هيفاء زنگنة
في الغزو الأمريكي للعراق كانت مفردة “المقاومة” ممنوعة
هل نقول شكرا لبوتين لأنه جراء غزوه لأوكرانيا، أيقظ العالم ربما للحظات، على مآس تُسّطرتها آلة الناتو، بقيادة أمريكا، الواحدة تلو الأخرى، من غزو وإحتلال وتغيير أنظمة، وكأن التاريخ يكرر نفسه لا لشيء إلا لأنه يكرر نفسه أو ربما لأن العالم لا يتعلم؟
هل ما يتم تداوله، الآن، بغضب وألم يماثل آلام من تلقى ضربة قوية على رأسه، جديد؟ أعني التصريحات العنصرية، من معلقين وصحافيين، يرون في غزو أوكرانيا وتهجير أهلها موقفا غير حضاري لأن الأوكرانيين ليسوا مثل العراقيين والأفغان وعموم سكان الشرق الأوسط، لأنهم من جنس ” منا” وليسوا من ذلك الجنس غير الحضاري ” منهم”؟ لأنهم من مواطني العالم الأول وليسوا من العالم الثالث؟
هل طفت التعليقات العنصرية في لحظات تأثر إنساني بما يجري في أوكرانيا حقا أم أنها العنصرية المستدامة، مثل فايروس يستوطن الجسد، قد يركن للسبات حينا إلا انه سرعان ما يعود إلى الظهور بقوة حين تكون الظروف ملائمة؟
إن جذور العنصرية حية على الرغم من قدمها والادعاءات التي يتم تسويقها بأنها على وشك الانقراض. ويكفينا إلقاء نظرة واحدة على موقف العالم ” الحضاري” من الشعب الفلسطيني، وكيف أنه يمد المستعمر الصهيوني الاستيطاني بمليارات الدولارات شهريا ليواصل إبادة الشعب الفلسطيني باسم حق إسرائيل في الوجود ومواجهة الإرهاب الفلسطيني، لندرك أن كل ما حدث، في العقود الأخيرة، هو منح العنصرية أسماء جديدة وتعليبا مغايرا يبيعها بشكل ” إنساني”. ربما ما نحتاجه الآن للتعرف على وجه العنصرية – الحضاري” الأبيض”، العاري الآن، العودة إلى حقبة استعمار الجزائر وأفريقيا، والنظر أبعد من السطح الإعلامي الذي يحجب الرؤية، وقراءة كتابات المفكر فرانز فانون، المعروف بنضاله من أجل الحرية ومناهضة الاستعمار والعنصرية. كما سيساعدنا تذكر (إن حدث ونسينا) تفاصيل غزو واحتلال العراق من قبل ذات التحالف الأمريكي البريطاني – الدولي، الذي يتباكى حاليا على غزو أوكرانيا.
لاحظت وأنا اتابع البث المباشر لما يجري في أوكرانيا، محاولة القنوات الغربية نقل عدة أحداث في آن واحد من خلال تقسيم الشاشة إلى أربعة أقسام. يبين أحدها حجم الخراب الذي يسببه القصف الروسي والثاني هرب السكان مع إبراز صور النساء والأطفال خاصة، والثالث تصريحات الرئيس الاوكراني البطولية. والرابع مكرس لشباب وصبيان يتدربون على السلاح تحت عنوان ” المقاومة”. أعادني هذا التدريب على السلاح وبضمنه تصنيع قنابل المولوتوف الحارقة بعنوان المقاومة، إلى الاعوام التالية للغزو الأمريكي للعراق وكيف طُلب مني، حين كنت أكتب لصحيفة “الغارديان” البريطانية، كتابة رأي لصحيفة ” لوس أنجلوس تايمز” الأمريكية، عن الوضع في العراق، فعلمت بأن إدارة الصحيفة كانت قد أصدرت توجيها داخليا لكل الصحافيين بعدم استخدام مفردة ” المقاومة” عند وصف مقاومة العراقيين للاحتلال الأمريكي بل: “تمرد” أو ” عصيان” أو ” إرهاب”. بررت الصحيفة موقفها بأن مفردة المقاومة مرتبطة في أذهان الناس بمقاومة الشعب الفرنسي للغزو النازي وهي مفردة إيجابية، وهذا ما لا يراد بالنسبة الى العراق. وتحدث الإعلامي والكاتب التروتسكي المعروف كريستوفر هتشنغ عن شعوره بالغثيان عند استخدام البعض” المصطلح الوصفي “المقاومة العراقية” لوصف المسؤولين عن مهاجمة القوات الأمريكية… لأن العديد من أولئك الذين يقاتلون هم إما جزء من الشرطة السرية السابقة للنظام أو تم استيرادهم من الجماعات الجهادية خارج البلاد”!
أما في المقابلات التلفزيونية الأمريكية والبريطانية، فإن أي ذكر لأسباب الغزو الحقيقية، وأي إشارة إلى تصنيع الأكاذيب المبررة للغزو كأسلحة الدمار الشامل، والتشكيك بوجود علاقة بين النظام العراقي والقاعدة، كان غالبا ما يقود، أما إلى إنهاء المقابلة بشكل سريع أو مطالبتي بالجواب بصيغة نعم أو لا، أو وضعي في قفص الاتهام الجاهز كمساندة لنظام صدام حسين.
ولا تختلف التغطية الإعلامية الشاملة لصالح أمريكا ودول الناتو، هذه الأيام، عن التغطية التي تم تصنيعها قبل وأثناء وبعد غزو العراق عام 2003، مع فارق أساسي، وهو أن القوات الغازية لم تكن روسية بل أمريكية – بريطانية ومعها الأوكرانية. أيامها أُطلق على الغزو، وحملة” الصدمة والترويع”، وقصف البنية التحتية، وقتل المدنيين أسم يليق بحضارة الغزاة وهو ” عملية حرية العراق”.
وحين قاوم العراقيون الغزاة لم تُكتب المقالات، ولم تُعرض الأفلام الإنسانية المؤثرة عن استعداد وتهيئة الشباب وتدريبهم للانضمام الى المقاومة. لم تُنشر صورهم أو يُكتب عن حبهم للوطن ودفاعهم عنه. كانت معظم القصص المنشورة والمتلفزة عن شجاعة الجنود الأمريكيين والبريطانيين أثناء مواجهتهم ” الإرهابيين العراقيين”. ولم يتم ذلك اعتباطا بل جاء جراء تدريب مكثف لحوالي 600 صحافي وإعلامي، قامت وزارة الدفاع الامريكية بتدريبهم في برنامج خاص للتعايش، بشكل كامل، مع قوات كانت تتهيأ للقتال في العراق. حيث خلقت المعايشة حالة تماهي بين الجنود والصحافيين الذين سُمح لهم بالبقاء مع القوات اثناء الغزو الفعلي وفي المعسكرات داخل العراق، بعد أن وقع المراسلون عقدا ينص على “القواعد الأساسية”، أي السماح بمراجعة تقاريرهم من قبل المسؤولين العسكريين، وأن تتم مرافقتهم في جميع الأوقات من قبل عسكريين، والسماح بطردهم في أي وقت ولأي سبب. فكان من الطبيعي أن يقوم المراسل المتعايش مع القوات، بسرد قصة الحرب من وجهة نظر الجنود والتأكيد على النجاحات العسكرية وبطولات جنود الاحتلال، وليس على عواقب الغزو على الشعب العراقي. وقد بينت دراسة أجراها الأكاديمي الأمريكي أندرو لندنر عن السيطرة على الاعلام في العراق، أن رصد 742 مقالاً بقلم 156 صحافياً بينت أن 93 بالمئة من المقالات التي كتبها صحافيون متعايشون مع قوات الاحتلال استخدموا جنودا كمصادر لأخبارهم، بينما أشارت 12 في المائة فقط من المقالات إلى الخسائر البشرية التي سببتها الحرب على الشعب العراقي.
أن عملية خداع الجماهير التي هندّستها أمريكا ودول الناتو لأنجاح غزوها العراق، تلاقي هذه الأيام، وفي ذات الشهر، انعكاس صورتها في الغزو الروسي لأوكرانيا. وسترينا الأيام المقبلة، في خضم الاحداث المتسارعة، إذا كان الرئيس الأمريكي جو بايدن، سيقف كما وقف جورج بوش، على دماء الضحايا ليعلن الانتصار الأمريكي.
1322 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع