د .سعد ناجي جواد*
أبناء سكيكدة الجزائرية وقبلهم شباب فلسطين يضربون مثلًا في الوطنية.. ماهو الحدّ الفاصل بين حبّ الوطن وكُره النظام فيه؟ وكيف كادت سذاجتي في هذا الموضوع أن تؤدّي بي إلى ما لا تُحمَد عُقباه؟
لابد وأن يهز الخبر الصغير القادم من مدينة سكيكدة الجزائرية المشاعر، وأن يَنتُج عنه مزيج من الفرحة والافتخار بالروح الوطنية التي يمتلكها أبناء هذه البلدة.
يقول الخبر إن مخرجا سينمائيا يصور فيلما هناك حاول أن يُقنع شابًّا واحدًا أن يرفع العلم الفرنسي في لقطة امدها ثوان قليلة، ورغم انه ضاعف اجرة هذا المشهد لأكثر من مرة، الا انه فشل. وهذا العمل ذكرني بمقطع فيديو نشر قبل فترة ليست بالقصيرة لأحداث فلسطينيين بسطاء يحاورهم شاب، وبعد الحوار يخبرهم بانهم قد فازوا بتذكرة سفر ورحلة مجانية ومصرف جيب بالدولار لحضور فعالية رياضية دولية مقدمة من الحكومة الاسرائيلية، وكان جوابهم جميعا هو الرفض.
لقد حاولت الدول الاستعمارية ولفترة طويلة أن تنشر بين شبابنا روح الاستسلام، ويُحاول الإعلام الغربيّ والإسرائيلي أن يروج لفكرة سهولة الحصول على من يتعاون معهم من العرب.
كما ويؤسفني أن اقول أن كمية لا بأس بها من هذه النماذج ظهرت في الوطن العربي، وبالذات في العراق قبل وبعد 2003، وسوريا وليبيا بعد 2011، الأمر المؤسف الآخر أن هذا الصنف من الناس جاء من مشارب فكرية مختلفة، دينية وقومية وعلمانية ويسارية، كلها انحدرت الى هذا المستوى المشين، ومن بينها حتى بعض قادة واعضاء احزاب بنت سمعتها وتاريخها على مقارعة الاستعمار.
الكثير من هذه النماذج برّرت عملها بأنه جاء نتيجة لظلم انظمتهم، وهذا تبرير لا يمكن ان يقبل، لان الوطنية وحب الوطن لا علاقة لهما بالحاكم وظلمه. نعم قد يضطر الانسان ان يهرب من بلده لينجو بحياته ويتحمل الغربة القاسية ويستمر في معارضته، ولكن ان يتعامل مع الاجنبي ضد بلده فهذه وبكل بساطة لا يمكن الا ان توصف بالخيانة.
الحد الفاصل بين الحالتين، ذكرني بحادثتين جرتا معي عندما كنت استاذا في جامعة بغداد. الاولى حدثت بعد أن كتبت دراسة عن المسالة الكردية في ثمانينيات القرن الماضي ختمتها بالمطالبة بعدم نبذ الحلول السلمية والحوار وخاصة مع المتواجدين في الخارج، ومهما كانت العقبات، وعدم اللجوء الى القوة العسكرية لحل الخلافات. وبسبب تلك الدراسة الجريئة تم استدعائي من قبل أكثر الناس اهمية في البلاد آنذاك، وطلب مني توضيحا لما كتبته.
وعندما شرحت رأيي قال لي ولكن بعض قادة هذه الاحزاب عملاء للأجنبي، وكان ردي انه لا يوجد شخص تلده امه عميلا الا ما ندر، وان سياسات الدول وحرمان الناس من حرية الكلام والتعبير عن الآراء يدفع بعض الاشخاص، وخاصة الذين يعانون من ضعف في مبادئهم، الى حضن الاعداء، وبالتالي فان واجب الدولة هو ان لا تجعل مواطنيها يصلون الى هذا المنزلق. وشعرت ان كلامي لم يعجب الرجل الذي ختم كلامه بقوله ان هناك اشخاصا استمرأوا الخيانة والعمالة ولا يرتجى منهم اي امل. وسكت ولم أعقب.
والحادثة الثانية والتي كادت ان توصلني الى محكمة الثورة، والكل يعرف ما معنى ان يحال شخصا ما الى تلك المحكمة، حدثت بعد ان القيت محاضرة في ايام الحصار العصيبة (في التسعينيات) عن الوحدة الوطنية في العراق، طالبت الدولة فيها بان تنفتح على كل اطراف المعارضة الخارجية بكل اتجاهاتها، (والتي وصلت جميعها فيما بعد للحكم)، وان تحاورهم في محاولة لكسبهم بدلا من تركهم ادوات بيد من يضمر شرا للعراق. بعد فترة من القائي للمحاضرة تم استدعائي من قبل احد اعضاء القيادة القطرية لحزب البعث آنذاك والمسؤول عن الجانب الاكاديمي في العراق، الذي بادرني بالقول وبغضب، كيف تطلب منا ان نحاور عملاء وجواسيس، وكان في تلك الاثناء يقرا في اوراق امامه كان واضحا انها تقرير رفع له عن محاضرتي. وكررت عليه نفس ردي السابق، ثم قال هذا كلام غير مقبول منك ابدا. قلت له يا استاذ هل انا قلت هذا الكلام وهربت للخارج؟ انا قلته وكتبته هنا واقوله لك الان بكل صراحة، انا اعتقد ان واجب الدولة ان تَطّلِع على اراء معارضيها وتستوعبهم، واذا وجدت ان هناك من يصر على السير في طريق الخيانة يمكنها ان تنعته بالصفات التي تشاء. وبعد جدال طويل وصعب، تدخلت السيدة منال يونس، رئيسة اتحاد نساء العراق آنذاك، التي كانت حاضرة هذا التحقيق ولم تكن تعرف سببه، وقالت للمسؤول، استاذ قبل يومين انت حضرتك اجتمعت بنا واخبرتنا تعليمات القيادة التي تقول ان علينا كقيادات بعثية ان ننفتح على كل الناس والتوجهات، والدكتور سعد ليس بعثيا ولا يعرف بهذه التعليمات ومع ذلك بادر وفكر وتحدث بنفس الطريقة. هذا الموقف النبيل هدأ من حدة المسؤول وتراجع، ثم قال نحن نعرف وطنية الدكتور ولكن يجب عليه ان لا ينخدع بالخونة والعملاء ويدافع عنهم، وقال انه سيغلق الموضوع. ثم اخبرني احد المقربين منه فيما بعد بانه، اي القيادي الكبير، كان في حيرة من امري هل يوصي بنقلي خارج الجامعة او يطلب احالتي الى محكمة الثورة، ولكن عدل عن ذلك بعد اللقاء.
اليوم وبعد كل هذه السنين يجب ان اعترف باني وبعد الذي جرى في عام 2003، وما زال يجري لحد الان، ليس في العراق فقط وانما في دول عربية اخرى، اكتشفت ان هناك اشخاصا قد ترسخت فيهم روح خيانة اوطانهم، او حب الخضوع الى الاجنبي وتفضيل مصالح الغير على مصلحة وطنهم وشعبهم، ومن خلال هذه الصفات تمكنوا من الحصول على كل ما لم يكونوا يحلمون به. والخشية كل الخشية ان يصبح هؤلاء نماذجا للأجيال الناشئة.
هذا الخوف هو الذي يجعلني وامثالي نفرح بحادثة سكيكدة، وكل انسان يمتلك النزر اليسير من الوطنية لابد وان يفتخر بها، وان يفتخر بشباب فلسطين اللذين يصرون على عدم بيع انفسهم للمحتل رغم كل المغريات ورغم كل الاساليب الارهابية التي تستخدم ضدهم. واتمنى ان تكون هذه النماذج هي التي تحتذي بها الاجيال القادمة. واتمنى على ابناء الجيل الجديد ان يتذكروا دائما قوله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) وكذلك قوله (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَد. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد).
صدق الله العظيم.
والكفر هو ليس فقط الشرك بالله فخيانة الوطن والأمة هو من اشد انواع الكفر.
بارك الله بشباب سكيكدة وشباب فلسطين وكل شباب الامة العربية الذين يثبتون يوما بعد يوم اصالة انتمائهم وحرصهم على وطنيتهم. ولابد لهذه النماذج الطيبة ان تنتصر مهما طال الزمن.
*كاتب وأكاديمي عراقي
1316 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع