الهجرة النبوية الشريفة وقصتها

الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل

الهجرة النبوية الشريفة وقصتها

تمثل الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حدثًا تاريخيًا عظيمًا، وكانت الهجرة نقطة انطلاق الدولة الإسلامية وانتشار الإسلام بعد أن كان محصورًا بين شعاب مكة المكرمة.

لقد كانت الهجرة تعني مغادرةُ الأرض والأهل والتَّخلِّي عن كلِّ شيء من أجل العقيدة. وقد نوّه القرآن الكريم بالهجرة، مشيرا إلى أنَّ أرض الله واسعةٌ: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10).

فبعد أن أخذت الدعوة الإسلامية تنتشر في مكة، أخذ اضطهاد قريش للمسلمين يزداد، فكانت الهجرة الى الحبشة على دفعتين: الدفعة الأولى في السنة الخامسة من البعثة، وكان عدد المهاجرين 15، حيث خرجوا من مكة متسللين الى ميناء (الشيبة) على البحر الأحمر، وهيأ الله لهم سفينتين للتجار أقلعتا وقت وصولهم، فحملوهم معهم الى أرض الحبشة.

ثم كانت هجرة الدفعة الثانية من الهجرة إلى الحبشة، وكان عدد المهاجرين 83 من كبار الصحابة برئاسة جعفر بن أبي طالب (ر).

لقد اغتاظ كفار قريش من هجرة المسلمين للحبشة، وبعثوا وفدا رفيع المستوى الى النجاشي، ومعه الهدايا الثمينة لرشوة النجاشي وحاشيته وبطارقته، ولكن جهود قريش لم تفلح، وبقى المهاجرين في الحبشة معززين مُكرمين.

وفي مكة اشتد أذى قريش على المسلمين بعد أن أخذت رقعة الإسلام تتسع، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يستغل مواسم الحج في الدعوة إلى الله عز وجل ويقول: من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؛ فيُقابل بالسخرية والاستهزاء من قومه.

لقد عرض النبي الإسلام على بعض الحجاج في منى، فأسلم منهم ستة رجال من أهل يثرب. وفي العام الذي يليه قدم هؤلاء إلى الحج مع قومهم، وكانوا اثني عشر رجلًا من الأوس والخزرج، فأسلموا وبايعوا النبي على الإسلام، فكانت بيعة العقبة الأولى، وبعث النبي (صلى الله عليه وسلم) مصعب بن عمير معهم يُقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام.

لقد جرت بين النبي ومسلمي يثرب اتصالات سرية، أدت إلى اتفاق الفريقين على الاجتماع في أوسط أيام التشريق في الشعب عند العقبة في منى، على أن يكون في ظلام الليل وفي سرية تامة.

وفي موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة سنة 622م قصد مشركو أهل يثرب مكة المكرمة لأداء مناسك الحج وحضر معهم بضعٌ وسبعون شخصًا من مسلمي أهل يثرب، وكانوا يتساءلون فيما بينهم: حتى متى نترك رسول الله يُطرد في جبال مكة؟

ولما أقبل الليل، وهدأت العيون، ومضى ثلثه الأول خرج المسلمون من رحالهم متسللين مستخفين إلى المكان المتفق عليه، وأقبل النبي عليهم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه، ومع كونه على الكفر إلا أنّه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له.

لقد استفتح العباس هذه المباحثات مبينًا منعة ابن أخيه في بلده، وعزه من قومه؛ ليرى مدى قدرة الأنصار على حماية النبي (صلى الله عليه وسلم)، وبعدها رد عليه الأنصار في غاية الأدب واللطف طالبين من النبي كلامه.

وبدأ النبي كلامه بتلاوة القرآن ثم رغّبهم في الإسلام وقال: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم). فكان أوّل مَن ضرب يد النبي لبيعته هو البراء بن معور ثم بايع القوم من بعده، فكانت بيعة العقبة الثانية (بيعة العقبة الكبرى). وكانت هذه البيعة من مقدمات هجرة النبي والمسلمين إلى يثرب التي سُميت فيما بعد بالمدينة المنورة.

وبعد نجاح بيعة العقبة الثانية، أذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للمسلمين بالهجرة إلى يثرب، وخرج الناس أرسالًا يتبع بعضهم بعضًا. ولما هاجر صُهَيْب بن سِنان الرومى، رفض كفار قريش‏ أن يخرج بماله، فترك لهم ماله، وانطلق إلى المدينة. ولما علم النبي قال‏:‏ ‏ربح صهيب، ربح صهيب‏.‏

بعد شهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبرى، لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله وأبو بكر وعلي ومن احتبسه المشركون كرهًا.

الهجرة المباركة:
في 26 صفر سنة 14 من البعثة، عقد كبار مشركي قريش اجتماعاً في ‏دار الندوة‏، وقرروا قتل النبي بعد منتصف الليل، واختير لذلك 11 شخصا من قبائل متفرقة ليتفرق دمه بين القبائل.

نزل جبريل (عليه السلام) إلى النبي يخبره الخبر ويطلب منه الهجرة من فوره، ولا يبيت في فراشه، فخرج النبي وقت الظهيرة متخفياً إلى بيت أبي بكر ليرتب معه خطة الخروج ليلاً.

أمر النبي على بن أبي طالب أن ينام مكانه في تلك الليلة‏، وفي عتمة الليل، وقد وقف مجرمو قريش أمام باب بيت النبي يرصدونه، وهم يظنونه نائمًا ومنتظرين خروجه حتى يثبوا عليه‏.‏

أخذ الله بأبصار المشركين فلم يروا النبي الذي خرج أمامهم ورمى عليهم التراب، ثم أسرع نحو بيت أبي بكر، لينطلقا سوياً نحو غار ثور في اتجاه اليمين (عكس اتجاه المدينة).

جاء رجل وأخبر المشركين أن محمد مر من بينهم، فضربوا علي بن أبي طالب وحبسوه ساعة، وهرولوا إلى بيت أبي بكر ولطموا ابنته أسماء لأنهم لم يُخبروا عن مكان النبي وصاحبه.

راح المشركون يبحثون في كل أرجاء ونواحي مكة وما حولها ورصدوا مكافأة كبيرة لمن يحضر محمد حياً أو ميتاً.

 

أوى النبي محمد (ﷺ) وأبو بكر الصديق في غار ثور وهما في طريقهما إلى يثرب، وفي أثناء وجودهما في الغار جاءت قريش تبحث عنهما، حتى وقفت على فم الغار، إلا أن الله ردها بفضله وقدرته.

قال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال له النبي (ﷺ): (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما). وقد ذكر الله هذا الحادثة في كتابه فقال سبحانه: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).

مكث النبي وأبا بكر في الغار 3 ليال، يأتي إليهما عبد الله بن أبي بكر ينقل لهما الأخبار، ويسير خلفه عامر بن فهيرة بغنمه ليمحي أثره، ويسقي الصاحبان باللبن.

في غرة ربيع الأول سنة 1هـ استعد النبي وأبو بكر للانطلاق نحو المدينة، وقد استأجرا عبد الله بن أُرَيْقِط دليلا للطريق، وكان على دين قريش. وجاء ابن أريقط براحلتين لهما، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بالطعام وربطته بشق حزامها.

ثم ارتحل النبي وأبو بكر ومعهما ابن فُهَيْرة، وابن أريقط، واتجه جنوبا ثم غربا نحو البحر الأحمر ومنه شمالا في اتجاه المدينة عبر طريق لم يألفه الناس‏.‏

مروا في الطريق على خيمة أم مَعْبَد الخزاعية، وسألوها عن شيء يطعمانه، فلم يجدوا، فأستأذنها النبي (ﷺ) أن يحلب شاة هزيلة ليس فيها لبن، فإذا بها تدر وتملأ الأوعية فشربوا جميعا وانصرفوا.

ورأى أحد رجال مكة ركب النبي بالساحل، فأخبر مكة، وأسرع سراقة بن مالك بفرسه ورمحه ليلحق بهم، لكن فرسه كانت تغوص في الرمال وتقع كلما اقترب من النبي، فطلب من النبي الأمان، فأمنه النبي وقال له: ارجع ولك سواري كسرى.

وفي الطريق لقى رسول الله الزبير وهو عائد مع ركب من المسلمين من تجارة في الشام، فكسا الزبير النبي وأبا بكر ثيابًا بياضًا‏.‏

في 8 ربيع الأول وصل النبي قباء، وزحف المسلمون مكبرين بمقدم رسول الله، وخرجوا للقائه، وكان يومًا مشهودًا. كما وصل علي بن أبي طالب بعد أن أدى عن رسول الله الودائع التي كانت عنده للناس‏.‏

مكث النبي بقباء 4 أيام، أسس خلالها أول مسجد في الإسلام (مسجد قباء)، وأرسل النبي إلى أخواله بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم يحرسونه، فسار نحو المدينة وهم حوله‏.‏

دخول المدينة:
سار النبي (ﷺ) حتى دخل المدينة يوم الجمعة ‏12 ربيع الأول سنة 1 هـ، فارتجت البيوت والسكك بأصوات الحمد والتسبيح والتكبير: الله أكبر جاء رسول الله، وبالهتاف باسمه الشريف، وصعد الرجال والنساء فوق البيوت.

وسارت راحلة النبي حتى بركت في موضع محدد بأمر الله، فبنى النبي والصحابة المسجد النبوي في ذلك الموضع، وهو ملاصق له بيت النبي.

وبادر أبو أيوب الأنصاري واستضاف النبي في بيته لحين الانتهاء من بناء المسجد والبيت. وبعد أيام وصل المدينة أغلب بقية أهل النبي وأهل أبي بكر.

ومن أول أعمال النبي (ﷺ) في المدينة المنورة مؤاخاة المسلمين ومعاهدة اليهود. فقد جمع النبي المهاجرين والأنصار وآخى بينهم على المواساة، والورث (قبل أن ينزل الأمر برد التوارث إلى الأرحام).‏

وعقد رسول الله معاهدة لوحدة المسلمين (من قريش ويثرب)، وأنهم أمة واحدة. وعقد مع اليهود معاهدة قرر لهم فيها النصح والخير، وترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال.

لقد تعلقت قلوب أهل المدينة بحب رسول الله (ﷺ)، وكانت جواري بني النجارِ تُنشد:

نحنُ جواري من بني النجارِ ... يا حبّذا محمّدٌ من جارِ

لقد عاش المهاجرون والأنصار إخوة متحابون في الله ليبدؤوا بكتابة تاريخ الإسلام المجيد ويوصلون رسالته الخالدة إلى البشرية جمعاء.

طلع الـبدر عليـنا ... مـن ثنيـات الوداع
وجب الشكـر عليـنا ... مـا دعــــا لله داع
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطـاع
جئت شرفت المديـنة ... مرحباً يـا خير داع
وكل عام وأنتم بخير.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1041 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع