نافذة مغلقة - قصة قصيرة

                                                                  

                           بقلم طارق احمد السلطاني

نافذة مغلقة - قصة قصيرة

تحمل جبار كل ما أصابه من بلاء . بلاء الحصار والتضخم والتخلخل الاجتماعي . فقد أخذت الأسعار ترتفع ، والعملة والإيرادات والأموال تصعد وتهبط . الغذاء والدواء والكساء يتناقص يوما بعد يوم !! رغيف الخبز أصبح يباع بخمسين ألف فلس بعد أن كان يباع مقابل عشرة فلوس في الماضي .

طال به الأرق كما طال الليل والألم ! منتظرا حلول الصباح , للذهاب باكرا إلى المصرف من أجل الإسراع في سحب رصيده حتى يتمكن من إنقاذ جزء من أمواله بسبب العملة الآيلة للسقوط . فلم يكن هناك مستقبل باهر ينتظر محله التجاري لبيع وشراء الأثاث المنزلية الجديدة والمستعملة . غير أن جبار لم يهتم بذلك كثيرا , فاستمرار الإنسان بالبقاء هو النجاح بعينه في نظره .
* * *
رأى المصرف مزدحما بالناس والجو شديد الحرارة في داخله . ظل يسير ببطء في هذا الطابور الطويل من زبائن البنك . الضجر والهموم ظاهرة على وجوههم , يطلقون الحسرات والآهات بصوت خافت من أعماق قلوبهم وعقولهم ونفوسهم التي تعاني من شدة الفقر والجوع وموت الأطفال وانتشار أعمال الأجرام المنتشرة في المجتمع ؟ !
* * *
عند الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم تسلم جبار رصيده النقدي من أمينة الصندوق وان ذلك سيسهل عليه تحويل الدنانير إلى عملة أخرى أو ذهب من أجل إنقاذ أبنائه من شبح الفاقة والجوع الذي خيم على الكثير من
الناس وان قسما منهم تحول إلى هياكل عظمية بسبب تآكل مدخراتهم وأصبحوا يعيشون دون خط الفقر فوق أرض من أغنى بقاع العالم ؟ !
لكن جبار ! تكمن في داخله هذه المعاناة البطولية والصبورة للناس . يقوده عقله وحكمته الحسنة . فقد حوّل محله التجاري إلى منظمة إنسانية تقدم خدمات تجارية مجانية في تسهيل بيع قسم من الأثاث المنزلية للناس المحتاجين تحت ظل هذه الظروف المالية الصعبة . فهو يقوم بشراء الأثاث من النسوة اللائي يعرضن عليه قسما من أثاث منزلهن بأسعار مجزية ليس فيها لهن أيّ خسارة أو غبن أو بخس . حتى أن تعامله مع الزبائن بكل أمانة وأدب واحترام وأخلاق طيبة . فحال إطلاعه على الأثاث في البيوت , يقوم بدفع أقيامها نقدا وعلى الفور . فتنطلق كلمات الشكر والفرح والثناء والرضى من أعماق القلوب والنفوس ، وترتسم على الوجوه تلك الفرحة والبسمة دون تملق أو رياء .
* * *
فوجئ بالعديد من النسوة ينتظرن أمام باب المحل ظل مغلقا هذا الصباح . حال جلوسه أمام طاولة الكتابة ، أخذ يقوم بدرج مواصفات الأثاث المعروضة للبيع في سجل المبيعات مع القيمة المطلوبة وعنوان المنزل لكل امرأة على حدة .
فجأة دخل إلى المحل رجل متأنق ، يرتدي بدلة جديدة مع ربطة عنق وقد برز منديل حريري من جيب سترته العلوي . في العقد الخامس من العمر . لكنه صبغ شعر رأسه وشاربه بلون حني مائل إلى الحمرة .
بعد تبادل التحية جلس إلى جانب جبار . لكن شعورا غريبا تملك النسوة

اللائي كن في المحل ! ينظرن إلى هذا الرجل الذي دخل المحل توا باندهاش ! فقد أخذن يتهامسن بصوت خافت والضحكات تختنق داخل صدورهن واضحة وجلية !
* * *
أخذ جبار يتبادل الحديث مع صديقه القديم علاء ، استعادا ذكرياتهما أيام لقائهما في المقهى يوميا ، وكيف كانا يتصايحان أثناء لعبة الدومينو ؟ ! كرر جبار التحية إلى صديقه علاء قائلا :
- أهلا وسهلا سيد علاء كيف حالك ، وكيف حال أطفالك ؟
- بخير والحمد لله ، لكنني قمت ببيع بيتي قبل أيام قليلة ، وقد انتقلت مع أطفالي إلى بيت عمي . أني أبحث عن العمل الآن ، لدي مبلغ كبير من المال , أرغب في استثماره في محلك التجاري .
رد عليه جبار قائلا :
- لا مانع لدي . بشرط أن تكون الشراكة بيننا في البضائع التي سنقوم بشرائها في المستقبل فقط ، وليست البضائع الموجودة في المحل حاليا .
لم يكن الفضول من عادة جبار ، فلم يسأل صديقه علاء عن مصير زوجته فيما إذا كانت ميتة أو مطلقة أو أنها قد هجرته ؛ لأنه يعتبر ذلك من الأمور الشخصية والعائلية .
* * *
في صبيحة اليوم التالي توجها إلى أحدى البيوت التي تعرض قسما من أثاثها .
حال طرق الباب ظهر لهما رجلٌ كبير السن ذو شعر أبيض ، باستغراب وعصبية قال لهما :
- ماذا تريدان ؟
- حضرنا لشراء أثاث معروضة للبيع في بيتكم .
- ليس لدينا ما نبيعه .
- السيدة أم غانم حضرت الى المحل وعرضت علينا بيع طاولة طعام صغيرة مع أربعة كراسي مائدة .
أثناء المحادثة ظهرت أم غانم عند الباب الخارجي وهي تقول :
- نعم أنا أخبرت السيد جبار عن رغبتي في بيع قسم من أثاث المنزل . تفضلا بالدخول .
أم غانم متوسطة العمر ، ترتدي ملابس البيت التي تشبه ملابس النوم . فهي تكشف عن صدرها وكتفيها ، سمراء ذات وجه مستطيل مكتنز اللحم ، لها شفتان غليظتان يابستان مطلية بأحمر شفاه خفيف ، ذات عيون واسعة تغطيها رموش طويلة ، تعلوها حاجبان كثيفان بالشعر .
شعر علاء بالفرح وهو ينظر إلى طاولة الطعام المركونة فوق بلاط المطبخ الكبير . جلس على أحد الكراسي قبالة الطاولة وقال :
- أرجوك يا جبار . أريد الطاولة والكراسي لي . أني بحاجة شديدة لاستعمالها في البيت .
- طيب . خذها لبيتك .
طلبت أم غانم من جبار أن يجلس أيضا لاحتساء قدحا من الشاي ، بينما أخذ علاء يخرج من جيوبه رزما نقدية من فئات كبيرة ويضعها فوق المائدة ! انبهرت أم غانم وهي تنظر إلى كومة النقود المكدسة فوق طاولة الطعام ! بينما شعر جبار بانزعاج شديد من تصرف علاء غيراللائق ، حتى أنه اعتبره عملاً أرعنا قام به شريكه في اليوم الأول من مباشرتهما العمل
سوية ؟ ! أخذ يتحدث في داخله قائلا :
- يظهر أني أخطأت التقدير ، فشريكي هذا ليس عاقلا على الإطلاق ، فهو نصف عاقل ونصف مجنون !
كتم الرد عليه في أعماق نفسه وقلبه لئلا يرد عليه علاء من النصف المجنون من عقله وتقع بينهما مشاجرة في هذا الصباح ؟ ! سمح له بشراء الطاولة والكراسي لحسابه واستعماله الشخصي .
بينما واصل جبار سيره نحو بيوت أخرى وحده .
* * *
استغرب أيوب لمشاهدته دولاب ملابس ذا الست أبواب وقد خلعت منه بابان !
وبعد أن سأل صاحب الدار عن أسباب نقص هذين البابين ؟ رد عليه قائلا : - ولدي يواصل دراسة القانون في كلية الحقوق خارج العاصمة بغداد ، ويحتاج إلى مصاريف الكلية والنقل . وفي أيام عصيبة تجف السيولة النقدية في البيت تماما ! وهذا ما يضطرني إلى خلع أحدى أبواب دولاب الملابس ، أحملها على رأسي لبيعها إلى أحد النجارين وأدفع قيمة الباب إلى ولدي عن مصاريف السفر والكلية .
* * *
حزن جبار حزنا شديدا لحالة البؤس التي تعيشها الناس تحت غيوم الحصار والتضخم والتخلخل الاجتماعي .
البيوت أسرار . أنك عندما ترى الناس في الشوارع أو الأماكن العامة لا يمكنك التعرف على أحوالهم المعاشية أو ما يدور في داخلهم من الآم ويأس وجوع ؟!
لكنك عند دخولك البيوت ، تكشف على الطبيعة . الحقائق المريرة التي يعيشها هؤلاء الناس !
* * *
بعد أسبوع . دخلت امرأة إلى محل جبار ، ترتدي تنّورة قصيرة وضيقة مع قميص حرير شفاف ، تكشف عن معالم جسدها بصورة واضحة ومقصودة. تزينت وتعطرت بعطر القرنفل ، صففت شعرها بتسريحة جميلة ! حيث ردت شعرها إلى الوراء كذيل الفرس الشقراء .
جلست قبالته بعد أدائها تحية الصباح بغنج ودلال . نظر إليها نظرة استغراب واشمئزاز ! فهي تكشف عن صدرها وأعلى ثدييها الكبيرين المحصورين بحمالة ثدي صغيرة . وضعت ساقها الأيمن فوق ساقها الأيسر كشفت عن أفخاذ ملساء خالية من أيِّ شعرٍ أو زغب ، مكتنزة باللحم تشبه بنات الهوى التي تقوم بأداء مشهد إغراء لترغيب الزبون على مضاجعتها أو أنها أحدى بنات الليل تقوم بعرض مفاتن جسدها أثناء جلوسها مع الزبون في أحد المنتديات أو الملاهي الليلية .
نفذ صبر جبار . تحدث إليها بغضب قائلا :
- تفضلي . هل ترغبين في شراء حاجة من المحل ؟
- ألم تتذكرني يا سيد جبار ؟ أنا أم غانم . لقد بعت أليكم طاولة طعام وكراسي قبل أسبوع .
- الحقيقة لم أعرفك جيدا . أنك أمامي اليوم أصغر من سنك الحقيقي بسنوات كثيرة .
وفي داخله ، تراوده الشكوك الشائكة من هذه المرأة ؟ ! لا بد أنها عاهرة وقد قضت أيام شبابها الأول في بيوت الدعارة .
مشهد الإغراء الذي تقوم به أمامي يدل دلالة واضحة عن ترسبات العهر الكامنة في أعماق جسدها ، أنها مشتاقة اليوم للعودة إلى ممارسة عملها السابق كمومس .
لكن جبار ! أشغل نفسه بمراجعة سجل حساباته ، فهو بطبيعته وأخلاقه لا يقترب من العاهرات على الإطلاق ؛ لأنه يعتبر النساء العاهرات شريرات وخطرات ضد الإنسانية والمجتمع !
كرر سؤاله عن طلباتها ، وقبل أن يكمل كلامه ، قالت :
- لدي دولاب ملابس أرغب في بيعه . مصنوع من الخشب الصاج ذو بابين جديد ورخيص الثمن .
- طيب . سوف أحضر إلى بيتك غدا صباحاً ، الساعة الثامنة بالضبط .
* * *
استقبلته عند الباب الخارجي وهي لا زالت ترتدي ثياب النوم الخفيفة ، الشفافة ، تكشف عن معالم جسدها بصورة واضحة .
سارت معه حتى غرفة الجلوس . رأى جبار شخص / أو شخصين ، قد تمدد / أو تمددا فوق قنفة كبيرة وقد غطى نفسه / أو نفسيهما ببطانية كبيرة ولم يظهر منه / أو منهما أيّ شيء . تنبه جبار إلى وجود حركة تحت البطانية ! يبدو أن هذا اشخص الذي يصطنع النوم تحت البطانية لا يرغب أن يراه جبار أو أن يتعرف عليه ؟ ! كما رأى جبار مائدة إفطار جاهزة لأكل ولأشخاص عديدين . حتى أن أم غانم لم تدعوه للجلوس وشرب قدح شاي والوقت كان صباحا كما جرت عليه العادة عند دخول أيِّ شخص أو ضيف إلى بيت بغدادي أو عراقي . بل جلست على أحدى القنفات وقالت له:
- سيد جبار . السلم أمامك . أصعد وشاهد الدولاب في الغرفة العليا .
أخذ جبار يشعر أن ثقلا قويا وقع فوق قدميه وهو يصعد درجات السلم على مهل ! عند صحن السلم استلفت نظره وجود فتاة شابة تقف ما بين باب المطبخ وباب حديدي مفتوح يطل على باحة المنزل الخارجية والحديقة وهي تلطم على وجهها وخديها بصمت ورعب شديدين ؟ !
تسمّرت قدماه وجمدت عند باب الغرفة العليا !! فقد رأى النافذة مغلقة تماماً وان شباك الغرفة الكبير والوحيد قد سمّر وأُغلق بألواح خشبٍ ثخينٍ جداً ! مد رأسه إلى داخل الغرفة ، كانت فارغة تماماً . وقد وضع الدولاب في نهايتها ! انتابه شعور غريب ! شعر بخوف حقيقي !
فالنافذة مغلقة
والغرفة فارغة
والدولاب في مؤخرتها
وشخص يصطنع النوم في الطابق الأرضي
وفتاة تلطم على وجهها وخديها
توقع احتمال وجود شخص أخر يختفي داخل دولاب الملابس ؟ !
تيقن جبار أنه وقع ضحية مؤامرة لقتله وتسليبه ؟ ! أنها جريمة وضعت لها خطة منظمة ودقيقة ! إن هذه الغرفة قد أُعدت مسبقا لتنفيذ جريمة قتل وسرقة منظمة تماما ؟ ! فالنافذة مغلقة تماما وقد غُلفت وسُمّرت بألواح الخشب الثخين . ولا يمكن أن يخترقها أيِّ صوتٍ إلى الخارج حتى لو كانت أصوات أطلاق عيارات نارية ! الحقيقة إن هذه الغرفة قد أُعدت مسرحا محكما لجرائم القتل والتسليب ؟ !
* * *
نزل جبار درجات السلم مسرعا نحو الباب الحديدة المفتوحة المطلة على
باحة المنزل الخارجية والحديقة . اجتاز هذه الفتاة الشابة التي ظلت تقف جامدة أمام باب المطبخ ، شاهد الفرحة والبسمة ترتسم على وجهها ، أخذ يركض بسرعة فوق الممر الأسمنتي حتى الباب الرئيسية الخارجية التي لم تقفل . تنفس الصعداء حال وضع قدميه فوق أرضية رصيف الشارع . عاد إلى الحياة من جديد !
أنقذ نفسه بنفسه وفكره وحدسه عن مؤامرة لجريمة قتل وتسليب دبرتها ضده امرأة خطرة طمعا في الاستيلاء على النقود التي يحملها في جيبه . وليس بعيدا عن قيامهم في سرقة البضائع الموجودة في المحل بعد عملية القتل والتسليب وعثورهم على مفاتيح المحل التي يحملها في جيبه .
* * *
بعد مرور ثلاثة أيام تم العثور على جثة رجل ميت ملفوفة داخل بطانية بعد أن قُتل ورُميت جثته على رصيف أحد الشوارع الجانبية القريبة من بيت أم غانم ؟ !
عند سماع جبار بهذا الخبر تحدث إلى نفسه قائلا :
- الحمد لله . أنقذت نفسي بأعجوبة من موت محقق . فانتباهي إلى النافذة المغلقة أوقف رحيلي إلى العالم السفلي . رحم الله روح القتيل الملفوف داخل البطانية .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1288 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع