطن فيها أغلبية كوردية على الحدود الدولتين.
ففي عام 1826 أقدم السلطان العثماني محمود الثاني، وبنصيحة من مستشاريه الأجانب الغربيين في البلاط العثماني، على ارتكاب مذبحة بحق الجيش الإنكشاري (الجيش التقليدي العثماني) عام 1826م، وكان لذلك الإجراء أبعاد مدمرة، للعثمانيين في حينها لأن هذا التصرف جاء قبل أوانه أي قبل أن يقوم السلطان العثماني محمود الثاني بإعداد الجيش العثماني العصري البديل. وهذا ما أدى إلى وجود فراغ عسكري على الحدود الروسية - العثمانية. وحدث ذلك عملياً، ففي معركة (نقارينا) في اليونان عام 1827 دمرت القوات المشتركة البريطانية والفرنسية الأسطول العثماني مع أسطول محمد علي باشا والي مصر وادى ذلك الى اخلاء الطريق والسبيل. أمام القوات الروسية للتقدم داخل الدولة العثمانية حيث استطاعت خلال السنتين 1827، 1828م من السيطرة ـ وبدون مقاومة تذكر ـ على معظم المدن الكوردية المهمة في شرق أناضول (كوردستان تركيا) وخاصة مدن قارص، وأرضروم وبايزيد.
يبدو أن القوات الروسية لم تلق أي مقاومة حتى من القبائل الكوردية في كوردستان التي تميزت بموقفها الحيادي من القوات الروسية القليلة العدد، والتي دخلت المناطق الكوردية كوردستان الجبلية الحصينة والوديان العميقة، ويعزو الباحثون والمؤرخين الى موقف الكورد هذا إلى جهود الأمير (غراف باسكوفيج) نائب الملك الروسي في القفقاس والقائد الأعلى للقوات الروسية هناك، إذ وضع غراف باسكوفيج خطة لاحتلال أناضول الشرقية بعض (المناطق الكوردية من كوردستان) وضمها إلى الإمبراطورية الروسية. وكان ضمن تفاصيل هذه الخطة إعطاء اهتمام كبير للقبائل الكوردية الحدودية ومحاولة دراسة أحوالهم اجتماعياً وسياسياً، وكسب ودهم (الكورد) هناك عن طريق عقد تحالفات ثنائية دفاعية بينهم. وذلك عن طريق إعطاء المناصب الفخرية والهدايا والنقود لرؤساء العشائر الكوردية المتنفذة، ومعاقبة بعضهم معاقبة شديدة وحرق قراهم وسلب ممتلكاتهم ونهبها ليكونوا عبرة لغيرهم. وكان لغراف باسكوفيج هذا معرفة جيدة بالمجتمع القبلي الكوردي إذ حاول استغلال التناقضات الكوردية العثمانية لصالح دولته روسيا؛ وفي برقية له في تشرين الأول من عام 1829م كتب غراف باسكوفيج ما يلي: "إذا لم نستطع أن نكسب ود الكورد فإن كل مكاسبنا في المعارك الجارية ستتعرض للخطر. إن هذا الشعب الشجاع يملك خيرة مقاتلي الشرق، وإن بإمكانهم أن يقطعوا خطوط اتصال قواتنا الخلفية، ويمكن أن يهاجمونا من جميع الجهات وإلحاق أفدح الخسائر بقواتنا"( ).
ولكن العامل الهام الذي مكن غراف باسكوفيج من بناء شبكة من الصلات الوثيقة مع رؤساء العشائر الكوردية القوية على الحدود (منطقة كوردستان)، هي كانت سياسة السلطان العثماني محمود الثاني مع رؤساء الإمارات الكردية (18) إمارة كوردية. تلك السياسة التي أرادها السلطان العثماني محمود الثاني لقهر الرموز الكوردية. فيما استطاع (غراف باسكوفيج) إقامة علاقات مع هؤلاء الرموز الكوردية ووعدهم بأنه في حالة تمردهم على الدولة العثمانية وقبولهم السلطة الروسية فإن الامتيازات السابقة( ) واكثر منها ستعاد لهم.
ويبدو أن غراف باسكوفيج كان واثقاً من صلاته القوية مع رؤساء العشائر الكوردية الحدودية في كوردستان؛ لذلك أراد في عام 1828 أي بعد بدء العمليات الحربية بتشكيل قوة من المرتزقة الكورد الموالين للروس قوامها عشرة آلاف فارس. كان هذا المقترح من قبل (علي القصير) الذي سرعان ما وافقوه على تشكيل تلك القوة من المرتزقة الكورد مقابل صرف مائة ألف قطعة ذهبية لتغطية مصروفات تلك القوة الكوردية المشكلة( ).
غير أن تشكيل تلك القوة الكوردية الموالية لروسيا بإشراف (غراف باسكوفيج) لم تتحقق لأسباب عديدة؛ يعود العامل الأول في فشل ذلك المشروع اإلى وجود قناعات غير عملية وموضوعية عند (غراف باسكوفيج)، حول مدى التأييد الذي كان يحضى به الروس، وخاصة شخصه، مع رؤساء العشائر الكوردية؛ هذا من جانب ومن جانب آخر، العامل الثاني فعلى الرغم من الوعود العديدة التي قطعها رؤساء الكورد (لغراف باسكوفيج)، أنهم (الكورد) لم يقدموا على التمرد العلني ضد الدولة العثمانية المسلمة، وأن كثيراً من الكورد احتفظوا بعلاقات ودية مع الطرفين (العثماني والروسي). وكان موقف رؤساء العشائر الكوردية في أثناء (النزاعات) (وكما سنرى في الحروب القادمة) موقفاً براغماتياً، يتلخص بمراقبة الأوضاع في البداية، ثم الانحياز الكلي إلى جانب المنتصر( ).
إن سبب هذا الموقف البراغماتي للكورد هو حصيلة التجارب المريرة التي تعلمها الكرد من أمراء خانات آسيا الوسطى، خيوه، مرو، بخارى في القرن الثامن عشر، وكذلك في أثناء الحروب الصفوية (إيران) والعثمانية. إلا أن الأمير (غراف باسكوفيج) يقدم سبباً آخر لفشل مشروعه، السابق الذكر، في تأسيس القوة الكوردية الموالية للروس (المرتزقة الكورد). إذ يعتقد أن مؤامرات الدبلوماسيين الغربيين ودسائسهم، وخاصة الإنجليز والفرنسيين، وعلاقاتهم مع الكرد هي التي حالت دون إقدام الكورد على الانخراط في القوة التي أراد الروس تشكيلها. ويذهب (غراف باسكوفيج) إلى القول إن هؤلاء الدبلوماسيين الغربيين قاموا بمساع مكثفة لإقناع الرموز الكردية بأن الروس سينسحبون من المنطقة الكردية، وأن السلطات العثمانية ستعود إلى المنطقة الكوردية ، وستحاسب بشدة كل المتعاونين الكورد مع الروس( ).
لم تكن جهود الأمير (غراف باسكوفيج) بين الكورد دون ثمار، بل استطاع الروس تشكيل قوة كوردية موالية لهم في (يريفان)، وكان معظم أفراد هذه القوة من الكورد اليزيديين الحاقدين على الدولة العثمانية. وكان لهذا الفوج الكوردي اليزيدي له دور واضح في المعارك التي دارت في المنطقة الحدودية كوردستان. كما أن الروس أفلحوا في فرض الحياد على معظم القبائل الكوردية. كما أن نداءات السلطات العثمانية المتكررة للكورد لمقاومة الروس الغزاة وطردهم من كوردستان ولكن ذلك لم تؤد إلى اندفاع الكورد بشكل ملحوظ وملموس لمساعدة القوات العثمانية أثناء العمليات الحربية( ). ويكفي هنا أن نشير إلى أن قوة روسية صغيرة استطاعت في تموز عام 1828 أن تدخل مدينة بايزيد على مرأى ومسمع القوات الكوردية التي لم تكن تقل عن ألفي فارس كوردي، ولم تقاوم الاحتلال الروسي. والسبب هو عدم ثقتهم بالعثمانيين.
إن ما حدث في (بايزيد) كان مثالاً حياً لما حدث في معظم المناطق الكردية (كوردستان) ويوجز (ت. والن) و(ب. مولتيف) الموقف الكوردي من الحرب الروسية ـ العثمانية (1828 – 1829م) تكمن في الفقرة الآتية:
"رغم أن الكورد بصورة عامة بقوا عاملاً غير موثوق به طيلة الحرب إلا أن حيادهم أعطى الأمير غراف باسكوفيج الفائدة التي حظي بها (نابير) لغزوه الحبشة (أثيوبيا) بعد أربعين سنة. حيث نرى أن في كلتا الحالتين استطاعت قوة احتلال صغيرة الحجم، نسبياً، أن تدخل عمق أراضي العدو بعد أن ضمنت حياد القبائل الذي كان من الممكن أن يشكل خطورة كبيرة عليها"( ).

ج- جهد إنجليزي لإجهاض ثورات وانتفاضات الكورد في كوردستان
إن الانتفاضات الكوردية في كوردستان التي حدثت في النصف الأول من القرن التاسع عشر توضح لنا جانباً آخر من الصراع العثماني - الروسي، وكيف أن الصراع الروسي ـ البريطاني أثر في هذه الانتفاضات الكوردية في كوردستان بطريقة سلبية.
كانت انتفاضة الأمير السوراني ميركيور (محمد باشا الراوندوزي) بين (1832–1836م) في كردستان ـ العراق تحدياً كبيراً للدولة العثمانية، إذ أراد الأمير السوراني ميركيور (محمد باشا الرواندوزي) أن يوحد الكرد جميعهم داخل الدولة العثمانية لضمان حكمه. وكان (ميركيور) محمد باشا الراوندوزي رجلاً سياسياً وعسكرياً ومصلحاً من الطراز الفريد في القرن التاسع عشر. وتعد انتفاضته أول انتفاضة كوردية في التاريخ المعاصر(1832-1836)، استهدفت جمع شمل الكورد في دولة كوردية مستقلة. (كوردستان) وهناك العديد من الدراسات التي تناولت مختلف جوانب هذه الانتفاضة، الكوردية (ثورة راوندوز) وأسباب إخفاقها. وفي هذا الحديث أردنا أن نجلب للقارئ المساعي البريطانية الحثيثة التي ساعدت الدولة العثمانية على قمع الانتفاضة (راوندوز) الكوردية. ولما بدأت الانتفاضة الكوردية (راوندوز) تهدد الدولة العثمانية باستقلال الأجزاء الكوردية كوردستان منها، بدأ الدبلوماسيون الإنجليز بنشاط محموم، وعلى مستويات عدة، لإنهاء هذه الانتفاضة الكوردية التي تدعو إلى الاستقلال (كوردستان). إذ كان المقيم البريطاني في بغداد (دبليو تايلر) و(آ. بوسبو) السفير البريطاني في استنبول يرسلان العديد من البرقيات، إلى القناصل البريطانية للاتصال بقادة وزعماء الكورد وإقناعهم بعدم تأييد جهود الامير السوراني (ميركيور) محمد باشا الراوندوزي في تحقيق استقلال كردستان. كما عمل على ذلك (الكابتن شيل)، والقنصل البريطاني في أورمية اللذان قد كلفا بمهمة التنسيق بين القوات الإيرانية والعثمانية، وذلك لتوجيه ضربة مشتركة إلى قوات الامير السوراني (ميركور) محمد باشا الرازندوزي، لإجباره على تسليم نفسه للسلطات العثمانية، مقابل ضمان حياته. وعندما صدق الأمير السوراني (ميركيور) الوعود البريطانية، سلم نفسه لرشيد باشا قائد القوات العثمانية المكلف بإنهاء الانتفاضة الكوردية وانتهت الانتفاضة الكوردية بالخدعة البريطانية( ).
كما أن انتفاضة الأمير الكوردي بدرخان بين 1842 – 1847 (امير امارة بوتان) في شرق الأناضول (كوردستان تركيا) مثال آخر، يبين كيف إن الصراع الروسي – البريطاني (يأخذ مداه لاستمالة سلاطين الدولة العثمانية ضد الكورد نكاية بالروس الطامعين بمناطق كوردستان. لقد كانت لهذه الانتفاضة للامير بدرخان أسباب إقليمية ومحلية، كما أن هناك عوامل ذاتية، أدت أخيراً لإخفاقها، والتي تناولتها العديد من الدراسات الحديثة. إلا أن المهم لنا نحن الكورد معرفة البعد الدولي وتأثيره على الكورد وبالتحديد الصراع البريطاني - الروسي.
كان قائد انتفاضة بدرخان باشا وهو أميراً لإمارة بوتان، واستطاع - بفضل شخصيته القوية، واستقامته، وتقواه - أن يفرض قيادته على معظم رؤساء الإمارات والقبائل الكوردية، فأراد بدرخان باشا أن يقود الكورد في محاولة لتحدي السلطان العثماني، الذي حاول فرض الإصلاحات الغربية في كوردستان باسم التنظيمات. وفي عام 1847م دخلت الانتفاضة الكردية مرحلة، انضوت إليها معظم القبائل الكوردية داخل الدولة العثمانية وإيران (كوردستان). ويبدو من التقارير التي أرسلها المسؤولون الإنجليز - داخل الدولة العثمانية - أن الحكومة البريطانية (وزارة الخارجية) كانت قلقة جداً من تبعات هذه الانتفاضة الكوردية (ثورة بدرخان باشا امير امارة بوتان. إذ كان الدبلوماسيون الإنجليز يعتقدون أن الروس يقفون خلف هذه الانتفاضة الكوردية، ذلك حين صرّح أحدهم عن هذا القلق بالقول: إنه في حالة نجاح انتفاضة بدرخان باشا امير امارة بوتان ستحرم الدولة العثمانية من (76) فوجاً من أفواج الفرسان الكورد الذين يشكلون عماد القوات العثمانية في مواجهة الروس( ).
ومن أجل الحيلولة دون حصول ذلك، وحرصاً على وحدة الدولة العثمانية وعدم تفككها أوعز الإنجليز إلى الدبلوماسيين في مواقع الأحداث، بتقديم كل أنواع المساعدات الممكنة للدولة العثمانية، لإنهاء التمرد الكوردي بقيادة بدرخان باشا. حيث أخذ المدعو (نمرود رسام) مساعد القنصل البريطاني في الموصل على عاتقه دعم الدولة العثمانية،لإنهاء الانتفاضة الكوردية، وقام نمرود الرسام بدعوة (المار شمعون) الذي كان الرئيس الدنيوي والروحي للطائفة المسيحية الشرقية المسماة بـ "السريان أو النسطوريين) أو الآشوريين أو الآثوريين الذين كانوا يسكنون في منطقة حكاري - في وقتها وكانت تابعة لنفوذ بدرخان باشا- وطلب (نمرود الرسام) من (المار شمعون) عدم إطاعة بدرخان باشا، وإيجاد مشاكل بين المسلمين والمسيحيين حتى تتاح الفرصة للدولة العثمانية والدول الغربية فرصة التدخل في أمور كوردستان بحجة حماية المسيحيين.
وكان المار شمعون أداة طيعية بيد نمرود الرسام، فبدأ بإشعال الفتنة بين الآثوريين والكورد، وتمرد هو (مار شمعون) على سلطة بدرخان. وحين قام الأخير (بدر خان باشا) بحملة تأديبية ضد المار شمعون وأنصاره، بدأ (نمرود رسام) بكتابة تقارير مضخمة عن الوضع في حكاري و(كوردستان)، وعن ضحايا الآشوريين (الآثوريين) المسيحيين، لكسب الرأي العام الغربي، ولممارسة الضغط على الدولة العثمانية، لإنهاء الانتفاضة الكوردية بالقوة. ونتيجة لهذه الحملة الإعلامية أرسلت كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا مذكرة إلى السلطان العثماني، يطلبون فيها قمع انتفاضة بدرخان باشا، وإلا فإن الدول الغربية سوف تتدخل لإيقاف ما أسموه بـ "مذابح المسيحيين"؛ ولتفادي شرور وجود قوات أوروبية، عمدت الدولة العثمانية على إنهاء الانتفاضة (بدرخان باشا)الكوردية( ).
إن انتفاضة بدرخان باشا أجهضت بفضل الدور البريطاني، وكان ذلك جزءاً من الصراع الروسي - البريطاني داخل الدولة العثمانية. كما أن هذه الانتفاضة الكوردية (بدر خان باشا) تبين لنا أن الصراع الروسي - العثماني كان له بعد ثالث هو الدور البريطاني، وأن دور الكورد الوطني في هذا الصراع قد تأثر بوجود أقلية مسيحية، عرف الإنجليز كيف يستثمروها بالنيابة عن إرسال قوة إلى منطقة كوردستان.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1122 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع