د. جابر أبي جابر
نبوءة دوستويفسكي في رواية "الشياطين"
الشياطين – رواية أهجية ذات مضمون اجتماعي سياسي وبعد درامي نفسي تكشف بصورة جلية عن الخطر الكامن وراء الحركات الراديكالية والتيارات النهلستية في عصر الكاتب. فهي مفعمة بالتنبؤ والتحذير من تفشي النزعات الثورية والإلحادية في المجتمع الروسي. هذه الرواية أكثر أعمال دوستويفسكي تسييساً. وقد قام المؤلف بتأليفها في مطلع العقد الثامن من القرن 19 تحت تأثير إنطباعاته عن إرهاصات الحركات الإرهابية والثورية في اوساط الإنتلجنسيا الروسية والشرائح الاجتماعية المتوسطة. وأصبحت قضية مقتل عضو الحلقة الثورية الإرهابية " انتقام الشعب" الطالب ايفانوف لرفضه تنفيذ أوامر زعيم الحلقة سيرغي نيتشابف، الأصل المباشر لحبكة أحداث الرواية.
وقد جرت عقب ذلك محاكمة بعض أعضاء هذا التنظيم السري ونشر في الصحف العديد من الوثائق المتعلقة بهذه المحاكمة، التي أثارت صدى واسعاً في الأوساط الاجتماعية الروسية.
ومن ضمن هذه الوثائق كتاب" تعليم الثوري"، الذي يبرر أي عمل أو جرم إذا ارتكب من أجل مصلحة الثورة. وإلى جانب هذه القضية دفع دوستويفسكي إلى تأليف روايته الأهجية" الشياطين" عاملان آخران وهما حضور الكاتب لجلسات الكونغرس الأول لعصبة السلام والحرية في عام 1867 بمدينة جنيف واستماعه إلى الخطاب المؤثر والاستفزازي لنائب رئيس الرئيس الزعيم الأناركي باكونين، الذي طالب بتحطيم الإمبراطورية الروسية وعموماً كافة الدول ذات النظام المركزي المفرط. كما صُعق الكاتب عندما أعلن الخطباء من على المنبر أمام حشد كبير عن ضرورة سحق الإيمان المسيحي وإلغاء الملكية الخاصة. أما العامل الثاني فكان خصومته مع زميله في التأليف الأدبي الشاعر والكاتب الليبرالي ايفان تورغينيف وقطيعته النهائية معه في العام نفسه. ولم تكن القطيعة بين الكاتبين الروسيين ناجمة عن مشاعر نفور وكراهية شخصية وإنما جاءت نتيجة خلافات فكرية عميقة بين شخصين يعتنقان آراء وعقائد مختلفة تماماً. فإن تورغينيف نصير متحمس للمجتمع الغربي ومن دعاة إدخال أشكال الحكم البرلماني في روسيا، أما دوستويفسكي فقد أصبح بعد سنوات الأشغال الشاقة والنفي في سيبيريا مسيحياً جامحاً مؤمناً بالنظام الملكي وخصماً لدوداً للحضارة البرجوازية الغربية.
وفي هذه الرواية يفضح دوستويفسكي زميله تورغينيف عبر شخصية "الكاتب العظيم" كرامزينوف النموذج الليبرالي، الذي يبغضه ويعتبره مسؤولاً عن ظهور أشخاص إرهابيين في روسيا من أمثال نيتشايف وكراكوزوف .
تتحدث الرواية عن مدينة صغيرة وهي مركز لإحدى المقاطعات الروسية انزلقت نحو الفوضى بعد أن صارت المعقل الرئيسي للمتآمرين بقيادة بيوتر فرخوفنسكي. ونرى إلى جانبه نظيره الأرستقراطي الغامض نيكولاي ستافروغين، الذي يمارس تأثيره البالغ على أغلبية الشخصيات الروائية الأخرى. ويسعى بيوتر لإشراكه في الحركة الثورية بعد أن تسنى له جمع حلقة في المدينة من الشباب الثوري وضمنهم الفيلسوف الراديكالي شيغاليوف و"المطلع على أحوال الشعب" تولكاتشينكو والضابط المتقاعد فرغينسكي وغيرهم. وهو يخطط لقتل الطالب ايفان شاتوف الذي ينوي قطع صلاته بالثوريين ويعتزم، حسب زعم بيوتر، الإبلاغ عنهم نظراً لشغفه بفكرة الشعب المتوشح بالله. أما في الواقع فإن بيوتر يريد دم شاتوف لترسيخ الرابطة التي تشد الجماعة بعضها إلى بعض.
الشخصيات الرئيسية
نيكولاي ستافروغين: "الشيطان" الرئيسي في الرواية. شاب من النبلاء له شخصية قوية وجذابة للغاية. ذكي جداً وموهوب ووسيم. يعيش حياة مزدوجة ويخفي عن والدته كافة آرائه الحقيقية. درس في بطرسبورغ ثم التحق بالجيش. ولكنه انغمس في المجون ومارس حياة طائشة. تزوج سراً من ماريا ماتفييفنا العرجاء وضعيفة العقل ليتركها بعد يوم واحد. ومن المستغرب أنه تصرف معها فيما بعد على نحو لائق. ولكنه في الوقت نفسه أغوى فتاة قاصرة سرعان ما أقدمت على الانتحار. وبعد ذلك سافر ستافروغين إلى الخارج حيث قام بجولات عديدة في أوروبا، ثم ذهب إلى الولايات المتحدة التي توجه إليها العديد من الشباب الروس "التقدميين" في محاولة لتحقيق تطلعاتهم في دولة ديمقراطية جديدة. وهناك التقى باثنين من المهاجرين وهما شاتوف وكيريلوف وألهمهما بفكرتين متعارضتين تماماً. فأوحى إلى شاتوف أنه بدون الإيمان بالله لا يمكن للشعب أن يعيش وأن رسالة الشعب الروسي تكمن في أن يكشف للعالم الكافر صورة الرب الروسي، المسيح المحفوظة في روسيا. وحتى لو ثبت رياضياً أن الحق خارج المسيح فيجب على المرء أن يبقى مع المسيح وليس مع الحق. أما بالنسبة لكيريلوف فقد أوحى إليه بأن الله مات أي أنه نسي الناس وأن وجوده لا يعني إليهم شيئاً. ولهذا فإن الإنسان إذ يدرك هذا الامر عليه "أن يعلن إرادته" ويستبدل الله بنفسه. وإن الخطوة الأكثر حسماً إزاء ذلك هو الانتحار للبرهان على أنك سيد نفسك وحياتك تماماً. وفي سويسرا انتسب ستافروغين بدافع الملل إلى تنظيم ثوري أسسه"الاشتراكي المحتال" بيوتر فرخوفنسكي.
وقد قام ستافروغين بمساعدة بيوتر فرخوفنسكي في تحقيق خططه الرامية إلى تشكيل تنظيم سري. غير أنه ادرك في اللحظة الأخيرة ضلاله وجنون كل ما يحدث. ولذلك ابتعد عن الثوريين وانغلق على نفسه وهو يعاني من وخز الضمير. وقد فتنت شخصيته الغامضة والجذابة الفتاة داريا(داشا) شقيقة الرفيق المقتول شاتوف وكذلك الفتاة إليزابيت توشينا (ليزا) وهي من النبلاء الأثرياء. وفي نهاية الرواية لم يجد ستافروغين أمامه مخرجاً سوى الانتحار. يتناول بعض الأطباء والباحثين النفسانيين شخصية ستافروغين من وجهة النظر المهنية ويرون أن تصرفاته الغريبة ناجمة عن كونه قد أصيب بمرض انفصام الشخصية.
بيوتر فرخوفنسكي: شاب مستهتر لا مبدأ له. نهلستي وثوري تربى بعيداً عن والده ستيبان فرخوفنسكي، الذي كان كان صديقاً حميماً لوالدة ستافروغين الثرية، التي عاش على نفقتها طيلة 20 عاماً. يتصف بيوتر بذكاء شديد ومكر فظيع. وهو قادر على اكتساب ثقة الناس بسهولة. وهو أيضاً وقح وحقود ووغد. وقد كان متورطاً في كافة النكبات تقريباً، التي حدثت في الرواية. وهو لا يقيم وزناً للناس على الإطلاق وينطبق ذلك حتى على موقفه من والده. لديه رغبة جامحة في هدم النظام القديم وبناء عالم جديد. معجب حتى الجنون بشخصية ستافروغين حيث يعتبره مثله الأعلى، الذي ينبغي ان يصبح الشخصية المحورية في "مشروعه العظيم". وخلال عرضه لبرنامجه السياسي أثناء اجتماع التنظيم الثوري يعلن توقعاته التالية لما سيحل بروسيا : " إننا منذ الآن نرى الإله الروسي قد أذعن للخمرة الرخيصة الثمن. فالشعب يشرب والأمهات تشربن والأولاد يشربون والكنائس خالية مقفرة، وماذا نسمع عن محاكم القرويين؟" سطل خمرة وإلا فمئتا جلدة!". دع لهذا الجيل أن يكبر فقط! للأسف نحن مستعجلون، فلو كان في وسعنا أن ننتظر، لما أصبحوا جميعاً إلا أشد سكراً. وللأسف أيضاً أنه لا توجد بروليتاريا. ولكنها ستوجد... ستوجد!...نحن سائرون إلى هذا."
بربارة ستافروغينا: والدة نيكولاي. وهي ابنه لتاجر ثري وأرملة إقطاعي وجنرال تتمتع بسمعة كبيرة في المدينة. قوية وذات شخصية مهيبة وامرأة واثقة من نفسها تدير أمورها الاقتصادية بنجاح ويعيش في منزلها ستيبان فرخوفنسكي، الذي تربطها معه علاقة يشوبها الغرابة إلى حد كاف. وهي تتعامل مع جميع الذين يعيشون في منزلها بشكل استبدادي. ولكنها، في الوقت نفسه، تقع تحت تأثير بيوتر فرخوفنسكي، الذي أوغر صدرها على والده. وفي نهاية الرواية تفقد ابنها نيكولاي وصديقها العزيز ستيبان فرخوفنسكي. ستيبان فرخوفنسكي: رجل مسن ومثقف من النبلاء نشأ وترعرع على الأفكار الليبرالية والمثالية ينتمي إلى جيل أربعينيات القرن التاسع عشر، الذي بدأ ممثلوه في إدخال الأفكار التقدمية إلى الوعي الاجتماعي الروسي ولكن دون الدعوات إلى استخدام العنف. غير عملي وعاجز عن التكييف مع صعوبات الحياة. رقيق الشعور وميّال إلى كثرة البكاء. كان معلماً لنيكولاي ستافروغين ثم بقي يعيش عند بربارة ستافروغينا على نفقتها التامة حيث نشأت بينهما علاقات سامية افلاطونية.
جمع فرخوفنسكي الأب حوله حلقة صغيرة كانت تجري خلالها في المساء أحاديث سياسية فارغة المضمون عموماً. محب للتحدث مطولاً و يميل إلى التصنع . وتميّزت شخصيته بشدة الارتياب والغرور، ولكنه، في الوقت نفسه، ذكي جداً وثاقب الفكر. وقد أدرك فوراً مدى التأثير المهلك الذي يمارسه ابنه على المحيطين به. كان معلماً لكثيرين من شخصيات الرواية. وكان وسيماً في شبابه. غير انه الآن أصبح مترهلاً في العقد السادس من عمره مولعاً بورق اللعب ولا يحرم نفسه من الشمبانيا.
وخلال حفلة المدينة المخصصة لمساعدة مربيات الأطفال، التي كان مدعواً إليها للحديث أمام الجمهور، دخل في صراع أخير مع النهلستيين حيث تلا كلمة حول أهمية الجمال الذي سينقذ العالم ودافع عن روفائيل وشكسبير. وعقب ذلك وجد نفسه عاجزاً عن تحمل الاستهزاء من جهة الحاضرين، إلى جانب وضعه كشخص عالة على غيره، فقرر مغادرة منزل ستافروغينا والانطلاق في رحلة مرض خلالها ثم فارق الحياة بين يدي بربارة ستافروغينا بعد أن آمن بالله إيماناً صادقاً.
يتصدر الرواية الاقتباس التالي من إنجيل لوقا: "وكان هناك قطيع كبير من الخنازير يرعى في الجبل، فتضرعت الشياطين إلى يسوع أن تدخل في الخنازير، فأذن لها. فخرجت من ذلك الإنسان ودخلت في الخنازير، فاندفع القطيع من أعلى الجرف إلى البحيرة وغرق فيها. فلما رأى رعاة القطيع ما حدث هربوا ونشروا النبأ في المدينة وفي القرى. فخرجوا ليروا ما جرى. وجاءوا إلى يسوع فوجدوا الإنسان الذي كانت الشياطين قد خرجت منه، وجدوه لابساً ثيابه، مالكاً عقله، جالساً عند قدمي يسوع، وروى لهم شهود الحادث كيف خلص المجنون( إنجيل لوقا، الإصحاح الثاني، 32).
تجري أحداث الرواية في مدينة صغيرة بإحدى مقاطعات روسيا حيث تجتمع مجموعة من الشباب ذوي الميول الاشتراكية برئاسة بيوتر فرخوفنسكي، الذي أنشأ تنظيماً ثورياً لتأجيج ميول التمرد في أوساط السكان. كما أن نيكولاي ستافروغين القادم إلى المدينة يجد نفسه متورطاً في المشاركة بحلقة ثورية. يقص الأحداث الراوي(المؤرخ) ويبدأ حديثه عن سيرة ستيبان فرخوفنسكي المثقف المثالي الحالم من جيل الأربعينات وتصويره للعلاقات الأفلاطونية المعقدة مع بربارة ستافروغينا السيدة الشهيرة في المقاطعة والتي يتمتع ستيبان برعايتها. ويشير الراوي إلى أن فرخوفنسكي الاب جمع حوله شبيبة محلية ذات ميول ليبرالية وكان مربياً للعديد من أبطال الرواية ومن ضمنهم نيكولاي ستافروغين، الذي من المتوقع وصوله إلى المدينة. وهو شخص غامض ورومانسي تثار حوله إشاعات كثيرة. والمعروف انه خدم في الجيش بفوج الحرس النخبوي وخاض المبارزات وتم تخفيض رتبته من جراء ذلك. كما عرف عنه أنه انغمس في بطرسبورغ في المجون وفي أقصى حالات التهتك. وحينما زار مسقط رأسه منذ أربع سنوات تورط في مشاكل جمة حيث أتى بأعمال وتصرفات غريبة فتسبب في نشوء موقف عام ساخط ضده. ومن ذلك أنه جر الرجل المحترم غاغانوف من أنفه عدة خطوات وعض أذن حاكم المقاطعة السابق بشكل مؤلم. كما قبّل علناً امرأة شخص آخر. وفي نهاية المطاف جرى تفسير ذلك كله بالهذيان الرعاشي. وبعد أن تعافى ذهب إلى الخارج.
أما والدته فإنها قلقة بخصوص اهتمام ابنها بربيبتها داريا شاتوفا حيث أنها مهتمة بزواج نيكولاي من ابنة صديقتها المفضلة ليزا توشينا. كما أنها قررت تزويج ستيبان فرخوفنسكي من داريا الشابة البالغة من العمر 20 عاماً. وقد أحدث هذا الأمر حالة رعب في نفس الرجل المسن الخاضع لرعايتها مع ان هذا المشروع، من جهة أخرى، لا يخلو من الحماس بالنسبة له. ولذلك فهو يجهز نفسه لطلب يد الفتاة.
وفي كاتدرائية المدينة تقترب ماريا ماتفييفنا العرجاء من بربارا ستافروغينا أثناء القداس وتقبل يدها. وكانت هذه السيدة قد تلقت مؤخراً رسالة من شخص مجهول تخبرها أن امرأة عرجاء ستلعب دوراً جاداً في مصيرها. ولهذا دعتها إلى منزلها وذهبت معها ليزا التي التقت بها في الكنيسة أيضاً. و هناك في المنزل كان ينتظرها ستيبان فرخوفنسكي المتحمس والقلق بعض الشيء نظراً لأنه من المقرر في هذا اليوم أن يتم حسم مسألة زواجه من داريا. ومع ظهور داشا وجهت ماريا إليها اتهاماً مفاده أنها سلمت إلى شقيقها 300 روبل فقط وليس المبلغ الكبير الذي وعد به نيكولاي. وأكدت بربارة إلى ربيبتها بأنها ستدافع عنها من هذا الافتراء. ولدى رؤيتها لداشا اشتعلت الكراهية والازدراء في عيني ليزا على نحو لا يُخفى.
وسرعان ما يظهر هناك الكابتن ليبيادكين، الذي جاء من أجل شقيقته ماريا موضحاً للحاضرين أنها فقدت رشدها. ثم شرع يلمح بشأن سر ما ويتلو اشعاراً من تأليفه ينوه فيها إلى ذلك السر الرهيب مما أثار غضب بربارة. على كل حال لم يكن لديها الوقت للتعبير عن غضبها على الكابتن حيث أُعلن فجأة عن وصول نيكولاي ستافروغين،الذي كانوا ينتظرونه بعد شهر فقط.
وفي البداية يظهر بيوتر المهتاج والمتململ وبعده الوسيم الرومانسي الشاحب الوجه ستافروغين. وتطرح بربارة فوراً على ابنها السؤال المتعلق بزواجه السري من ماريا تيموفييفنا وعوضاً عن الرد سارع إلى تقبيل يدها وهو صامت تماماً. ثم يمسك بذراع العرجاء ويقودها بعناية إلى العربة. وخلال هذا الوقت يروي بيوتر قصة حول قيام نيكولاي في بطرسبورغ بتقديم المساعدة للكابتن ليبيادكين وشقيقته ماريا إذ لم يكن لديهما أي سكن للجوء إليه. فكانا يسكنان تارة عند هؤلاء وتارة عند أولئك.
وخلال ذلك خطف نيكولاي بصر ماريا وفتن لبها مظهره إلى حد كبير بحيث أنها باتت تحدّث الجميع بأنه خطيبها. وحول هذا الأمر بالذات كتب فاعلو الخير المجهولون في رسالتهم إلى بربارة. وقد تأثرت بربارة للغاية بسلوك ابنها حتى أنها قررت أن تتبنى هذه المخلوقة البائسة الفقيرة, وعلى نحو غير متوقع تصاب ليزا بنوبة هسترية. وفي هذه اللحظة اقترب شاتوف من ستافروغين ووجه إليه صفعة على خده بكل قوته. والمعروف عن الأخير أن بوسعه عادة أن يقتل المسيء إليه على الفور، لكنه في هذه المرة بات شاحب الوجه للغاية وغير قادر على تحمل هذا التوتر وآنذاك أغمي على ليزا. ويخرج شاتوف دون أن يمنعه أحد. وتمر ثمانية أيام لا يستقبل ستافروغين خلالها أي شخص. وتنتهي فترة اعتزاله بمجيء بيوتر إليه حيث يعلن له استعداده للقيام بأي شيء من أجله. ويعلمه بشأن التنظيم السري، الذي ينبغي أن يحضرا كلاهما اجتماعه. وبعد ذلك بوقت قصير يقوم نيكولاي بزيارة كيريلوف، الذي يقدره عظيم التقدير ويعلمه أنه لا يزال يؤمن بفكرته وهي تكمن في ضرورة التخلص من الله الذي هو في حقيقة الأمر ليس سوى" ألم الخوف من الموت" والإعلان عن إرادة الذات من خلال قتل نفسه ويصبح على هذا النحو إنساناً إلهاً. ثم يذهب ستافروغين إلى شاتوف، الذي يعيش في نفس العمارة ويخبره بأنه فعلاً قام منذ خمس سنوات بعقد قرانه على ليبيادكينا وأنه يعتزم قريباً الإعلان عن ذلك أمام الملأ. وفي الوقت نفسه يحذر شاتوف بكل شهامة بأنهم سيقتلوه. ومن جهته يكشف شاتوف لسافروغين، الذي كان له في السابق تأثير كبير عليه، فكرته الجديدة عن الشعب الروسي. وينصح نيكولاي الأرستقراطي بالتخلي عن ثروته والتوصل إلى الله من خلال عمله كفلاح. ولكنه شعر بالحرج في الرد على سؤال نيكولاي بخصوص إيمانه بالله حيث قال أنه يؤمن بالأرثوذكسية وبروسيا وأنه سيؤمن بالله. وفي الليلة ذاتها يتوجه ستافروغين إلى منزل الكابتن ليبيادكين. وفي الطريق يصطدم بالمجرم الهارب فدكا، الذي أرسله بيوتر. وهو يعرب عن استعداده لتنفيذ إرادة سيده مهما كانت وذلك لقاء المال. ولكن ستافروغين يطرده. ثم يخبر لبيادكين أنه بصدد الإعلان عن زواجه من ماريا ليبيادكينا أمام الناس. وتلتقي ماريا تيموفييفنا ستافروغين بقصة عن حلم مشؤوم فيسألها هل هي مستعدة للذهاب معه إلى سويسرا والعيش هناك بصورة منعزلة بقية حياتها. فتصرخ العرجاء غاضبة بأن ستافروغين ليس أميراَ وأن أميرها الصقر النبيل قد استبدلوه. اما هو فإنه محتال ولديه سكين في جيبه. ويتراجع ستافروغين على خلفية صيحاتها وضحكها.
وفي طريق العودة يلتقي ستافروغين مجدداً بفدكا ويحدثه المجرم الهارب حول "فلسفته" في السرقة والقتل مردداً عبارة" يستحيل علينا أن نعيش مستغنين عن مساعدة الآخرين" وفي النهاية يرمي إلى فدكا خمسين روبلاً من أوراق صغيرة كانت تسقط في الوحل.
وفي اليوم التالي جرت هناك مبارزة بين ستافروغين والنبيل المحلي أرتمي غاغانوف، الذي دعاه إليها لإهانته والده. ويقوم غاغانوف المستشاط غضباً بإطلاق النار ثلاث مرات ولكنه يخطئ الهدف. أما ستافروغين فيعلن عدم رغبته في قتل أي شخص ويطلق الرصاص في الهواء ثلاث مرات بصورة استعراضية. وقد رفعت هذه الحادثة ستافروغين إلى حد كبير في أعين المجتمع. ومن جهة أخرى ظهرت في المدينة آنذاك حالات مزاجية طائشة ونزعة نحو شتى أشكال اللهو المتسم بالتجديف. ومن ذلك السخرية من المتزوجين حديثاً وتدنيس الأيقونات.
وفي هذه الأثناء يقوم فرخوفنسكي الابن بنشاط عاصف. فقد أصبح من زوار منزل الحاكم نظراً لتمتعه برعاية زوجته جوليا ميخائيلوفنا، التي تعتقد انه مرتبط بالحركة الثورية وتحلم بكشف المؤامرة على الدولة بمساعدته. وفي لقائه مع حاكم المقاطعة فون لمبكه، الذي يشعر بقلق بالغ إزاء ما يحدث، يبوح بيوتر له ببعض الأسماء ومنها شاتوف وكيريلوف. ولكنه في الوقت نفسه يطلب منه الانتظار 6 أيام ليكشف له عن التنظيم بأكمله.
وبعد ذلك يهرع إلى كيريلوف وشاتوف ويبلغهما عن اجتماع "الجماعة" وضرورة الحضور. ثم يعرج على نيكولاي، الذي زاره للتو مافريكي نيكولايفتش خطيب ليزا توشينا ليقترح عليه الزواج منها حيث أنها، حسب قوله، رغم كراهيتها لنيكولاي فهي في الوقت نفسه تحبه. ويعترف ستافروغين له بأنه لا يستطيع القيام بذلك بأي حال من الأحوال نظراً لانه متزوج. ثم يتوجه مع بيوتر إلى الاجتماع السري. وفي الاجتماع يتحدث شيغاليوف المتجهم حول برنامجه بخصوص" الحل النهائي للقضية"، الذي يكمن في تقسيم البشرية إلى قسمين غير متكافئين حيث يحصل عُشرهما على الحرية وينال سلطة غير محدودة على التسعة أعشار المتبقية التي تتحول إلى شبه قطيع. ثم يطرح بيوتر سؤالاً استفزازياً وهو: هل سيبلغ المشاركون في الاجتماع السلطات إذا علموا بحدوث اغتيال سياسي وشيك؟ وفجأة ينهض شاتوف ويصف بيوتر بأنه وغد وجاسوس ويغادر الاجتماع. وهذا بالضبط ما كان يحتاجه بيوتر، الذي يعتزم التضحية بشاتوف من أجل ترسيخ الرابطة التي تشد الجماعة بعضها إلى بعض. ويلحق بيوتر بنيكولاي، الذي خرج مع كيريلوف ويطلعه وهو في حالة هذيان على نواياه الجنونية. وهي تتجلى في إحداث فتنة كبيرة ويؤكد على أنه سيكون هناك حركة ناشطة مطردة لم يعرفها العالم بعد وستغرق روسيا في الظلام وتبكي الأرض على الآلهة القديمة. وعند ذلك ستظهر الحاجة إليه أي إلى ستافروغين الوسيم والأرستقراطي" ابن القيصر". ويدرك بيوتر أنه من أجل تأمين نجاح الانقلاب الثوري هناك حاجة ماسة إلى زعيم يتمتع بجاذبية قوية وتأثير سحري على الناس. وهو نفسه لا يصلح لمثل هذا الدور. ولكن دوستويفسكي يظهر لنا من خلال شخصية الزعيم المقترح نيكولاي ستافروغين أن الزعماء الذين من المفترض أن يكونوا بالذات الأفضل من الآخرين مصابون بعدم الإيمان ويشكلون نوعاً من الثقب الأسود الذي تقتحمه القوى الشريرة. فإلى جانب ستافروغين تشتد قوة الصفات السلبية لدى جميع من حوله مثل شاتوف وكيريلوف وفرخوفنسكي الابن وليزا. ولسوء الحظ لم يُفهم موقف دوستويفسكي هذا.
وإذ يبدو لبيوتر أن نيكولاي يرغب في التخلص من زوجته العرجاء فيقترج عليه المساعدة في حل هذه المشكلة عن طريق المجرم الهارب فدكا المستعد لإنجاز أي "عمل" لقاء المال. ويرفض ستافروغين العرض وهو في حالة رعب من اقتراح كهذا، لكن الفكرة تنطبع في قلبه المتعكر.
وتتطور الأحداث على نحو عاصف حيث يأتي موظفون إلى مكان سكن ستيفان فرخوفنسكي ويقومون بتفتيش كتبه وأوراقه ثم يأخذون معهم العديد منها. كما يوفد عمال مصنع شبيغولين مندوبين عنهم لمقابلة حاكم المقاطعة فون لمبكه من أجل تقديم شكواهم إليه. ولكن ينتاب الحاكم سورة غضب إذ يعتبر ذلك أمراً شبيهاً بالعصيان. ثم يقوم بتوبيخ فرخوفنسكي الأب. ومن جهة أخرى يعلن ستافروغين أن ماريا ماتفييفنا زوجته مما يربك الحاضرين. ويحل يوم حفلة المدينة الذي طال انتظاره والذي أطلق عليه تسمية "اليوم المشهود". وقد قسم هذا الاحتفال الكبير إلى شطرين حيث يضم الأول قراءة "الكاتب العظيم" كرمزينوف لمؤلفه الوداعي"شكراً". ويعود النموذج الأصلي لشخصية كرمازينوف في "الشياطين" إلى الروائي الروسي الكلاسيكي إيفان تورغينيف. فإن العداء الطويل الأمد، الذي يناصبه مؤلف الرواية لهذا الروائي الليبرالي، قد ألهمه على أن ينتقم منه في هذه الرواية. فتحت عبارة"الكاتب العظيم" يعرض دوستويفسكي نموذج البرجوازي من مدينة بادن بادن" الألمانية ويسخر بخبث من مظهره ومن صوته الصاخب وطريقة انحنائه للتقبيل وإدارة خده. كما يستهزئ من حديثه معه في بلدة كارلسوه حيث قال تورغينيف آنذاك "إنني أعيش هنا للسنة السابعة. وعندما كان من المزمع أن يقوم مجلس البلدية بوضع أنبوب جديد لتصريف المياه شعرت في قلبي أن هذه المسألة أحب إليَّ وأعز عليَّ من جميع قضايا الوطن الأم خلال مجمل ما يسمى بالإصلاحات الجارية هناك" . ويتيح الكاريكاتور الخاص بشخصية "الكاتب العظيم" محاكاة ساخرة لمؤلفات تورغينيف مثل "الأشباح" و"كفى!" وكذلك قراءة "شكراً" أثناء هذا الاحتفال الكبير. ثم تحدث بعد كرمازينوف ستيبان فرخوفنسكي، الذي دافع بحماس عن روفائيل وشكسبير ضد العدميين ولكن كلمته أثارت استهجان الجمهور فغادر المنصة وهو يلعن الجميع بكل كبرياء. وخلال هذا الوقت يغدو معلوماً أن ليزا توشينا انتقلت في وضح النهار فجأة من عربتها إلى عربة ستافروغين تاركة خطيبها مافريكي نيكولايفتش هناك وهي متوجهة إلى ضيعة عائلة ستافروغين في سكفوروشنيكي.
أما الشق الثاني من برنامج الاحتفال فيكمن في حفلة راقصة تمثل عملاً مجازياً قبيحاً ومضحكاً حيث يخرج الحاكم وزوجته عن طورهما من شدة الاستياء الناجم عن فوضى مذهلة هناك. وفي هذا الوقت يجري الإبلاغ عن اشتغال النيران في منطقة زارتشيه. وقد زُعم ان عمال مصنع شبيغولين هم وراء ذلك. كما يصل إلى الأهالي خبر مقتل ليبيادكين وشقيقته ماريا ماتفييفنا والخادمة. ويتوجه الحاكم إلى مكان الحريق حيث يقع عليه لوح خشبي كبير من سقف أحد البيوت. وخلال الاجتماع، الذي عقده بيوتر مع الخمسة الأوائل في التنظيم لبحث الأوضاع الأخيرة في المدينة، حاول رئيس التنظيم ابعاد مسؤوليته عن الأحداث الجارية مؤكداً أنه كلف ليبوتين بإرسال ليبيادكين وشقيقته إلى بطرسبورغ وزعم أن ليبيادكين كان يعتزم توجيه رسالة إلى حاكم المقاطعة يبلغه فيها عن أسرار التنظيم. ولكي تصدق المجموعة كلامه أبرز هذه الرسالة ليقرؤوها. وكان بيوتر الخبيث قد أعدها بنفسه سلفاً. ومع ذلك فقد ذكّره شيغالوف بنواياه، التي سبق أن حدثه عنها، حيث قال آنذاك" هناك شبكة تغطي روسيا كلها وإن جماعتنا ليست إلا حلقة من هذه الشبكة، فكل جماعة من الجماعات، وهي جزء من الحزب الذي يتفرع ويتفرع إلى ما غير نهاية ، يجب عليها أن تقوم بدعاية منظمة تقوض السلطات المحلية، وتنشر الاضطراب في الأرياف، وتثير الفضائح، وتذكي الرغبة في حال أفضل، وكذلك تعمد إلى إشعال الحرائق لتغرق البلاد في وهدة اليأس عندما يحين الوقت المناسب".
وفي غضون ذلك يستقبل ستافروغين وليزا الصباح معاً في سكفوروشنيكي وتعتزم ليزا المغادرة وهي تبذل قصارى جهدها لإزعاج نيكولاي، الذي، على العكس، كان في مزاج عاطفي غير معهود بالنسبة له. وهو يتساءل لماذا جاءت إليه ولماذا وهبته إذن" تلك السعادة كلها". واقترح عليها الذهاب معاً، لكنها تتقبل اقتراحه بالاستهزاء رغم أن عينيها تلألأتا فجأة للحظة.
ويطفو على حديثهما بشكل خفي موضوع الجريمة ولكن كمجرد تلميح. وفي هذه اللحظة يظهر بيوتر، الذي يتمكن من ارتياد أماكن كثيرة، ويخبر نيكولاي تفاصيل القتل والحريق في زاريتشيه. ويقول ستافروغين لليزا بعد أن يخبرها بأن المجرم المحكوم بالأشغال الشاقة فدكا قتل زوجته ماريا وشقيقها ليبيادكين والخادمة ويضيف" لم أقتل، وكنت أعارض هذا القتل، غير أنني كنت أعلم أنهم سيقتلونهم، فلم أمنع القتلة من ارتكاب ما ارتكبوه". وتغادر ليزا منزل ستافروغين وهي في حالة هستيرية، وينتظرها في مكان ليس بالبعيد خطيبها الوفي مافريكي نيكولايفتش، الذي جلس طيلة الليلة تحت المطر. ثم يتوجهان معاً إلى مكان الجريمة ويلتقيان في الطريق بستيبان فرخوفنسكي، الذي قال" إنني هارب من هذيانهم. سأنتزع نفسي من كوابيسهم، فأنا ماض أبحث عن روسيا...".
وفي وسط الحشد قرب الحريق يتعرفون على ليزا باعتبارها من شلة ستافروغين. وقد راجت إشاعة تقول أن مقتل العرجاء جريمة مبيتة من قبله لكي يتخلص من زوجته ويتزوج من امرأة اخرى. وفي هذه الأثناء يقدم أحدهم على ضرب ليزا ضرباً مبرحاً فتقع غلى الأرض بفعل هذه الضربة. أما مافريكي، الذي تخلف عنها فقد جاء متأخراً، إذ نقلت ليزا إلى المستشفى وكانت لا تزال على قيد الحياة ولكنها سرعان ما غابت عن وعيها.
ويتابع بيوتر أشغاله ومساعية الكثيرة. فهو يجمع الخمسة الأوائل في التنظيم ويعلن لهم أنه يجري إعداد وشاية عليهم وأن الواشي هو شاتوف. ولذلك يجب تصفيته على الفور. وبعد بعض الشكوك والتردد في الأمر يتفقوا على أن القضية العامة أهم من كل شيء. ويذهب بيوتر إلى كيريلوف بصحبة ليبوتين لكي يذكره بالاتفاق الذي تم بينهما والذي بموجبه يأخذ كيريلوف على عاتقه مسؤوليته مقتل شاتوف.
وعند كيريلوف يجلس في المطبخ المجرم الهارب فدكا وهو يشرب الفودكا ويأكل. ويستل بيوتر مسدسه غاضباً ويوبخه على عصيانه أوامره والمجيء إلى هناك. ثم يعلن بيوتر لليبوتين أن فدكا يشرب الفودكا للمرة الاخيرة في حياته. وبالفعل يصبح معلوماً في الصباح أنه تم العثور على فدكا مقتولاً ورأسه محطماً على بعد 7 فراسخ (أي قرابة 7,6 كم) من المدينة. ولم يعد لدى ليبوتين، الذي اعتزم الهرب من المدينة، أدنى شك في جبروت بيوتر السري ولذلك يبقى مع التنظيم. وفي المساء تأتي إلى بيت شاتوف زوجته ماريا، التي كانت قد تركته في سويسرا بعد أسبوعين من زواجهما. وهي الآن حامل وتطلب منه إيواءها موقتاً. وبعد وقت قصير يعرّج عليه الضابط الشاب ايركيل من"الجماعة" ويخبره عن تحديد اللقاء في يوم غد بذريعة تسليم المطبعة المخبأة.
وفي الليل يبدأ المخاض عند زوجته فيهرع إلى القابلة فرغينسكايا ويقوم بعد مجيئها بممساعدتها وهو في غاية السعادة ويحلم بحياة عمل وكسب مشروع جديدة مع زوجته وطفلها. وفي الصباح يمر عليه ايركيل فيتجهان معاً إلى حديقة عائلة ستافروغين وهناك كان في انتظاره بيوتر وفرغنسكي وليبوتين وليامشين وكولكاتشينكو وشيغاليوف، الذي فجأة قرر أن يمتنع امتناعاً مطلقاً عن المشاركة في الجريمة لأن ذلك يتناقض مع برنامجه. ثم يهجمون على شاتوف فقام بيوتر بإطلاق النار عليه من مسدسه وأرداه قتيلاً. ثم ربطوه بحجرين كبيرين وألقوا به في البركة. وما أن تم الأمر حتى هرع بيوتر إلى كيريلوف فيجده ساخطاً ولكنه رغم ذلك يفي بوعده، فيكتب بخط بيده ما يمليه عليه بيوتر. وفي ذلك يحمل كيريلوف نفسه جريمة قتل شاتوف. ثم عقب ذلك يطلق النار على نفسه.
وبعد ذلك يجمع بيوتر أغراضه ويسافر هارباً إلى بطرسبورغ ثم يتجه من هناك إلى خارج البلاد. أما والده ستيبان فرخوفنسكي فإنه بعد انطلاقته في جولته الأخيرة بعيدأ عن المدينة ذوأهلها يمرض في الطريق ويموت في منزل أحد الفلاحين بين يدي بربارة ستافروغينا. وقبيل وفاته قرأت رفيقة درب عابرة قص عليها سيرة حياته مقتطفات من الإنجيل ثم طلب منها أن تقرأ له تلك الصفحة عن الخنازير من إنجيل لوقا التي تتصدر الرواية "... وكان هناك قطيع كبير من الخنازير يرعى في الجبل، فتضرعت الشياطين إلى يسوع أن تدخل في الخنازير، فأذن لها وخرجت من ذلك الإنسان ودخلت في الخنازير. فاندفع القطيع من أعلى الجرف إلى البحيرة وغرق فيها. فلما رأى رعاة القطيع ما حدث هربوا ونشروا النبأ في المدينة وفي القرى. فخرج الناس ليروا ما جرى، فلما وصلوا إلى قرب يسوع وجدوا الإنسان الذي كانت الشياطين قد خرجت منه . وجدوه لابساً ثيابه، مالكاً عقله، جالساً عند قدمي يسوع. وروى لهم شهود عيان كيف خلص المجنون...". وأخيراً آمن ستيفان فرخوفنسكي بالله قائلاً" يا أصدقائي، إن الله ضرورة لي، لأنه الموجود الوحيد، الذي يمكن أن يحبه المرء حباً ابدياً".
وسرعان ما تم القبض على جميع المشاركين في الجريمة باستثناء بيوتر. وتحصل داريا شاتوفا من ليامشين على رسالة ستافروغين، الذي يدعوها معه إلى سويسرا حيث اقتنى منزلاً صغيراً في كانتون أوري للعيش هناك إلى الأبد. وتعطي هذه الرسالة – الاعتراف إلى بربارة. وبعد قليل علمت كلتاهما أن ستافروغين ظهر فجأة في سكفوروشنيكي فهرعا إلى هناك حيث وجدتاه منتحراً. وفي الفصل الأخير"عند تيخون"، الذي جرى إرجاعه إلى الرواية في عام 1926 كملحق، يذهب ستافروغين بناء على نصيحة شاتوف إلى الدير المحلي لمقابلة المرشد الروحي تيخون للاعتراف والحصول على الاستشارة اللازمة والمساعدة الممكنة حيث لاتزال تلاحقه منذ وقت طويل صورة الفتاة الصغيرة ماتريوشا، التي أغواها حين كان يقيم في بطرسبورغ، مما أدى إلى انتحارها. ولكن تيخون بعد أن قرأ الاعتراف أدرك أنه ليس بوسعه الشهادة على توبة ستافروغين وأن قرار هذا الشاب بنشره أي الاعتراف بجريمته علناً ليس أكثر من تحد للمجتمع ومحاولة أخرى للإعلاء من شأنه. ويدرك تيخون أن" العمل الأرثوذكسي" وحده يمكن أن يساعد شخصاً مثل ستافروغين على التوبة الحقيقية. والمقصود هنا العمل الطويل والشاق لتهذيب النفس. وإذا كان الأمر" على الفور" كما يريد ستافروغين فعندئذ، حسب اعتقاد تيخون، بدلاً من العمل الإلهي سيتم أمر شيطاني. أما ستافروغين فإنه يرفض نصائح تيخون ويتركه وهو في حالة من الغضب والاستياء.
في"الشياطين" يتابع دوستويفسكي بعد روايتي "الجريمة والعقاب" و"الأبله" تطويره للجنس الأدبي الجديد – الرواية المأساوية حيث يصل بهذا الجنس الأدبي إلى حد الكمال. وتعكس الرواية بعض الشيء تجربة الكاتب الشخصية. فالمعروف أنه كان ينتمي في الأربعينات إلى حلقة بتروشيفسكي الاشتراكية وحكم عليه لهذا السبب بالإعدام ثم استبدل في اللحظة الاخيرة بالأشغال الشاقة.
تمثل رواية"الشياطين" عرضاً إخبارياً يسرده قاص شاهد على الأحداث وأحياناً مشارك فيها. إنه أنطون لافرنتيفتش غ-ف (غالباً ما يطلق على هذا القاص في علم النقد الأدبي تسمية المؤرخ). ويحاول المؤرخ أن يسجل باسهاب وموضوعية في أكثر الأحيان الأحداث، التي وقعت في المدينة خلال شهري أيلول/سبتمبر وتشرين1/أكتوبر من عام واحد. ولتوضيح ما حدث يتعمق المؤرخ في السير الذاتية لشخصيات الرواية على مدار العشرين عاماً الماضية ويكمل السرد بالحقائق التي اكتشفها بعد الخاتمة.
يتطرق دوستويفسكي في هذه الرواية إلى طائفة واسعة من المشاكل المتعلقة بالحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في روسيا خلال عهد القيصر المحرر والمصلح ألكسندر الثاني. وتجلت المهمة الرئيسية للكاتب في نقد المجتمع الروسي المعاصر له(العقد السابع من القرن 19) حيث يعبر عن استيائه الشديد من الانتشار الواسع للأفكار الاشتراكية والنزعات النهلستية في البلد. وفي مركز الرواية مسألة استمرارية أفكار الليبراليين المتأثرين بالغرب من جيل الأربعينات من أمثال غرتسن وبيلنسكي وتورغينيف مع الثوريين الشباب النهلستيين(نيتشايف). ويرى دوستويفسكي أن هؤلاء الكتاب المذكورين هم الآباء المباشرون لنتشايف وجماعته. وعلى هذا النحو يحدد الكاتب الأساس الإيديولوجي للرواية. وهو يعكس الأزمة الروحية للمجتمع عبر مصير بعض الشخصيات. وهذا يتعلق في المقام الأول بستافروغين وشاتوف وكيريلوف وستيبان فرخوفنسكي حيث أن كل واحد منهم يسعى إلى إيجاد مخرج نحو البعث الشخصي والاجتماعي، ولكن تطلعاتهم في بناء حياتهم تصاب بالفشل. ويرتبط هلاك المجتمع ارتباطاً وثيقاً بعمليات التفكك، التي يشهدها حيث يتضح أن الأبطال في الرواية ليسوا قادرين على التوحد. فإن كل واحد منهم مصاب بمرض الهوى والعبث والتصرف الارتجالي. فبدلاً من التفاهم والحب يسعى الأبطال، قبل كل شيء، إلى إخضاع العالم لإرادتهم وسلطتهم.
ففي عالم الرواية تجد الناس، في أغلب الاحيان، غرباء عن بعضهم البعض. ويصبح الآخر بالنسبة لهم موضوع تجربة إيديولوجية أو سياسية ووسيلة لتحقيق خططهم الخاصة. وإن الأمراض النفسية للمجتمع، التي يظهرها الكاتب ناجمة، حسب اعتقاده، عن عدم وجود مثل عليا إذ لن يؤدي التقدم التقني ولا التعليم ولا محاولات القضاء على التناقضات الاجتماعية بالوسائل السياسية إلى النجاح حتى يتم العثور على مبادئ توجيهية مشتركة. وتكمن أسباب الوضع المأساوي للمجتمع الروسي في غياب أي شيء عظيم أي عدم وجود الروابط الروحية والأسس الأخلاقية السامية.
يمكن توضيح كافة سمات بنية وتقنية روايات دوستويفسكي بمبدأ التعبير الفني. فإن رواية "الشياطين" ليست وصفاً للمدينة وليست تصويراً للحياة اليومية، إذ أن الجزء الوصفي للبيئة المحلية لا يهمه. فهو مؤرخ للأحداث غير المتوقعة والمدهشة وهو لا يعرف سوى الإنسان وعالمه ومصيره. فشخصية البطل الرئيسي هي محور العمل الفني، إذ تتوزع بقية الشخصيات حولها. ويتم بناء الحبكة. ففي وسط "الجريمة والعقاب" يقف راسكولنيكوف وفي وسط"الأبله" يقف الأمير ميشكين. والأمر نفسه بالنسبة لستافروغين في"الشياطين". وبالفعل فإن الرواية بمجملها حول مصير ستافروغين وحده، كل شيء منه وكل شيء له. فإننا نجد مقدمة الرواية مكرسة لسيرة حياة ستيبان فرخوفنسكي المربي والأب الروحي للبطل. فالجذور الروحية لهذا الملحد من جيل الستينات تغوص في أحلام الأربعينات من القرن 19. ولذلك تم إدراج فرخوفنسكي في سيرة حياة ستافروغين حيث أن والدته الجنرالة بربارة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بصداقة متينة استمرت 20 عاماً مع هذا المثقف المثالي الحالم، الذي عاش طيلة هذه السنوات عالة عليها. ويشير الكاتب السوفيتي ميخائيل بولغاكوف بهذا الصدد قائلاً" مما لا شك فيه أن ستافروغين هو بطل الرواية الرئيسي. فمنه تأتي كافة أفكارها ولكنه في الواقع ليس موجوداً. وإن عدم وجوده يشكل القوة المحركة للحبكة الروائية والتطور الفكري للعمل الأدبي. وهنا يكمن سر فقدان ستافروغين الكامل لشخصيته". وهو بالتالي خادم للمسيح الدجال. ويؤكد صحة هذا المفهوم ستافروغين نفسه في اعترافه للمرشد الروحي تيخون حيث يقول له أنه يؤمن بوجود شيطان شخصي. ويرى العديد من الباحثين المختصين في أدب دوستويفسكي أن ستافروغين يمثل جميع أبطال الرواية الآخرين كحاملين لشتى أفكاره وصفاته أي أنهم مرآة له وتجسيد مكرر أو كوظائف تتيح تقديم تفاصيل أكثر عن البطل الرئيسي. ومن هؤلاء الكاتب والمفكر المهاجر نيكولاي برديايف، الذي يعتقد أن دوستويفسكي مغرم على نحو رومانسي بستافروغين ويشير إلى أنه في هذه المأساة الرمزية ثمة شخصية واحدة فقط وهي نيكولاي ستافروغين وانبعاثه.
في الرواية يصبح موضوع الموت أحد المواضيع الرئيسية في حبكة العمل حيث يموت تقريباً جميع الشخصيات البارزة : شاتوف وكيريلوف وليزا وستيبان فرخوفنسكي و ماريا العرجاء وشقيقها الكابتن ليبيادكين وزوجة شاتوف (ماريا أغناتفنا) وفدكا المحكوم بالأشغال الشاقة وستافروغين. وهكذا فإن الموت يصبح سيد الموقف في عالم الرواية. الغموض هو الأسلوب المفضل لدى دوستويفسكي. وإن توضيح لغز ما يجر وراءه في العادة لغزاً آخر. وتؤدي التوضيحات المتواصلة إلى مزيد من اللبس. فإننا نغرق في شبكة معقدة من الأحداث ونصبح دون قصد محققين ورجال مباحث جنائية. ففي الفصل الثاني نرى أن مجمل تصرفات بيوتر فرخوفنسكي مربكة ومحيّرة لغرابتها وقابليتها لعدة تفاسير. وفي البداية يخيم ظل هذا الكائن المبهم، الذي لا يُعرف أوله من آخره، على محيطه القريب وبعد ذلك على التنظيم السري ثم على المدينة برمتها. وفي هذا السياق كتب دوستويفسكي في مسودته حول لهجة السرد الخاصة"... ينبغي وصف ستافروغين كشخص غامض ورومانسي، فإن الشخصيات الرئيسية محاطة بالغموض إذ أن ملامحها غير واضحة ولا يمكن تمييزها. وهذا يضفي على "الشياطين" قوة تعبيرية خاصة ومرعبة. ولا يمكن شرح وتصوير روح الإنكار والتدمير حتى النهاية". وتكمن مهارة دوستويفسكي في تدرج الظلال وتباين الضوء والإضاءة المزدوجة.
إن الأغلبية العظمى من شخصيات الرواية لها نماذج أصلية لاشخاص واقعيين من أعضاء تنظيم " انتقام الشعب" (بما في ذلك زعيمه سيرغي نيتشايف الذي يمثله في الرواية بيوتر فرخوفنسكي) وكذلك من حلقة بتروشيفسكي الاشتراكية التي كان يرتادها الكاتب نفسه خلال الأعوام 1847-1849،. أما نيكولاي ستافروغين فإن نموذجه الأصلي هو نيكولاي سبيشنيوف زعيم حلقة "دوروف" السياسية وواضع نظامها الداخلي. يذكرنا عالم المدينة، التي تجري فيها الأحداث، بعالم مسرحية غوغول"المفتش العام" وروايته" النفوس الميتة" وكذلك "قصة إحدى المدن" لسالتيكوف- شدرين. والمعروف أن المدينة المقصودة في "الشياطين" هي تفير الواقعة بين العاصمتين الروسيتين موسكو وبطرسبورغ، والتي عاش فيها الكاتب ردحاً من الزمن بعد النفي (1859). ومما لا شك فيه أن "قصة بيلكين" لبوشكين تركت أيضاً تأثيرها على كتابة "الشياطين".
استطاع دستويفسكي من خلال "الشياطبن، كنا هو الحال في الروايات الأخرى، أن يغوص في خبايا النفس البشرية ويصف تحولاتها ما بين التطلع نحو الفضيلة والسقوط في الرذيلة وبين الإيمان والإلحاد وذلك بأسلوب أدبي ساخر يجذب القراء. وفي الوقت نفسه تكشف الرواية عن الرؤى المخيفة للنهلستية (العدمية) التي يمكن أن تؤدي إلى كارثة ليس فقط من وجهة النظر الجماعية فحسب، بل من الجانب الفردي كذلك. ويحلل طبيعة الشخصيات النهلستية عبر الكشف عن نواياها ورغباتها في إصلاح روسيا والأخذ بيد الشعب الروسي بمسار جديد. ولكن هؤلاء الابطال يخلطون، في أغلب الأحيان، بين مصالح روسيا واحتياجاتها الفعلية وبين رغباتهم الفردية.
تحتوي هذه الرواية ، شأنها شأن بقية روايات دوستويفسكي، على مستويات عميقة من الجوانب النفسانية. كما أن فلسفات شخصياتها غالياً ما تكون معقدة. ولا يقدم المؤلف أي توصيفات واضحة في تصويره لوجهة نظر كل فرد إزاء العالم. كما ان "الشياطين" تضم أعظم ابداعات دوستويفسكي في التوصيف ويتجلى ذلك في المتناقضات حيث سيلاحظ القارئ التناقض الصارخ، في معظم الحالات، بين أقول الشخصيات وسلوكياتهم ووجهات نظرهم. فعلى سبيل المثال يجد ستافروغين متعة فائقة في التسبب بمعاناة الآخرين ولا يميز بين الخير والشر. ولكنه يسوق في "الاعتراف" طائفة كاملة من الجرائم والأعمال البشعة، التي ارتكبها أثناء إقامته في العاصمة الروسية بطرسبورغ. وهو، مع ذلك" يعذب نفسه بعد ما اقترفت يداه هذه الأعمال والامور المروِعة.
بعد صدور الرواية اتهم النقاد والكتاب الديمقراطيون دوستويفسكي بالتخلي عن قناعاته ومعتقداته السابقة وتشويه جوهر"قضية نيتشايف". وقد تأسف سالتيكوف- شدرين على"الاستهزاء الرخيص بما يسمى النهلستية" من قبل دوستويفسكي. اما الفيلسوف فلاديمير سولفيوف فقد أعلن أن الرواية ستحصل على التقييم الصحيح والموضوعي في المستقبل البعيد فقط. وكان مكسيم غوركي من أشد أعداء هذه الرواية، التي اعتبرها رجعية ومؤذية اجتماعياً. وبذلك أنشأ التقليد السوفيتي لتقييمها. كما طلب في عام 1913 منع إخراج المسرحية المستوحاة من "الشياطين" على خشبة مسرح موسكو الفني مشيراً إلى ان المؤلف عبقري شرير وأكد أن روايته واحدة من "البقع المظلمة لكراهية الإنسان الحاقدة على خلفية الأدب الروسي المشرقة". ومن جهة أخرى أعلن النقاد والكتاب الرمزيون والوجوديون أن"الشياطين" كتاب تنبؤي. وقد أشار بيرديايف في عام 1918 إلى أن دوستويفسكي"رأى ببصيرته الروحية أن الثورة الروسية ستكون على هذا النحو تماماً ولا يمكن أن تكون على خلاف ذلك. لقد توقع حتمية الطابع الشيطاني للثورة حيث أن العدمية التي تعمل ضمن العفوية الروسية لا بد أن تصبح جنوناً مسعوراً وزوبعة جامحة. وهذه الزوبعة الموصوفة في "الشياطين"، التي تحدث في مدينة صغيرة، نجدها الآن في الواقع تحدث في جميع أنحاء الأراضي الروسية الشاسعة".
ومع ذلك فقبل استيلاء لينين وجماعته على السلطة في أكتوبر عام 1917 كان يُنظر إلى "الشياطين" من قبل العديد من الشخصيات العامة والعناصر الثورية على أن أن الرواية مجرد سخرية خبيثة من حركة التحرير الروسية. ولكن الأزمنة تبدلت بعد عقود طويلة. فالآن أصبح واضحاً لأغلبية الناس أن "الشياطين" عمل نبوئي أكثر بكثير من كونه عملاً ساخراً خبيثاً. فإن حديث نيتشايف عن تحطيم الإيمان والأديان وإغلاق الأديرة باعتبارها مجرد بؤر للكسل والفجور، وتحرير المرأة من عبودية الزواج، وتربية الدولة للأطفال، وإلغاء الوراثة، يرسم صورة للإنسان عديم الشعور بالقرابة والصداقة والحب والامتنان والشرف، وكل ما في داخله تسحقه العاطفة الباردة للثوري والاستعداد للموت من أجل افكاره وتدمير كل من يقف في طريقه.
لقد كان لدى دوستويفسكي شعور مسبق بأن" الشياطين" الثوريين سيجلبون الكثير من المشاكل والمحن لروسيا والعالم أجمع بأسره. وقد أكدت أحداث القرن 20 ولا سيما النصف الأول منه أسوأ مخاوفه. فإنه توقع الكثير من الأمور في هذه الرواية بدقة مذهلة. ففي هذا العمل الأدبي نجد تخميناً لكافة الأمور الفظيعة ، التي شهدتها روسيا في القرن الفائت. ولكن أُسيء فهمها تقريباً ليس فقط لدى صدورها وإنما أيضاً في غضون عشرات السنوات اللاحقة. فالنقاد المعاصرين لدوستويفسكي وصفوها بأنها" هراء" و"افتراء". وعلى سبيل المثال أشار تورغينيف إلى"ان تهجمات دوستويفسكي على الثوريين سيئة. فهو يحكم عليهم بطريقة ما من خلال مظهرهم دون أن يدخل في أمزجتهم.
في مطلع القرن العشرين اهتم الكتاب الرمزيون والباحثون الدينيون بروسيا اهتماماً بالغاً في الأفكار الدينية الفلسفية لرواية "الشياطين" ومنهم ضمنهم فيتشسلاف إيفانوف وليف شيستوف ودمتري ميريجكوفسكي وغيرهم من دعاة"المسيحية الجديدة مثل سيرغي بولغاكوف ونيكولاي برديايف وفاسيلي روزانوف. وقد اعتبروا أنفسهم ورثة دوستويفسكي. وكانت مؤلفاته بالنسبة لهم مرحلة مفصلية ونقطة تحول من الماركسية إلى المثالية. كما أنهم رأوا في مؤلف"الشياطين " وعياً دينياً جديداً" وعهداً ثالثاً بعد العهدين القديم والجديد و"بعداً ثانياً للفكر".
وقد أشار ميريجكوفسكي في كتابه" تولستوي ودوستويفسكي" إلى أن مؤلف"الشياطين" كاتب واقعي عظيم ولكنه" في الوقت نفسه" متصوف عظيم. أما برديايف فإنه أعلن عن وجود حكمة ونبوءة في اللوحة التي تكشفها رواية "الشياطين" وأضاف قائلاً" والآن بعد تجربة الثورة البلشفية ينبغي حتى على أعداء دوستويفسكي الاعتراف بأن"الشياطين كتاب تنبؤي بامتياز. فقد رأي ببصيرته الروحية أنها ستكون على هذا الأمر بالذات وليس على نحو آخر" وأكد الكاتب والمفكر المهاجر للمرة الأولى أن الموضوع المسيحي هو أساس عقيدة دوستويفسكي حيث أن إيمانه بالمسيح مرّ عبر محنة شكوك فظيعة وقوي في أتونها".
وهكذا فقد اعترف القرن العشرون بالدقة الخارقة لتشخيصات وتنبؤات دوستويفسكي واعتبر الكتاب المذكورون آنفاً أن "الشياطين" مأساة رمزية روسية حيث أكد سيرغي بولغاكوف"أن
لهذه الرواية المأساة ليس فقط أهمية سياسية مؤقته وعابرة، بل إنها تضم نواة الحياة الخالدة وشعاع الحقيقة غير المتلاشية. فالمآسي العظيمة والأصيلة تتخذ ايضاً لنفسها صيغة نابعة من بيئة محدودة تاريخياً وحقبة معينة".
والمعروف أن الناقد والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أعجب إعجاباً كبيرأ بهذه الرواية وقام بتحليل مفصل لها حيث أولى اهتماماً نقدياً خاصاً بشخصية كيريلوف. كما كتب بأن دوستويفسكي عالم النفس الوحيد الذي تعلم منه شيئاً وكان يعدّه من أفضل من حدث في حياته بوجه عام. وفي عام 1959حول الكاتب الفنرنسي ألبير كامو الرواية إلى مسرحية. كما أخرجت عدة أفلام مستوحاة من"الشياطين" في المانيا وإيطاليا والمكسيك وبولندا وروسيا. وأطلق على هذا العمل الأدبي الكبير تسمية"الرواية النبوءة".
من خلال اطلاعه الواسع والعميق على برامج وممارسات الحركات العدمية والثورية في روسيا كان دوستويفسكي يشعر بقلق بالغ على مصير البلد حيث قام في "الشياطين" بتحليل ثاقب للوضع السياسي والاجتماعي والروحي بروسيا في عصره. وفي مطلع القرن العشرين تجسدت الأفكار والمواقف العدمية والثورية الراديكالية في المقام الأول في سياسة البلاشفة وممارساتهم حيث تحولت الماركسية عندهم عبر التطبيق المشوه إلى مشرّع وقاضٍ ومنفذ للحكم يسعى لإبادة الطبقة المدانة ويرفع نظرياً من شأن الطبقة المقهورة التي "تمتلك الأهلية" لقيادة المجتمع. وعلى العموم فإن الماركسية في القرن الماضي صارت، حسب تقدير العديد من النقاد والمؤرخين الروس والأجانب، عبادة مقدسة تمهد الطريق إلى حياة النعيم في الفردوس الارضي دون أن تأخذ بعين الاعتبار أرواح الملايين التي تزهق خلال هذه الرحلة قبل أن يبلغ الإنسان عتبة السعادة الموهومة. ويبدو ، للأسف الشديد، أن العالم لم يدرك في حينه بعد الثورة البلشفية الخطر الفظيع لأفكار وممارسات الحزب الثوري الوحيد المشبع بالعدمية الروسية والبعيد كل البعد عن الواقع المعاش، والذي مافتئ يردد باستمرار الشعارات الرومانسية والرنانة حول الطبقة العاملة والثورة والمستقبل المشرق والفردوس الأرضي، ثم انتهى به الأمر إلى إراقة دماء ملايين البشر أثناء الحرب الأهلية وما بعدها وضمن ضحايا هذه السلطة قسم كبير من زعماء وجماهير الحزب الحاكم نفسه. ويرجع ذلك، إلى التعصب الفائق واعتماد الديماغوجية والابتعاد المطلق عن الدين والقانون وكبت الحريات وتدنيس حقوق الإنسان.
1161 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع