د. جابر ابي جابر
رواية باسترناك "الدكتور جيفاغو" والصراع الإيديولوجي
ولد بوريس باسترناك يوم 29 كانون/ يناير2 (10 شباط/ فبراير) عام 1890 في أسرة يهودية مثقفة حيث كان والده ليونيد رساماً وعضواً في أكاديمية الفنون ببطرسبورغ. أما والدته روزاليا كوفمان فقد كانت عازفة بيانو معروفة. وقبل ميلاده بعام واحد انتقلت أسرته من أوديسا إلى موسكو وسكنت وسط المدينة في شارع تفرسكايا. كانت أسرة باسترناك تعقد علاقات صداقة مع العديد من كبار الفنانين والأدباء والموسيقيين من بينهم الكاتب العالمي ليو ( ليف) تولستوي ومشاهير الرسامين مثل اسحاق ليفيتان وميخائيل نستروف وسيرغي إيفانوف وكانت تنظم في منزلها حفلات موسيقية يشارك فيها أشهر المؤلفين الموسيقيين مثل ألكسندر سكريابين وسيرغي رحمانينوف بالإضافة إلى ربة البيت البارعة في العزف على البيانو. وقد كان تولستوي يحب دائماً الاستماع إلى عزفها.
قبل إنهاء المدرسة الثانوية وحصوله على الميدالية الذهبية لتفوقه في الدراسة مارس بوريس الموسيقى حيث درس على أيدي كبار المربين من أجل التحضير للإنتساب إلى المهعد الموسيقي العالي. ولكن رغم حبّه الجامح للموسيقى فإنه كان يشكو من انعدام الأذن الموسيقية لديه مما دفعه إلى الالتحاق بكلية الآداب في جامعة موسكو (قسم الفلسفة) عام 1909.
تخرج باسترناك من الجامعة في عام 1913. وخلال دراسته الجامعية أمضى أحد فصول الصيف في ألمانيا للاستماع إلى محاضرات البروفسور جرمان كوهين في جامعة ماربورغ حول المدرسة الكانطية الجديدة، ولكن سرعان ما فتر اهتمامه بالفلسفة. وبعد تخرجه من الجامعة أخذ يرتاد بعض الحلقات الأدبية. وفي عام 1914 انضم إلى جماعة المدرسة المستقبلية"سنتروفوغا". وفي الوقت نفسه تعرف على الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي أحد مؤسسي هذه المدرسة، الذي تأثر بشخصيته وبشعره إلى حد كبير. وفي العشرينات أقام علاقات مع المجموعة الإبداعية " جبهة الفن اليسارية" (اختصاراً "ليف")، ولكنه عموماً اتخذ بعد ثورة أكتوبر موقفاً مستقلاً دون الالتحاق بأي مجموعة أدبية.
نشر باسترناك أول أشعاره في ديوان"ليريكا" وذلك عام 1913 . وفي أواخر العام نفسه صدر له المجموعة الشعرية الأخرى بعنوان" توأم في الغيوم". وفي عام 1916 نشر ديوان " فوق الحواجز". وفي عام 1921 قررت أسرته الذهاب إلى ألمانيا ليتلقى والده العلاج هناك. وقد ساعدهم في الحصول على الموافقة بمغادرة روسيا السوفيتية وزير المعارف آنذاك أناتولي لوناتشارسكي. استقرت الأسرة في برلين، ولكن بعد إجراء عملية جراحية للأب بنجاح لم يرغب أحد منهم بالعودة إلى روسيا. وعندما جاء النازيون إلى السلطة في ألمانيا انتقلت العائلة إلى لندن. وبعد زواج باسترناك من الرسامة يفغينيا لوريه أمضى عند أهله عدة أشهر خلال العامين 1922-1923. وقد نشر في خريف عام 1922 مجموعة بعنوان" أختي هي الحياة". وفي تلك الفترة بدأ بمراسلة المهاجرين الروس وخاصة الشاعرة مارينا تسفيتايفا بالإضافة إلى صديق عائلته الشاعر النمساوي ماريا ريلكه.
وخلال نشاطه ضمن مجموعة (ليف) صدر له ديوان شعر بعنوان" موضوعات واختلافات"( 1923) ثم بدأ يعمل على تأليف الرواية الشعرية " سبكتورسكي"، التي جلبت له الشهرة. وهي تقريباً سيرة ذاتية للمؤلف. وقد شهدت نهاية العشرينات ومطلع الثلاثينات فترة الاعتراف السوفيتي الرسمي بأعمال باسترناك الأدبية حيث شارك مشاركة فعالة في نشاط اتحاد الكتاب السوفيت. وقد ألقى كلمة في المؤتمر الأول لهذا الاتحاد عام 1934. وآنذاك اقترح المنظر الشيوعي نيكولاي بوخارين رسمياً اعتبار باسترناك أفضل شعراء الاتحاد السوفيتي. وخلال الأعوام 1933-1936 كان مجلد أشعاره الكبير يعاد إصداره سنوياً.
في عام 1931 قام باسترناك برحلته الأولى إلى جورجيا. وقد أضيفت الأشعار، التي نظمها بتأثير انطباعاته عن القوقاز إلى مجموعة "الأمواج"، وأُدخلت هذه المجموعة فيما بعد ضمن ديوان"الميلاد الثاني". وخلال إقامته هناك، التي استمرت ثلاثة أشهر، تعرف باسترناك على العديد من الشعراء الجورجيين وعلى ثقافة جورجيا الأصيلة وتاريخها العريق اللذين تركا في عالمه الروحي أثراً ملحوظاً. وقد ترجم أعمال شعرية عديدة للشعراء الجورجيين إلى اللغة الروسية فضلاً عن بعض مؤلفات شكسبير وغوته وشيلر. وبعد ذلك غدت الترجمة نشاطاً منتظماً له واستمرت حتى وفاته. وفي عام 1937 جرى إعدام معظم هؤلاء الشعراء.
وكانت آخر زيارة له إلى جورجيا في عام 1959 ومن أسبابها استعادة ذكريات الشباب وزيارة عائلات أصدقائه الراحلين من ضحايا التصفيات الستالينية الكبرى. وكان هنالك سبب آخر لهذه الزيارة يتجلى في رغبة السلطات السوفيتية بمغادرته موسكو أثناء زيارة رئيس وزراء بريطانيا هارولد ماكميلان للاتحاد السوفيتي. فقد أعلن قبل الزيارة أنه يعتزم لقاء باسترناك ومعرفة أسباب رفضه لجائزة نوبل منه شخصياً.
وفي عام 1932 انفصمت عرى حياته الزوجية وأصبحت زوجته الثانية زيناييدا نيخاوز، التي رافقته في رحلته الأولى إلى جورجيا. وفي عام 1946 تعرف باسترناك على الصحفية والمترجمة أولغا ايفينسكايا، التي أحبها حباً جماً وكرس لها الكثير من أشعاره واعتبرها مصدر إلهامه الشعري. ومنذ ذلك الحين ارتبطا معاً بعلاقة حب وثيقة استمرت حتى مماته. وقد جسّد صورتها في شخصية لارا برواية " الدكتور جيفاغو".
في عام 1935 تشفع باسترناك مع أخماتوفا إلى ستالين لزوج الشاعرة نيكولاي بونين ونجلها ليف من زوجها الأول الشاعر نيكولاي غومليوف . فقد كتب عدة رسائل إلى ستالين ملتمساً فيها الإفراج عنهما. وفي النتيجة أخلي سبيلهما بناء على ذلك. وفي أواخر العام نفسه أهدى استالين كتاب ترجماته من الشعر الجورجي مرفقاً برسالة شكر بخصوص الإفراج عن قريبي أخماتوفا. ولكن في منتصف عام 1936 تبدلت علاقة السلطات به، إذ باتوا يلومونه ليس فقط على "انعزاله عن الحياة، وإنما أيضاً على عقيدته التي لاتتلاءم مع العصر" ويطلبون منه دون قيد أوشرط تبديل الموضوعات والأفكار في مؤلفاته الشعرية. وأفضى ذلك إلى أول فترة اغتراب باسترناك عن الأدب الرسمي. ومع ضعف الاهتمام بالسلطة السوفيتية كانت أشعاره تتخذ طابعاً شخصياً ومأساوياً وفي أواخر الثلاثينات انتقلت اهتماماته إلى النثر والترجمات من اللغات الأوروبية، التي أصبحت في الاربعينات مصدراً اساسياً لتحصيل رزقه. وخلال تلك الفترة بالذات بدأت تظهر ترجماته العديدة من تراجيديات وليم شكسبير ويوهان غوته وفريدريك شيلر. وحسب قول نجله يفغيني خلال لقاء في عام 2011 مع طلاب ومدرسي جامعة موسكو الحكومية(لومونوسوف) فإنه" بهذه الترجمات كان الوالد ينقذ عائلته من الفاقة وشظف العيش ويتخلص من اللوم في"الانقطاع عن الحياة". وقد قال باسترناك نفسه عن هذه الحقبة:" قدمت نصف عمري من أجل إنجاز الترجمات وهذه أكثر الأوقات خصباً".
تعرض باسترناك في عام 1952 إلى نوبة قلبية ولكنه، مع ذلك، استمر في الإبداع حيث بدأ في عام 1956 بإعداد مجموعة شعرية جديدة من أشعاره بعنوان" عندما يصحو الجو". وقد كان الكاتب قد شرع في العمل على تأليف رائعته"الدكتور جيفاغو" في عام 1945 ووضع اللمسات الأخيرة عليها في مطلع عام 1956 مما يشير إلى ان العمل الأساسي كان يجري في عهد ستالين. وقد كتب باسترناك روايته بدون أدنى رقابة ذاتية خلافاً لما اعتاد عليه الكتاب السوفيت وبعيداً عن قوانين الأدب السوفيتي ومدرسة الواقعية الاشتراكية.
ومع ذلك كان باسترناك يأمل أن يرى مؤلفه الرئيسي مطبوعاً في الاتحاد السوفيتي. فقد أرسل روايته إلى أسر تحريرالمجلات الأدبية الصادرة في موسكو ولينينغراد ولكنه لم يتلق سوى الرفض. وعند ذلك اقنتع بأن احتمال الموافقة على نشر الرواية ضئيل جداً. وفي ضوء هذا الاستنتاج أعطى الكاتب مخطوطة روايته إلى الصحفي الإيطالي سيرجو دانجيلو، الذي هربها وسلمها إلى الناشر الإيطالي الشيوعي جانجاكومو فلترينيللي.
وبعد أن علمت السلطات السوفيتية بأن مخطوطة الرواية قد هُرِّبت وأن فلترينيللي يعتزم نشرها حتى أرغمت المؤلف على توقيع برقية تطالب دار النشر الإيطالية بوقف عملية الإعداد لطباعتها . ولكنه مالبث أن أبلغ الناشر عن طريق بعض معارفه بعدم الأخذ بعين الاعتبار أي طلبات"منع النشر" من جانبه بحيث يتم إصدار الرواية" مهما كان الأمر". وهكذا صدرت "الدكتور جيفاغو" باللغة الإيطالية في تشرين2/نوفمبرمن عام 1957 بمدينة ميلانو رغم شتى جهود ومساعي الكرملين والحزب الشيوعي الإيطالي، الذي لجأ في نهاية المطاف إلى فصل فلترينيللي من صفوفه.
وعلى أثر منح الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب في تشرين1/أكتوبر عام 1958 إلى مؤلف" الدكتور جيفاغو" بوريس باسترناك أصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي قراراً "حول رواية بوريس باسترناك الافترائية" في 23/10/ 1958. وقد جاء في القرار أن الرواية تفتري على ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى والشعب السوفيتي منجز هذه الثورة. وهذا عمل معاد لبلدنا وأداة رجعية موجهة نحو تأجيج الحرب الباردة". ثم ظهرت على صفحات البرافدا مقالة بهذا الخصوص حافلة بالتهجم على مؤلف"الدكتور جيفاغو" حيث وصفت الرواية بأنها "نبات أدبي ضار". وخلال ذلك فصل باسترناك من اتحاد الكتاب وأقيمت في كافة أرجاء البلد- في المصانع والكولخوزات والمؤسسات التعليمية والثقافية اجتماعات أعلن فيها المشاركون موقفهم ضد الكاتب "الخائن" وأعماله الأدبية. ومع ذلك لم يكن باسترناك يرغب في رفض الجائزة. فقد أكد في رسالته إلى جلسة اتحاد الكتاب السوفيت، التي لم يحضرها، أنه" لا شيء يمكن أن يرغمني على اعتبار هذا التكريم عاراً".. ولكن بعد أن عجزت السلطات عن اقناعه برفض الجائزة قررت اللجوء إلى وسيلة أخرى وهي الضغط على حبيبته أولغا ايفنسكايا فتكللت هذه الوسيلة بالنجاح. وقد جاء في البرقية التي بعث بها باسترناك باللغة الفرنسية إلى الاكاديمية السويدية ما يلي: " نظراً للأهمية التي يوليها المجتمع الذي أنتمي إليه لجائزتكم، يجب عليّ أن أتخلى عن التقدير غير المستحق الذي مُنح لي. أرجو منكم ألا تأخذوا رفضي الطوعي كإساءة. باسترناك.
وقد طالب أدباء مدينة موسكو بإبعاد الكاتب من البلد. ولكن لم ينضم إليهم الشعراء الشباب مثل أندريه فوزنيسفسكي ويفغيني يفتوشينكو وبيلا أخمادولينا. وقد مُنع باسترناك من مراسلة الأجانب واستقبال الضيوف القادمين من الخارج ومغادرة الاتحاد السوفيتي. و بخصوص طرده خارج البلد أنقذت الموقف مكالمة هاتفية أجراها رئيس وزراء الهند آنذاك جواهر لال نهرو مع خروشوف. وإلى جانب الحاجة لتلبية مطالب السلطات السوفيتية يعزو بعض الباحثين سبب حماس معظم الكتاب السوفيت الشديد لإدانة زميلهم باسترناك إلى شعورهم بالغيرة تجاهه.
وهكذا فإن جائزة نوبل لعبت دوراً مأساوياً في مصير الكاتب وسرّعت في رحيله عن هذا العالم. ولكن ومن المفارقة في الأمر أن الضجة الهائلة، التي أحدثها موقف السلطات السوفيتية نتيجة صدور الرواية في الغرب ومنح مؤلفها جائزة نوبل، قد أسبغت على الرواية طابعاً سياسياً حاداً فذاع صيتها وصيت كاتبها في كافة أرجاء العالم مما ساعد على نيل الرواية ومؤلفها الشهرة العالمية، وخاصة بعد أن قام المخرج الإنجليزي ديفيد لين في عام 1965 بنقل هذه الرواية إلى الشاشة السينمائية حيث لعب الممثل العربي عمر الشريف دور "جيفاغو" ولعبت جولي كريستي دور "لارا". وقد حصل الفيلم على 5 جوائز أوسكار. وهذا العمل الأدبي يعتبر في الغرب، إلى جانب رواية ميخائيل بولغاكوف"المعلم ومرغريتا"، أهم رواية روسية خلال القرن العشرين. أما في روسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي فإنه ينظر إليها باعتبارها، في المقام الأول، رمزاً لمقاومة الفنان للسلطة الشمولية ثم بعد ذلك واقعة أدبية.
وللأسف الشديد استخدمت هذه الرواية كمادة في الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي القائم خلال الحرب الباردة حيث أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كانت تشرف على ترجمة الرواية ونشرها في جميع انحاء العالم باسم "مؤسسة حرية الثقافة". وبهذا الصدد نشر حفيد الكاتب السوفيتي ألكسي تولستوي الصحفي والمؤرخ إيفان تولستوي كتابه بعنوان ("الدكتور جيفاغو بين ال"كي جي بي" و ال" سي آي ايه") حول ملابسات نشر " الدكتور جيفاغو" خارج الاتحاد السوفيتي وأبعاد المواجهة، التي جرت بين الجهازين الاستخباريين العملاقين حيث أكد على أن الأمريكان كانوا وراء ترجمة ونشر الرواية خارج الاتحاد السوفيتي. كما كشف الكتاب سر حصول الرواية على جائزة نوبل ودور الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك داغ همرشولد، الذي كان عضواً في اللجنة المانحة ويعتقد أنه كان كذلك عميلاً لوكالة الاستخبارات الأمريكية.
وقد جاء في مذكرة الوكالة المؤرخة في 12 كانون1/ديسمبر عام 1957 بخصوص طبع النسخة الروسية " ...ينبغي ان تصدر الرواية عن دار نشر ليس لها أي صبغة سياسية. والأهم من ذلك من الضروري ألا يتأذى الكاتب نفسه. وبعد حصول الوكالة على صورة من المخطوطة الأصلية من قبل الزملاء البريطانيين بدأ العمل في تحقيق مضمون المذكرة حيث طلبت الاستخبارات الأمريكية من أحد عملائها في هولندا تنظيم طبع النص الروسي لاستكمال شروط الترشيح لنيل جائزة نوبل. وتجد الإشارة إلى أنه كان يتوفر في إنجلترا ثلاث صور عن النص الروسي للرواية: لدى شقيقة الكاتب وكذلك لدى الفيلسوف أشعيا برلين والمؤرخ غيورغي كاتكوف.
وقد أصبح معروفاً أن الاستخبارات الأمريكية كانت وراء توزيع الرواية مجاناً للسياح السوفيت في المعرض الدولي ببروكسل(عام 1958) وفي مهرجان الشبيبة والطلاب المقام بمدينة فيينا(عام 1959). ولتسهيل نقل الرواية إلى الاتحاد السوفيتي تم إصدارها في جزئين من القطع الصغير ليتمكن الشخص من وضع كل جزء في جيب. كما أن "راديو سفوبودا"، الذي تموله الحكومة الأمريكية، بدأ بعد صدور الرواية بإذاعة نصها يومياً. وكان النص المذكور يُقرأ ببطء ليتسنى للمستمع تسجيله ثم توزيعه بصورة سرية.
تجري الأحداث الرئيسية للرواية بين عامي 1903 وعام 1923 مروراً بثلاثة حروب (الحرب الروسية –اليابانية والحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية) وثلاث ثورات ( ثورة عام 1905 وثورة فبراير وثورة أكتوبر عام 1917). كما تتطرق في الخاتمة إلى حقبة الأربعينات من القرن الماضي.
يتعرف القارئ على البطل الرئيسي يوري جيفاغو عندما كان صبياً في العاشرة من عمره حيث كان يسير في جنازة والدته ضمن المشيعين. وهو لم ير على الإطلاق والده، الذي بدّد ثروة العائلة بأكملها. وبعد دفن والدته يأخذه خاله نيكولاي فدنيابين للعيش عند أسرة البروفسور ألكسندر غروميكو، الذي يقيم في موسكو. وفي هذه الأسرة كان يعيش أيضاً زميله في الصف ميشا غوردون وابنة غروميكو طونيا حيث تنشأ بينهما علاقة ودية ثم ينتهي الأمر بالزواج تلبية لوصية الأم آنا إيفانوفنا قبيل وفاتها. وكان قد تشكل في هذا البيت الثلاثي يورا وطونيا وميشا غوردون.
ذات مرة خلال حفلة موسيقية أقيمت في المنزل كان على البروفسور غروميكو مرافقة أحد الموسيقيين إلى فندق تقيم فيه صديقة له حاولت الانتحار وهي أماليا غيشار. وقد استجاب البروفسور لطلب يورا وميشا بأن يأخذهما معه إلى الفندق. وهناك لمح يورا للمرة الأولى لارا ابنة المرأة التي حاولت الانتحار. كما أن ميشا رأى هناك رجلاً مهيباً سرعان ما تذكره. وبعد خروجهما من الفندق أخبر ميشا صديقه يورا بأنه قابل هذا الرجل المهيب منذ بضعة سنوات عندما كان يستقل القطار مع والده. وكان هذا الشخص يرافق والد يورا ويحثه باستمرار على تناول المزيد من الخمر قبل أن يقفز من القطار وهو ثمل للغاية فلقي مصرعه. وهذا الشخص فكتور كوماروفسكي محامي البروفسورغروميكو. وقبيل ذلك كان جيفاغو الأب يأتي مراراً إلى مقصورة عائلة غوردون ويتحدث عن أسرتيه وولديه.
ثم يلتقي يورا بلارا ثانية أثناء الاحتفال بعيد الميلاد في بيت عائلة سفنتيتسكي وهي تطلق النار على عشيق أمها كوماروفسكي، الذي كان قد أغواها بكل خبث وخسّة. ومع ذلك فإنه أنقذها من السجن بفضل صلاته الواسعة. ولم يكن يورا آنذاك يتصور ما يحضر القدر لهما معاً في المستقبل.
وفي ربيع عام 1912 أكمل الجميع تعليمهم العالي حيث أصبح يورا طبيباً وصارت طونيا محامية بينما تخصص ميشا بفقه اللغة. وقد تزوج يوري من طونيا بعد وفاة والدتها آنا إيفانوفنا.
وعقب اندلاع الحرب العالمية الأولى التحق جيفاغو بالحيش. أما لارا فقد ذهبت مع صديق الطفولة بافيل أنتيبوف عقب زواجهما إلى مدينة يورياتين (بيرم حالياً) في الأورال حيث صارت تدرس في المدرسة الثانوية اللغة اللاتينية والتاريخ القديم ، بينما ترك بافيل التدريس وتوجه إلى الجبهة ثم انقطعت أخباره. فقررت لارا التطوع في الجيش كممرضة ولهذا اتجهت إلى الجبهة للبحث عنه فرآها أحد معارفها وهو الملازم الثاني أوسيب غاليولين وأبلغها أن زوجها بافيل قد لقي مصرعه. كما شاءت الأقدار أن تلتقي أيضاً بيوري جيفاغو، الذي بات في الجبهة شاهداً على تفسخ الجيش الروسي وانتهاك الجنود الفارين لحرمة القانون ونشاط الدعاة البلاشفة ، الذين يناشدون الجنود بأن يرفضوا الحرب وويقوموا بالتآخي مع الجنود الألمان. ومن جهة أخرى نجد أن جيفاغو يستقبل بعد عودته من الجبهة إلى موسكو كافة الأحداث التاريخية الجارية في روسيا بحماس شديد. فهو كطبيب يعرب عن إعجابه بالجراحة الرائعة لثورة أكتوبر، التي يمكن أن تقضي على جميع قروحات المجتمع النتنة بضربة واحدة.. ولدى عودته إلى موسكو كاد لا يعرفها نظراً للحالة الفظيعة التي آلت إليها بفعل الخراب تدهور والفوضى. وفي ضوء ما رآه وما عاناه سرعان ما عاد جيفاغو النظر في موقفه من الثورة البلشفية.
وقد أدرك جيفاغو أنه عوضاً عن التحرر والانعتاق وضعت السلطة السوفيتية الفرد في إطار صارم وفرضت عليه فهمها الخاص للحرية والسعادة البشرية. وكان هذا التدخل في حياة الناس الشخصية يخيفه. ولذلك قرر الابتعاد مع عائلته عن بؤرة الأحداث، التي تعصف بالبلد فتوجه إلى فاريكينو ضيعة عائلة غروميكو الواقعة غرب مدينة يورياتين. وكان الطريق الطويل يمر عبر مناطق انتفاضات واضطرابات جرى تهدئتها مؤخراً بعد أن نشر الرعب فيها سترلنيكوف ( بافيل أنتيبوف) وجرى طرد البيض منها.
وهناك يلتقي يوري مجدداً بلارا ويقعان في حب بعضهما البعض. وعند ذلك يجد نفسه بين امرأتين محبوبتين. لكن حادثة اختطافه من قبل صعاليك الغابة، وهم رجال الأنصار الحمر، خلصته من هذا الوضع الثنائي الصعب. وقد كان هؤلاء المقاتلين بحاجة ‘لى طبيب لعلاج الجرحى ولذلك أخذوه عنوة وضموه إلى فصيلهم. وبعد ذلك أعطوه بندقية لإطلاق النار على الأعداء ولكنه كان يسددها نحو الشجرة. ورغم أن مهمة الطبيب جيفاكو الأساسية تكمن في معالجة رجال الأنصار، فإننا نجده يعتني أيضاً بأحد مقاتلي الأميرال كولتشاك وهو الفتى سيرغي رانتسيفتش. وعندما تقدم المقاتلين البيض من الغابة واقتربوا من يوري تمكن الطبيب الأسير من تمييز وجوههم. إنهم فتيان من الطبقة البرجوازية في العاصمتين وقد تطوعوا حديثاً و" كان معظمهم من طلاب السنة الأولى في الجامعة أو الصفوف العليا في المدارس ... وكان يُخيّل إليه أنه لمح بعضهم في مسرح ما أو في الشارع وقد جذبته وجوههم المعبرة وتراءوا له وكأنهم من جماعته الخاصة وكأنهم من نوعه. وكانوا ينتمون إلى عائلات هي ولا ريب شبيهة بعائلته من حيث الروح والثقافة والسلوك الخلقي والقيم". وعليه فقد كان يبدو هنا جلياً أن جيفاغو يتعاطف مع المعسكر الآخر القريب إلى الوسط الذي نشأ وترعرع فيه أي معسكر البيض.
يهرب جيفاغو في نهاية المطاف من معسكر الأنصار الحمر بعد أن بقي شهوراً طويلة في الأسر. وعند ذلك يعود ‘لى مدينة يورياتين حيث تعيش لارا وهو منهمك القوى للغاية. ويكتشف أنه تقرر إبعاد زوجته ووالدها وولديه إلى خارج البلد ضمن حملة واسعة النطاق لطرد المثقفين من روسيا السوفيتية. غير أن تجارب يوري القاسية لم تنته عند هذا الحد. فقد ظهر كوماروفسكي على حين غرة وأعلن أنه تلقى دعوة من حكومة الشرق الأقصى وهو مستعد لأخذهما معه نظراً لأن الأوضاع لا تبشر بالخير. لكن جيفاغو يرفض في البداية هذا الاقتراح. وعندما يعود كوماروفسكي مجدداً ويعلن لهما أن بافيل قد أعدم وأن لارا ستتعرض للملاحقة والقمع بالإضافة إلى أن الخطر يخيم على الطفلة كاتيا أيضاً، يقرر يوري اقناع حبيبته بالذهاب مع كوماروفسكي الذي بوسعه ضمان سلامتها. ووعدها بأنه سيلحق بهما.غير أنه بقي لوحده وصار يشعر بالغربة والحنين مما دفعه إلى معاقرة الخمر يوميا.
ولمم تمض إلا بضعة أيام حتى جاءه ضيف غير متوقع. إنه سترلنيكوف(أنتيبوف)، الذي أتى لرؤية زوجته لارا وابنته كاتنكا. وقد أوضح له يوري الظروف التي جعلت لارا تذهب مع كوماروفسكي إلى الشرق الاقصى مدركاً أن هذا المحتال قد كذب عليه بخصوص إعدام ستريلنيكوف. وأمضى الاثنان ساعات طويلة من الليل في الأحاديث ثم خلدا إلى النوم. وعندما استيقظ يوري في الصباح لم يجد بافيل في المنزل. ولكن حين ذهب إلى البئر لإحضار الماء رآه فجأة جثة هامدة ورأسه غارق في الثلج. وهكذا فقد انتهى الأمر بالقائد الثوري البلشفي إلى الانتحار من جراء شكوك رفاق الأمس بعدم إخلاصه لقضية الثورة وكشفه عن حب لارا لجيفاغو.
وعقب ذلك يرجع يوري إلى موسكو ويتزوج مارينا ابنة بواب عائلة غروميكو السابق ماركل شابوف، التي أنجبت له طفلين.كما يعود إلى ممارسة الكتابة الأدبية. ثم يجد له أخوه من أبيه ايفغراف عملاً في أحد المستشفيات. وأثناء ركوبه الترام في موسكو يشعر جيفاغو بألم شديد في قلبه ويخرج بصعوبة بالغة من الترام، الذي يغص بالركاب ثم ما يلبث أن يفارق الحياة. وترجع لارا إلى موسكو لرؤيته فتدخل المنزل لتجده مسجى هناك دون حراك فتصاب بصدمة قوية ولكنها فيما بعد تساعد أخيه في جمع وترتيب كتاباته وأشعاره.
وفي الخاتمة أدرجت مجموعة من قصائد جيفاغو وبعضها ذو مواضيع دينية مثل" أيام الشر" و"مريم المجدلية" و"حديقة جيثيماني". و"المعجزة"
ثمة موضوع صغير في الرواية ولكنه مهم جداً وهو مصير تاتيانا جيفاغو ابنة يوري ولارا حيث يظهر الكاتب على مثالها الفاقة الروحية لمن نشأوا وترعرعوا في العهد السوفيتي إذ أننا نجد تاتيانا محرومة من عمق الحياة الروحية الذي امتلكه كلا الوالدين. فإن عملية الانحطاط الأخلاقي تشغل بال باسترناك إلى حد كبير. ومن الجائز أن طرح هذه القضية كان أحد الأسباب، التي أثارت هجمات النقاد العنيفة على الرواية.
إن الطبيعة هي المجال الذي يمتص فضاء الرواية. ولفهم دوافع سلوك جيفاغو في هذا الموقف أو ذاك ينبغي لنا ان ندرك أهمية الطبيعة بالنسبة له ومكانتها في الرواية حيث تبدو حياة البطل الرئيسي بأكملها كرغبة غريزية في الذوبان بالطبيعة دون مقاومتها والعودة إلى الطفولة إذ أن العالم الخارجي قد احاطه من كافة الجهات بشكل لا جدال فيه يستحيل اختراقه مثل الغابة . فهي تشكل بالنسبة له كافة الأشياء في الدنيا. فحتى المسيحية يراها يوري طبيعية بالضرورة، إذ يتهيأ له المسيح تارة راعيا في قطيع غنم عند غروب الشمس، وتارة أخرى أزهاراً تودع جيفاغو إلى العالم الآخر.
وعليه فإن الرواية تعج بوصف الطبيعة حيث أن المشاهد الطبيعية ترمز إلى حالة فردية معينة وتظهر في دور أداة تحليل نفسي تساعد في الوقت نفسه على توسيع الحجم الدلالي للنص. فللطبيعة في "الدكتور جبفاغو" أهمية خاصة حيث أنها لا تقتصر على التنبيه والتحذير وإنما تبدو وكأنها تعكس المشاعر الداخلية للأبطال . فبعد قراءة رسالة زوجته طونيا ينتاب يوري الألم والمعاناة وعاصفة من المشاعر. وهنا نرى وراء النوافذ عربدة الطبيعة ويخيل إليه أن هذه العاصفة الثلجية تتموضع داخل نفسه" وكان الثلج يتساقط خارجاً. وجرفت الرياح الثلج جانباً. وهو يزداد سرعة وكثافة وكأنما كانت تحاول أن تلحق بشيء ما؛ وقد حدق يوري أمامه من خلال النافذة وكأنه لم يكن ينظر إلى الثلج، بل كان لا يزال يقرأ رسالة زوجته حيث بدا له أن الذي يتطاير أمامه لم تكن حبات الثلج الجافة وإنما الفراغ القائم بين الحروف الصغيرة السوداء إنه الفراغ الأبيض اللانهائي ...". وتساعد الطبيعة على إدراك سلوك البطل في مواقف معينة وتعبر عن حالته النفسية. فإن لارا بالنسبة لجيفاغو تجسد الطبيعة نفسها وتظهر له في صورة بجعة تارة وفي شكل ثمرة الغبيراء تارة أخرى. ويبدو وصف الطبيعة، الذي نشاهده في العديد من صفحات الرواية بمنتهى الشاعرية. فالمناظر الطبيعية حية وملهمة ونابضة بالحياة ومفعمة بالاندهاش أمام معجزتها. فالطبيعة تستجيب لأدق الدوافع الروحية للإنسان أو بالأحرى يندمج الإنسان والطبيعة سوية.
ورغم ابتعاده عن الله ، وبالتالي عن الطبيعة، في زمن شبابه خلال الحرب الأهلية، عندما "انتهت قوانين الحضارة الإنسانية" وضعف تأثير العقل، عاد جيفاغو إلى الطبيعة من خلال حب للارا. في الرواية ، يتم التأكيد باستمرار على "طبيعية" الحب: "لقد وقعا في حب بعضهما البعض لأن كل شيء من حولهما أراد ذلك: الأرض تحتهما، والسماء فوق رؤوسهما، والسحب والأشجار". نعم ، وتظهر لارا نفسها في شكل بجعة ، ثم رماد جبلي. وفي النهاية يتضح لجيفاغو أن لارا هي تجسيد للطبيعة نفسها.
ويعتبر الكاتب الإيطالي كارلو كاسولا أن "شاعرية الطبيعة" تجعل من باسترناك استمراراً حقيقياً لتقاليد تولستوي وتشيخوف. وفي الوقت نفسه فإن دور الطبيعة لم يعد في الرواية أمراً ثانوياً بالنسبة لمحتواها الدلالي حيث أن الطبيعة إلى جانب التاريخ إحدى الشخصيات الرئيسية في "الدكتور جيفاغو".
يلعب الموضوع المسيحي دوراً رئيسياً في الرواية . فمن المعروف أنها تبدأ بمشهد الجنازة الأرثوذكسية حيث يجري دفن جثمان والدة الطفل يورا البالغ من العمر 10 سنوات" راحوا في سيرهم يرتلون " الراحة الأبدية" وحينما كانوا يتوقفون بدت أقدامهم وجيادهم ، وهبات الريح ، كأنها تردد إنشادهم....وردد الكاهن وهو يرسم إشارة الصليب وينثر التراب فوق جسم ماريا نيكولايفنا: "له الأرض وما فوقها، الأرض وما فيها". ثم أنشدوا" أرواح الأتقياء".
ونلمس النزعة المسيحية عند باسترناك في مونولوج طالب الطب يوري جيفاغو أمام أمه بالتبني ووالدة طونيا آنا إيفانوفنا وهي على فراش الموت. فقد كان يفسّر كلمات المسيح حول القيامة باعتبارها تجديداً مستمراً للحياة الأبدية " في تمازجاتها وتحولاتها التي لا تُحصى". وحسب مفهوم جيفاغو فإن خلود الإنسان هو حياته في أعماله وفي وعي الآخرين. ولدى بداية الرواية يطرح باسترناك على لسان خال البطل الرئيسي نيكولاي فدنيابين المبادئ الأساسية للمسيحية كما يفهمها. ففي نقاشه مع إيفان إيفانوفتش يشير الخال ".... وكما كنت أقول يجب أن يكون الشخص صادقاً مع المسيح .وسوف أشرح لك. إن ما نفهمه هو أن بإمكان المرء أن يكون ملحداً. إنه من الممكن ألا يعرف إذا كان الله موجوداً وكيف وُجد، وأن يؤمن مع ذلك أن الإنسان لا يعيش في حالة طبيعية، بل في التاريخ، وأن التاريخ كما نعرفه الآن يبدأ مع المسيح وأن أناجيل المسيح هي أساسه.... فلم يتنفس الزمان والإنسان بحرية إلا بعد مجيء المسيح.
تكشف الرواية بوضوح تام علاقة الإنسان بعصره. والحديث هنا يدور حول مصير المواطن الروسي في حقبة التحولات الثورية العاصفة. وتظهر أحداث الرواية من خلال استيعاب البطل الرئيسي لها. ولهذا فإن هذا العمل الأدبي مرتبط بمصير الطبيب الشاب يوري جيفاغو. فهو لا يناضل ضد الظروف التي يتعين عليه أن يعيشها، كما أنه لا يسعى للتأقلم معها، إذ يبقى فرداً مستقلاً في أية ظروف.
إن جيفاغو الطبيب قادر على معرفة الأمور مسبقاً وبوسعه كطبيب أن يضع التشخيص الدقيق. لكنه لا يسعى إلى تصليح الأمور أو القيام بالمعالجة أي التدخل في سير الأحوال الطبيعي. ولدى ذلك فإن نظريته الجبرية الخاصة هذه لا تمنعه من القيام بالخيار الأخلاقي اللازم الذي تظهر فيه حرية الإنسان الحقيقية. وفي الفصل الخامس من الرواية يشير جيفاغو بوضوح إلى موقفه من ثورة أكتوبر قائلاً :"... كنت ثورياً متحمساً، ولكنني أفكر الآن إنه ليس هنالك ما يمكن الحصول عليه بالقوة الغاشمة. فالشعب يجب أن يُجذب إلى الخير بالخير...". ويرى البطل الرئيسي أن أهداف الثورة المعلنة كانت ، بلا شك، إيجابية: المساواة والأخوة وحقوق الشعب. ولكن" بأية وسيلة كانوا يحاولون تحقيق ذلك؟ أهو من المعقول أن يتم هذا عن طريق تهديم العائلات وأعمال القتل الوحشية بما في ذلك قتل الأطفال والنساء.... أجل كانت هذه الأهداف نبيلة. غير أن الناس غرقوا في الدماء. وكما هو معروف لا شيء يمكن ان يُبنى على الدم". وهكذا فإن يشجب جيفاغو العنف الثوري وإراقة الدماء، ويرقى بالحب عالياً باعتباره قيمة إنسانية سامية. ففي الحب بالذات ينكشف للإنسان جمال الحياة.
وعليه فإننا نرى في الرواية أن سيرة حياة الطبيب جيفاغو وعائلته هي قصة ملايين الأشخاص من سكان الإمبراطورية الروسية المنهارة، الذين دُمرت حياتهم من جراء أحداث الثورة والحرب الأهلية وانتفاضات الفلاحين والبحارة ضد سلطة الشيوعيين عبر مثال عائلة واحدة. فهؤلاء الأشخاص غير المستقرين تبدل مجرى حياتهم المعتاد بصورة درامية. وعلى مدى الرواية كلها ينظر جيفاغو ومعه المؤلف إلى جميع هذه الوقائع والأحداث على أنها غير عادلة وعقيمة ولا معنى لها. فالثورة هي العنف ضد الحياة نفسها وضد الطبيعة ومنافية لكل القوانين البشرية والطبيعية.
أحدث نشر "الدكتور جيفاغو" في العديد من بلدان العالم ومنح المؤلف جائزة نوبل للآداب صدى قوياً وواسعاً في كافة أنحاء العالم. وقد حصلت الرواية على إعجاب كبير لدى القراء والنقاد الأدبيين خارج الاتحاد السوفيتي. أما في موطنه انقسم الكتاب والنقاد إلى معسكر رافض استخف بقيمتها الفنية، مع تقدير إبداع باسترناك الشعري، ومعسكر آخر معجب بها.
في رسالته إلى الأديب رومان غرينبرغ يشير الكاتب الروسي لأمريكي فلاديمير نابوكوف بخصوص رواية "الدكتور جيفاغو" قائلاً" بالنسبة لذوقي هذا الكتاب أخرق وغبي، قمامة ميلودرامية. إنها رواية زائفة تاريخياً ونفسياً وصوفياً مليئة بالحيل المبتذلة مع مواقف سخيفة ومحامين شهوانيين وفتيات غريبات الأطوار ومصادفات تافهة.... وباختصار ابتعد باسترناك كل البعد عن شعره". وضمن أمور أخرى كثيرة يأخذ نابوكوف على باسترناك تجاهله المطلق لثورة فبراير عام 1917، التي اطاحت بالقيصرية ومنحت الحرية لسكان الإمبراطورية الروسية جميعاً بعد قرون من الاستعباد، بينما نجده يقرأ بشغف بالغ خبر اندلاع ثورة أكتوبر وقيام البلاشفة بتشكيل مجلس مفوضي الشعب(الحكومة السوفيتية) برئاسة لينين.
وتجدر الإشارة إلى أن رواية "الدكتور جيفاغو" بالذات أصبحت في الولايات المتحدة منافسة لرواية نابوكوف "لوليتا" من حيث التوزيع والتصنيفات الأدبية المختلفة. وقد كان ذلك سبباً إضافياً لانهيال نابوكوف بالنقد اللاذع على رواية باسترناك.
وقد أشار الأكاديمي دمتري ليخاتشوف في مقدمته لرواية باسترناك إلى أنه" لدى جيفاغو المزيد من التردد والشكوك فضلاً عن غلبة التناول الشعري والغنائي للأحداث بدلاً من الإجابات الواضحة والاستنتاجات النهائية. وهذه التذبذبات ليست بالجانب الضعيف عند البطل الرئيسي بل تشكل قوته الفكرية والأخلاقية...
لا يتمتع جيفاغو بالإرادة القوية إذا كنا نقصد بذلك القدرة على اتخاذ قرارات لا لبس فيها دون أي تردد. ولكن لديه تصميم على عدم الخضوع لإغراء القرارات الواضحة التي تزيل الشكوك. إنه شخصية خلقت لقبول العصر واستيعابه دون التدخل فيه على الإطلاق. فالقوة الرئيسية في الرواية هي عفوية الثورة، بينما نرى أن البطل الرئيسي لا يؤثر فيها بشكل من الاشكال ولا يحاول القيام بذلك والتدخل في مجرى الأحداث (بوريس باسترناك " الدكتور جيفاغو". مجلة " نوفي مير"، 1988، العدد الأول). أما الكاتب السوفيتي المنشق، الذي حصل، بدوره، بعد أكثر من عقدين على جائزة نوبل للآداب، ألكسندر سولجنتسين فقد قال تعليقاً على "الدكتور جيفاغو" : " في أواخر عام 1956 أو مطلع عام 1957 بدأت في قراءة رواية باسترناك. وقد أظهرت لي في البداية أن المؤلف ببساطة لا يعرف كيف يكتب النثر حيث ان بعض الاعتراضات والملاحظات في الحوارات منافية للمنطق. فثمة عدم كفاءة هناك. وعموماً لم أجد في هذا الكتاب أي فكرة عظيمة أو حركة مثيرة للاهتمام أو صور حقيقية. فقد أصبت فعلاً بخيبة أمل. وينبغي القول أنه، مع مرور الزمن، لم يتبدل رأي كثيراً بخصوص هذه الرواية"( توضيح سولجنتسين في عام 2006. لودميلا ساراتسينا" سيرة حياة سولجنتسين، 2009).
وقد وجهت أريادنا يفرون (ابنة الشاعرة مارينا تسفيتايفا) انتقاداً لاذعاً لرواية باسترناك حيث كتبت بهذا الخصوص ما يلي:" في الرواية حشر فظيع للمصائر والعصور والمدن والسنوات والأحداث والعواصف في بضع مئات من الصفحات مما يحرمها من المساحة الضرورية والفضاء والهواء. ويتضح أن كل هؤلاء الأشخاص : لارا ويوري وطونيا وبافيل يعيشون على كوكب آخر يخضع فيه الوقت لقوانين أخرى. ولهذا ليست لديهم الوقت للكلام الفارغ وليس هناك أناس بسطاء لا هموم لهم. فهم لا يقولون أشياء غبية ولا يمزحون كما هو الحال لدينا على الأرض...".
أما الشاعرة آنا أخماتوفا فقد أعلنت أنه" هنالك صفحات غير احترافية على الإطلاق في الرواية. وأعتقد أنه كتبتها أولغا (ايفنسكايا). دع الضحك جانباً. فإنني أتحدث بكل جدية. وبالمناسبة لم يكن لدي في السابق أية ميول تحريرية ولكن بعد قراءتي لهذه الرواية خطر على بالي أن أحضر قلم رصاص وأشطب صفحة تلو الصفحة بالعرض. غير أني، من جهة أخرى، أؤكد أن في "الدكتور جيفاغو" ثمة وصف لمناظر طبيعية لا مثيل له في الأدب الروسي. فلا تورغينف ولا تولستوي ولا أحد. إنها رائعة حقاً.
خلال حديثه عن الرواية يقول الكاتب السوفيتي ألكسندر غلادكوف :" أحدث تعرفي على الرواية خيبة أمل كبرى نظراً لأنني أحب باسترناك كثيراً كإنسان وفنان. ولم يكن بودي الانضمام إلى صفوف الذين يشتمون الرواية دون تأملها ملياً ( وفي أغلب الأحوال دون أن يقرؤها). ففي "الدكتور جيفاغو" نرى أن الشخصيات لا تتحدث ولا تتصرف دون تلقين من جانب المؤلف".
أثار موقف باسترناك من المسألة اليهودية حفيظة رئيس وزراء إسرائيل الأسبق دافيد بن غوريون، المولود في أراضي الإمبراطورية الروسية. فقد صرح في مقابلة مع "وكالة الأنباء اليهودية" عام 1959 أن رواية "الدكتور جيفاغو" من أحقر الكتب، إذ تطرق فيها بصورة سخيفة إلى قضايا اليهود كاتب من أصل يهودي وهذا أمر مؤسف للغاية. ومع ذلك فإن المؤلف يتمتع بالشجاعة الكافية لمواجهة حكومته.
لم يُعجب بن غوريون على نحو خاص بشخصية ميشا غوردون صديق جيفاغو، الذي في حديثه عن المسألة اليهودية، يدعو اليهود إلى الاندماج والذوبان في الشعوب الأخرى والاختفاء نهائياً كشعب للتخلص من معاداة السامية " .... لماذا لا يقولون لهم : عودوا إلى رشدكم . يكفي! لا تتمسكوا بهوياتكم. لا تقفوا صفاً واحداً. تفرقوا. كونوا سواسية مع سائر البشر". ("الدكتور جيفاغو". الفصل الرابع).
وفي العالم العربي انبرى عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين للتعبير عن إعجابه الشديد بمؤلف هذه الرواية حيث قال في مقدمته إلى الطبعة العربية لهذه الرواية، التي ترجمها حلمي مراد وصدرت عام 1959 :" ... أما أنها قصة رائعة فائقة الروعة فشيء لا يشك فيه إلا الذين لم يقرؤوها أو لم يتعمقوها، أو الذين تقصر أذواقهم إساغة الأدب الرفيع. ولكنها تحتاج في قراءتها إلى صبر، أي ، صبر وإلى الأناة كل الأناة . وربما احتاجت أن تُقرأ مرتين أو اكثر من ذلك. وربما احتاجت ان يعيد القارئ قراءة بعض فصولها غير مرة. ومصدر ذلك أنها طويلة شديدة الطول، تتجاوز صفحاتها المئات الست، وإن أشخاصها من الكثرة والاختلاف وتباين الأهواء والأمزجة، بحيث يصعب على القارئ استحضارهم في ذهنه منذ أن يبدأ القصة إلى أن يتمها، ولأن أماكنهم متباعدة أشد التباعد ... ولأنها آخر الأمر، لا تقع في عام أو عامين أو أعوام قليلة ...وإنما تبدأ في أوائل القرن الحالي (العشرين) وتنتهي عند ثلثه. وكل هذا يفرّق نفس القارئ، ويجعل جميع أحداثها في ذهنه عسيرة اًشد العسر.. وأعترف باني قرأتها للمرة الاولى، ثم اضطررت أن أعود إلى قراءة فصول مختلفة منها...وأنا بعد كل هذا عاجز عن تلخيصها!..
لست أعرف كاتباً روسياً معاصراً صوّر قسوة الطبيعة كتصويره، حين يشتد الشتاء وينهمر الثلج وتجمد الأنهار وتنقطع طرق المواصلات ويهلك الزرع قبل أن يُؤتي ثمره، ويشقى الناس بهذا كله فلا يجدون ما يأكلون ولا يلبسون ما يدفعون به عن أنفسهم هذا البرد القارس...وهم مع ذلك خائفون ملأ الهول قلوبهم، واستأثر اليأس من الحياة بنفوسهم، فهم ينتظرون أن يُؤخذوا في كل لحظة ليُقدَّموا إلى الموت أو ليقدم إليهم الموت... وهم لا يسمعون نأمة ولا يحسون حركة إلا ظنوا أن قد أقبل الذين سيأخذونهم ويمضون بهم إلى حيث لا يعودون!"( جريدة "الحياة" 26/4/2018- محمد بكري).
ويروي الصحفي والكاتب المعروف أنيس منصور في مذكراته أن نسخ الطبعة التي ترجمها وأصدرها حلمي مراد كانت محدودة وخلال فترة قصيرة لم يبق منها أي نسخة للبيع. وفي هذه الأثناء طلبت رئاسة الجمهورية منه تأمين نسخة للرئيس جمال عبد الناصر فاضطر إلى تسليم نسخته الشخصية بعد أن محا ملاحظاته التي وضعها بالقلم الرصاص .
وهكذا فإنه من الحالات النادرة في تاريخ الأدب العالمي أن يُستخدم عمل أدبي كسلاح ماض في صراع دولي إيديولوجي وتظهر حوله آراء وتقييمات متضاربة للغاية. فقد افتتن المعسكر الغربي بالرواية والفيلم المستوحى منها بينما انقسم النقاد والقراء الروس بين معجب بها ومنتقد لها. ومع ذلك فإن كتابة رواية كهذه في عهد ستالين تشهد على الجرأة القوية، التي كان يتمتع بها الشاعر والناثر السوفيتي بوريس باسترناك. وقد كان ذلك تحدياً كبيراً للنظام الشيوعي وأقلق راحة المسؤولين السوفيت. وفي الوقت نفسه طرحت رواية" الدكتور جيفاغو بعد نشرها بعشرات اللغات الأجنبية مسألة حرية التعبير ومشكلة الرقابة الحكومية على الثقافة في الاتحاد السوفيتي.
د. جابر ابي جابر
1499 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع