غريب دوحي الناصر
سارتر في ذكراه .. رحيل آخر الفلسفة
لعلّ أصدق وصف لسارتر هو ما وصفته به الأكاديمية السويدية خلال منحه جائزة نوبل عام 1964 والتي رفضها رغم انها وصفته بأنه أحد الرجال القلائل الذين أثروا في الفكر الأوربي في عصره مستعيناً بخياله المبدع وقدرته الخارقة على النفاذ الى أعماق الضمير وأكثرهم صدقاً واخلاصاً في البحث عن الحقيقة والدفاع عن الحرية والسلام.
ولد سارتر في باريس عام 1905, والده كان ضابطاً في البحرية الفرنسية , فقد أباه وهو في الثانية من عمره . أخذته أمه الى بيت والديها . يقول سارتر : " كان موت والدي أكبر حدث في حياتي اذ أنه أعاد أمي الى أغلالها ومنحني الحرية ( مجلة الهلال العدد2 السنة الخامسة والسبعون 1967 ) ، كما جاء في المجلة :" كان سارتر يعيش في شبابه بين الكتب فهو يقول : " في طفولتي لم أحفر الأرض قطّ , ولم ابحث عن أعشاش , ولم أجمع النباتات من الحقول, ولم أقذف الطيور بالحجارة , ولكن الكتب كانت طيوري وأعشاشي وحيواناتي الأليفة . ان مكتبة جدي كانت العالم معكوساً في مرآة "
اذن إذا بدأ سارتر حياته الأدبية في حجرة مكتبة جده لأنه وفي مرحلة الشباب واصل القراءة والدراسة ودخل جامعة السوربون وأصبح أستاذاً فيها . وقد ذاعت شهرته بعد كتابته للبحوث والمقالات في الصحافة الفرنسية وكتب المسرحيات التي تم عرضها على مسارح باريس . تقول عنه زوجته سيمون دي بوفوار :" انه يعيش ليكتب ."
جاء في كتاب ( المنجد في الأعلام ) : "سارتر فيلسوف وكاتب وناقد فرنسي , تأثر بآراء هوسرل وهايدجر, من رواد الوجودية المتشائمة
. قال : "ان الوجود متقدم على الذات وان الإنسان مطلق الحرية في الاختيار" ، ثم انحاز الى بعض مبادئ ماركس في أعقاب الحرب العالمية .
رفض سارتر الاتجاهات المثالية في الفلسفة وقال: " أن واجب الفيلسوف مساعدة الناس من خلال الفكر على ان يحرروا أنفسهم . كما أنه تأثر بفكر عالم النفس( فرويد ) الذي يرى ان النشاط الإنساني حرّ غير مقيد .
وهكذا كان سارتر الوريث الشرعي لمن سبقوه من الفلاسفة الوجوديين أمثال الفيلسوف الدانماركي ( كيركجارد 1813 - 1855 الذي يعده المؤرخون رائد المذهب الوجودي وكذلك الفيلسوف الألماني ( هيدجر) الممثل الرئيسي للوجودية . لقد نسج سارتر على منوال هؤلاء الفلاسفة وكذلك وضع أجمل نسيج فلسفي ــ أدبي ظهر في القرن العشرين من خلال مؤلفاته الفلسفية ومسرحياته . فمن أشهر مؤلفاته : الوجود والعدم - طريق الحرية - الأيدي القذرة ــ الذباب ( الذي ينتقد فيه الاحتلال النازي لفرنسا) – نقد العقل الجدلي - الإنسان (الذي يتحدث فيه عن الأخلاق) - الإنسانية والفزع - (الذي كتبه بعد أحداث المجر عام 1956) . وهكذا جمع سارتر بين الفلسفة والأدب ومنح الفلسفة الوجودية تلك الشخصية الفكرية والأدبية وكان نموذجاً حياً لها .
الفكر السياسي لسارتر
عرف عن سارتر مزاجيته وعدم التزامه بخط سياسي واحد , فرغم انتمائه الى الطبقة البرجوازية , فإن معظم مسرحياته كانت عبارة عن نقد لاذع لها وكان يسخر من البرجوازية في معظم أعماله المسرحية يقف الى صف الطبقة العاملة الفقيرة والأقليات المضطهدة ويدافع عنها , وكان له موقف نبيل من التفرقة العنصرية وكان قبل الحرب العالمية الثانية ينزع نزعة يسارية معتدلة غير ملتزمة فلم بنظم الى حزب سياسي معين خوفاً من أن يفقد حريته . أما في الثلاثينات فقد وقف ضدّ ( ستالين ) وتصرفاته حتى عدّه الفرنسيون يسارياً معتدلاً . وعند قيام الحرب العالمية الثانية اشترك سارتر كجندي فيها , وحين هزمت فرنسا عام1940أخذ أسيراً إلى احد المعسكرات النازية في المانيا ومن ذلك الوقت بدأت مواقفه السياسية تصبح أكثر وضوحاً فبعد انتهاء الحرب صرح سارتر قائلاً :" إن الأحزاب الشيوعية هي التعبير الدقيق والضروري عن الطبقة العاملة " ، كما سجل مواقف ضد النازية بعد أن اكتوى بنارها وبذلك فإنه كسب أعدادا كبيرة من الشباب الفرنسي لأنهم وجدوا فيه متنفساً للتعبير عن أنفسهم بكل حرية .
ووقف سارتر الى جانب الثورة الجزائرية التي اندلعت عام 1954.ووضع في ذلك كتابه المعروف ( عارنا في الجزائر) ووقف الى جانب حصول الجزائر على الأستقلال . وندد بالعدوان الثلاثي على مصر عام1956 . كما انه اعتبر نفسه وسيطاً بين البرجوازية والبروليتاريا فزار الاتحاد السوفيتي عدة مرات .
وفي كتاب ( المفكرون ) ذكر مؤلفه هنري توماس ص 533 : : ان سارتر في مسرحية الذباب كان يسخر من الألمان ومن حكومة ( فيشي ) بل ان سارتر ذهب الى أبعد من ذلك عندما قال : " ان الشعب الفرنسي لم يكن في يوم من الأيام حراَ كما كان أيام الاحتلال الألماني أي ان الشعب الفرنسي اختار طريق الكفاح المسلح لتحرير بلاده بعد أن شعر بالإثم بسبب تخاذله أمام الألمان الذي مكنهم من احتلال فرنسا . وهكذا سجل سارتر هذه المواقف البطولية في تاريخه السياسي .
ما الوجودية ؟
يعد مبحث الوجود اول مباحث الفلسفة وأضخمها ,والفلسفة الوجودية تدور حول وجود الأنسان ومشكلات حياته وتهتم فقط بالوجود الأنساني الواقعي الذي تعصف به المشكلات والأزمات فهي تعبير عما يشعر به الأنسان من الضياع والقلق والإحساس بالعدم لذلك فإن فترة ما بعد الحرب
العالمية الثانية تعد مرحلة نضوج هذه الفلسفة حيث تعرضت الشعوب الى خطر الفناء الشامل . تعرف الوجودية كما جاء في ( المعجم الفلسفي المختصر, رؤية ماركسية) بأنها : " أحد أهم التيارات المثالية الذاتية في الفلسفة البرجوازية المعاصرة وتتسم بنزعتها العقلانية , وتمتد جذورها
الى مذهب (كيركجارد) وقد ظهرت في المانيا بعد الحرب العالمية الأولى , غير انها انشطرت الى شطرين بعد ذلك , الأول يتمثل بالوجودية الدينية والثاني الوجودية الملحدة , وهذا الأتجاه يمثله سارتر , وفي الأدب الوجودي ( كافكا ) كما تعرف بأنها اتجاه قلسفي ينكر أن يكون الوجود عين الماهية وينفر من المذهب والمذهبية ويقتصر على وصف الظواهر. " يقول سارتر: " أن الوجود سابق على الماهية ; ويقول هيدجر : " ماهية الإنسان في وجود العالم ( المعجم الفلسفي –مراد وهبة ص 733 ).
لقد أدى انشطار الوجودية الى اختلاف النتائج التي ترتبت على مسيرة كلا الأتجاهين فبينما ترى الوجودية الملحدة التي يتزعمها سارتر وهيدجر ان الوجود مأساة جاثمة يحياها الإنسان وانه ليس له معنى ولا غاية , وهو نوع من العدم , ترد الوجودية الدينية الوجود الى الله , وان للوجود هدفا وغاية ويستمد العون من الله . ورغم هذا الاختلاف فإن الفريقين , يشتركان في قواسم مشتركة تجمع بينهما تمثل الخصائص العامة للوجودية مثل :
القول بان الوجود يسبق الماهية , والوجود عندهم هو الوجود الإنساني , ويكون الإنسان حراً فهو يختار ما يمكن تحقيقه , ويعتبر الوجوديون العدم عنصراً أصيلاً في الوجود بسبب وجود المخاطر التي تشعر الإنسان بالعدم , والعدم يكشف عن حالة القلق عند الإنسان .
ختاماً , فقد اقترن اسم الوجودية باسم سارتر فهو اكثر الفلاسفة الوجوديين شهرة ويعود ذلك الى أنه فيلسوف واديب وناقد مسرحي وانه اشترك في الشؤون السياسية , وقد أعطى لحرية الإنسان مكانة خاصة في الفكر الوجودي فيرى أن حرية الإنسان ينبغي ألآ يكون لها حدود وقد
ذكر هذا في كتابه ( الوجود والعدم ) الذي وضع فيه جلّ آرائه الفلسفية .
وبذلك جعل الوجودية فلسفة إنسانية جعلت الإنسان مشكلتها الأساسية على اعتبار انه محورالوجود وصانع العلوم والفنون .
في 15/ 4/ 1980ودعت فرنسا والعالم أجمع رجلاً من أعظم رجال القرن العشرين فلسفة وأدباً ومسرحاً , بعد ان سبقه في الرحيل الفيلسوف البريطاني ( برتراند رسل ) عام 1970 , فهل ستعني
وفاة رسل وسارتر أفول نجم الفلسفة وزوالها ؟ أن الإنسانية سوف لن تكون عقيمة وبخيلة فتجود علينا برجل آخر مثل سارتر!
1455 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع